استطاعت وسائل التواصل الاجتماعي تقريب وجهات النظر في كثير من القضايا، بحيث أصبحت حقلًا يجود بكل نافع إذا أُحسن استخدامه، وبكل سيئ إذا أسيء استعماله، حتى أنه أضحى وسيلة فاعلة للتقريب بين أفراد المجتمع في كثير من الأحيان، إلا أنه أيضا أصبح ساحة لإفشاء أسرار الأسر وهدم كيانات اجتماعية تعتمد عليها بنية المجتمعات.. فالأسرة عماد المجتمع ونواته الصلبة، واللبنة الأساسية فيه، ولذلك عني الإسلام بها واهتم برعايتها رعاية كاملة، وبين أفضل الطرق والسبل لإقامتها على النهج القويم.
وقد أجمع علماء الاجتماع على أن الأسرة إذا قامت على أُسس ودعائم قوية، استقرت أحوال المجتمع، وتوطدت أركانه، فإذا وهنت قواعد الأسرة، ولم يتحقق لها أسباب القوة على اختلاف أشكالها، اضطربت حياة المجتمع واختل توازنه.. ولذا جاء الإسلام بالمبادئ والدعائم التي تنظّم الأسرة، وتنفي عنها شوائب الضَّعف والاضطراب، وتكفل لها حياة الاستقرار.
غير أن الأسرة في ظل الحضارة المادية المعاصرة فَقَدتِ القيم الإنسانية، وأمست العلاقة الزوجية علاقة نمطية غير وثيقة إلى حد كبير، فلم تعد الأسرة بيئة تفيض بمشاعر الحب والحنان والمودة والتآلف، قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
ومن أخطر ما يعتري الأسرة هو إفشاء أسرارها للجميع سواء من الزوج أو الزوجة مما يعد معول هدم قوي في جنباتها، لما يترتب عليه من عواقب وخيمة. ومن الملاحظ مؤخرا أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت ساحة لإفشاء الأسرار الأسرية حيث يعتبر هذا السلوك من أعظم أسباب تفكُّك الأسرة وضياعها.
صور من إفشاء أسرار الأسرة
إفشاء الأسرار أحد أخطر الأخطاء التي يقع فيها الزوج والزوجة، فأسرار البيت أمانة يجب على الطرفين المحافظة عليها، والتفريط بها يذهب بالثقة، فاحذروا أن تكون أسرار بيوتكم موضوعًا لثرثرتكم أو فضفضتكم؛ كما قد يخيل إليكم، ولا تظنوا أن أصدقائكم سيحفظون سركم الذي ضاقت به صدوركم، وصدق الشاعر حين قال:
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه فصدر الذي يستودع السر أضيق
وورد في مجلة الأسرة: “وفوق هذا وقبله فإن حفظ سر البيت مطلب شرعي نتعبد لله به، خصوصًا العلاقة الخاصة بين الزوجين.. فعن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده فقال: “لعل رجلاً يقول ما يفعله بأهله ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها” فأرم القوم – أي سكتوا ولم يجيبوا – فقالت: إي والله يا رسول الله، إنهن ليفعلن وإنهم ليفعلون. قال: [فلا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقى شيطانة فغشيها والناس ينظرون] (أخرجه أحمد).
- وأسرار البيت ليست على درجة واحدة من الأهمية، فهناك أسرار العلاقة الخاصة بين الزوجين وهذه يجب أن يحتفظ بها الزوجان في بئر عميق داخل نفسها.
- وهناك الأسرار المتعلقة بالخلافات بين الزوجين، وهذه تقدر بقدرها، ولا تنقل مثل هذه المشاكل إلا ما يعالج المشكلة خاصة لأصحاب العقل والرأى، وليس على وسائل التواصل الاجتماعي أو الأصدقاء أو غيرهم. ويجب ألا يحدث ذلك بمجرد حدوث المشكلة مع كل صغيرة وكبيرة، فما أكثر المشكلات التي لا تحتاج إلى تدخل من أحد بل مجرد حنكة وصبر في الطرفين.
- وهناك الأسرار المتعلقة بخصوصيات البيت كالأمور المادية والمعيشية وغيرها، وهذه أيضًا لا يجوز نشرها حتى لا تصبح الأسرة كتابًا مكشوفًا أمام الآخرين.. قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] قال بعض المفسرين عن هذه الخيانة: إن امرأة نوح كانت تكشف سره فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، أما امرأة لوط فكانت إذا استضاف لوط أحدًا أخبرت أهل المدينة ممن يعملون السوء حتى يأتوا ويفعلوا بهم الفاحشة.
- في حال كان أحد الزوجين يملك عيباً خلقياً أو مرضاً عضوياً = فمن المهم أن يكون الزوجان قادرين على حفظ الأسرار الشخصية مثل المرض.
- أسرار الأهل: عندما يتم الزواج يكون الزوج قد عرف جميع أسرار عائلة زوجته والعكس صحيح؛ لذلك لا يجب على أي من الزوجين إفشاء أسرار العائلة والتكلم عنها لأي شخص.
أسباب إفشاء الأسرار
تختلف أسباب إفشاء الأسرار باختلاف التربية التي نشأ عليها كل فرد من الزوجين في أسرته وحياته، غير أن النفسيين وضعوا بعض الأسباب الأخرى، مثل:
- التنافر بالطباع بين الزوجين.
- قلة العقل والدين، فالعقل السليم يمنع الإنسان من التحدث عن أي حديث يجلب له الضرر، ولا دين يردعه عن كل قول وفعل لا يرضاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
- فارق العمر بين الزوجين: قد يكون فارق العمر سببًا في إفشاء أسرار البيت من قبل أحد الزوجين وذلك بسبب غياب حالة التفاهم.
- تراكم الخلافات الزوجية دون إيجاد حل لها.
- تدخل الأهل المبالغ فيه.
- الإهمال من قبل أحد الزوجين.
- الزواج التقليدي دون تفاهم.
أهمية الحفاظ على أسرار البيوت
حذر الشرع الحنيف من هدم أركان الأسرة بإفشاء أسرارها، فذكر مركز الأزهر للفتوى في هذا الصدد أن نقل أسرار العلاقة الزوجية وأسرار البيت خارج نطاق الأسرة الزوجية يؤدي إلىٰ العداوة والبغضاء بين الزوجين، و يذهب بما بقي من أواصر المحبة بينهما.
ولقد حذر النبي ﷺ تحذيرًا شديدًا من إفشاء السر بين الزوجين؛ فعن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَىٰ امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» أخرجه مسلم.
ويقول سامي بلال: الحفاظ على أسرار البيت يقوي العلاقة الزوجية ويجعلها متينة وقادرة على مواجهة ظروف الحياة لذلك سوف نوضح بعض النقاط عن أهمية الحفاظ على أسرار البيت:
- الحفاظ على أسرار البيت يعزز الثقة بين الزوجين ويمنعهما من التفكير بإخفاء أي