بقلم: مخلص برزق
هو يومُ راحتي الأسبوعي، ولأنَّه أيضاً يوم الحظر الصّحي الأسبوعي فذلك يضاعف رغبتي في البقاء في البيت والتّشاغل بأيّ شيء لا علاقة له بالأعمال التي اعتدت ممارستها في بقيّة أيّام الأسبوع الأخرى، ومن ذلك تفَقُّد ما غرسته في شرفة المنزل من نباتات، منها الياسمينة الشاميّة وزهرة الجاردينيا ونبتة العِطرة، ونبتة الفلفل العجوز الهرمة، ولشعوري بأنَّني قد جنيت عليهم مسبقاً بالحكم عليهم أن يتواجدوا تحت رحمة من لا خبرة له في الزّراعة، فإن جلّ ما أفعله معهم هو محاولة المحافظة عليهم ولو على حافة الحياة. فالموت يتربّص بهم بأشكال مختلفة، تارة على هيئة عناكب صغيرة جداً تهجم وبكلّ قسوة على أطراف البراعم الحديثة لتنسج عليها شباكها القاتلة، وتارة على هيئة فطريّات سوداء أو بيضاء لا تبقي ولا تذر، وتارة يأتيهم الموت في ثنايا عاصفة ثلجيّة باردة أو موجة حرٍّ حارقة، أو زيادة نسبة مياه الريّ أو نقصه. أحاول وأحاول، ولكنّ الموت كثيراً ما كان يسخر منّي ومن محاولاتي ويباغتني بالقضاء على غرساتٍ غرستها واعتنيت بها طويلاً ورسمت لها في مخيلتي صوراً ورديّة زاهية. وحسبي عزاءً في ذلك أنَّني بذلت شيئاً من الأسباب، وأنَّ الموت كأسٌ وكلّ النَّاس شاربه، والقبر بابٌ وكلّ النّاس داخله، فإن كان هذا حال النّاس مع الموت فكيف آسى على نباتاتٍ أو غيرها!
على غير العادة في أيّام راحتي تلك، انتفض هاتفي واهتزّ منذراً بسيلٍ من الرّسائل العاجلة، كانت كلّها تتمحور حول تفاصيل التّحرك مع جنازة ضحيةٍ لداء العصر “الكورونا”، لم تطل مدة إصابته به وفاضت روحه إلى بارئها، خرجت منِّي تنهيدة عفوية، فكيف لي أن أحظى بأجر المشاركة في يومٍ لا يُسمح فيه بالتَّحرك إلا لمن له إذنٌ خاص، لم يطل الأمر بي حتى وصلتني رسالة بوجود متَّسع لمن يرغب في المشاركة بالصّلاة والدّفن، تركت على الفور كل ما بيدي والتحقت بموكب الجنازة، فالأمر يتعلَّق بقيراطين من الأجر كما أخبر بذلك نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم بقوله: “من شهد الجنازة حتى يصلّي، فله قيراط، ومن شهد حتّى تدفن كان له قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين”. صحيح البخاري.
في محطتنا الأولى توقّفنا عند المغسلة التي تمّ فيها غسل الميِّت رحمه الله، تزامن وصولنا هناك مع إخراج النّعش ووضعه مؤقتاً على مصطبة للصّلاة عليه، ومن ثمَّ نقله إلى السيّارة الخاصة بالبلدية.
قبيل اصطفافنا بلحظات، اقترب من النّعش طفلٌ لا يتجاوز السَّابعة من عمره وأخذ يخاطبنا بتعجّبٍ واستغرابٍ متسائلاً: “هذا بابا.. مات صح؟ طلعوه أشوفه!” لم يجرؤ أحد منّا على أن ينبس بكلمة واحدة، ولمّا رأى الوجوم على وجوهنا تركنا وأخذ “يتنطنط” حول نعش والده ببراءة هيَّجت الدَّمع في مآقينا، فللموت رهبة تزداد حين ترقب بعينيك من لم يذق مرارته أويتجرّع غُصَصه، وهو لا يكاد يفهم كنهه أو يعرف معناه وتبعاته، تعاين تصرفاته بألمٍ وهو يقف وجهاً لوجه أمام مصيبة الموت. تمالكتُ نفسي وجفَّفتُ دمعي، غير أنَّ المشهد كان حاضراً لحظة أدَّينا صلاة الجنازة عليه، واستشعرت مدى حنان حبيبنا المصطفى صلّى الله عليه وسلّم لا يستثني الصِّغار الذين قد ننساهم في تلك اللحظات العصيبة. ففي الحديث الشّريف: صلَّى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم على جِنازةٍ فقال: “اللَّهمّ اغفر لحيِّنا وميِّتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذَكَرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللَّهمّ مَن أحييتَه منَّا فأحيِهِ علَى الإيمان، ومَن تَوفَّيتَه مِنَّا فتوفَّهُ على الإسلام، اللَّهُمَّ لا تحرِمنا أجرَه ولا تُضِلَّنا بعدَه”. صحيح أبي داود.
كان ذاك صغيرَنا الذي أبكتنا براءته، أمّا كبيرنا والد الفقيد الذي بلغ من الكبر عتيا فقد حرَّك كلّ مكامن الآلام في قلوبنا وأرواحنا حين تحامل على نفسه وبالكاد استطاع الوقوف مستنداً إلى شخصين ليخاطب ابنه بعد انتهائنا من إهالة التراب عليه.
وقف يناجيه باكياً ويخاطبه وكأنّهما وحدهما فقط في ذلك المكان ويقول له: يا ابني يا حبيبي إذا جاءك الملك يسألك عن ربِّك؛ فقل له: ربّي الله لا إله إلا هو، يا ابني يا حبيبي إن سألك عن نبيّك؛ فقل: محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
بكى وأبكى وهو يُظهر شفقةً ورحمةً على ابنه الرّاحل وقد توسَّد الثَّرى، وهو الذي سبق له أن ودّع ابناً له توفَّاه الله بحادث سير، وابناً آخر قضى نحبه غرقاً.
على شفير القبر انسابت موعظة رقيقة كانت وليدة وقتها عن الأعداد الكبيرة من أبناء فلسطين الذين احتضنتهم إسطنبول أحياء على ظهرها، أمواتاً في بطنها. لم نخطئ لهجة الأسى والتَّخوّف على أن يكون مصير كلّ من لجأ إليها كمحطة على طريق العودة إلى أرضنا المباركة هو البقاء الدّائم في قلبها. وتراءى لي وأنا أشعر بتسارع كبير في خفقات قلبي تعبيراً عن خوفي وخشيتي ألاّ أحظى بميزة الانغراس عميقاً في ثرى وطني وبلدي وأرضي المقدَّسة. ولا عجب، فحتَّى موسى عليه السَّلام ادّخر آخر دعوةٍ له في الدّنيا بسؤال ربِّه “أن يدنيه من الأرض المقدّسة رميةً بحجر”، وكان له ذلك.
لا عجب فقد سمعت بأذني عبارة “لو لم يكن لنا من حقّ العودة إلاّ أن نُدفَن في أرضنا المباركة لكفى”. إنَّها العبارة التي اتّخذتها شعاراً وأسمعتُها لأبنائي وأهلي وأحبابي، وواجهتُ بها كلّ دعيٍّ مفرِّط بأرضنا الطاهرة.
عبارة سمعتها من كثيرين حُرموا قسراً من العيش في كنفها، غادروها بأجسامهم، لكنّهم خلّفوا قلوبهم من ورائهم مدفونةً بأرضها، وتركوا أرواحهم تحلِّق في سمائها.
تنقَّلوا في بلدان عديدة وبقيت فلسطين وطنهم الأغلى والأوحد الذي يسكنهم بعد أن كانوا يسكنوه، بقيت فلسطين الجنَّة التي عاينوا أنهارها وأشجارها، وتنسّموا أريجها وعبيرها، فلم يجدوا لها مثيلاً، ولم يقبلوا عنها بديلاً. تراها في قسمات وجوههم، وتلمحها إذا تحرَّكت شفاههم، وتبصرها تتلألأ في حبّات دموعهم. ومن أولئك والدي الحبيب رحمه الله الذي عبَّر عن ذلك بقوله: برغميَ ذلك الوطنُ الذي قد كان يسكُنُني، برغميَ صار يَسكُنُني!
لَمْلمنا بقايا أرواحنا المتعبة، وودّعنا أصحاب القبور وفي النَّفس أنّنا قد نعود لزيارتهم قريباً، فالموت ما عاد زائراً موسمياً، فقد غدت أكثر لقاءاتنا الاجتماعيّة في المقابر ودور العزاء، بعد أن كانت في قاعات الأفراح التي أغلقت بسبب جائحة كورونا، ومع كثرة الذين يتخطَّفهم الموت من حولنا بتنا نخشى أن يكون هذا الصَّيف صيف الوداع للأصحاب والأحباب من كثرة ما تبعنا من جنائز، فحتّى صفحات مواقعنا الاجتماعية تحوّلت إلى نعوات ومنصات عزاء.
فوجئت لحظة خروجنا من بوّابة المقبرة بأنَّه كان يحدّها مباشرة حقلاً كبيراً للقمح، وعلمت حينها أنّني كنت في عالَمٍ آخر شغلني عن رؤية المناظر المحيطة بي، فطوال رحلتنا الطويلة التي قاربت الساعة والنّصف من مكان غسل الميِّت وتكفينه، حتى وصولنا إلى المقبرة التي دفن فيها، كانت أفكاري ومشاعري فيها مع الفقيد وابنه وأبيه والدّار التي سكنها وغادرها، والدار التي سيحلّ فيها.
تأمَّلتُ سنابل القمح الذهبيّة الصّفراء، الفاقع لونها وتسرّ النّاظرين، فتذكّرت على الفور آية سورة البقرة: ” مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم (261)”. وتفكّرتُ في العلاقة بين ساكني القبور وتلك السَّنابل المحيطة بهم، فتعجَّبت لتلك الموافقة الدَّقيقة التي جمعت بينهما في ذلك المكان، فقد قال الله تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} سورة المنافقون.
الآية تثير فضول كلّ متدبِّرٍ لآيات الله لمعرفة السَّبب في تخصيص الصّدقة تحديداً ضمن الأعمال التي يتمنَّى الميّت عودته إلى الحياة ليستزيد منها. ولست بصدد سرد الفضائل العظيمة للصّدقة فالأحاديث الشريفة ملأَى بالحثِّ الشَّديد عليها، والتي لأجلها يتحسَّر على تفويتها الموتى ويتمنَّون الرجوع إلى الدّنيا ولا رجوع.
وقفت طويلاً على شاطئ المقبرة النّائية أمام بحر السّنابل المتموِّج، أنظر إلى القبور وكأنّي أُبصر أصحابها تقيِّدهم أثقال الرِّمال من فوقهم، وشعرت بجموعهم ترقب معي ذلك المشهد من أعماق أجداثهم، وكأنّي بأحدهم يتمنَّى وهو في قبره أن تكون تلك السَّنابل القريبة منه محصول صدقةٍ جاريةٍ له، أو صدقةٍ أُوقِفَت له بعد موته.
استأخرني القوم وأنا أتأمّل تلك السَّنابل وألتقط لها الصُّور، فلوهلةٍ من الزّمن أنكرتُ جسدي وأعتقتُ روحي لتسري مع مشاهد تلك السَّنابل.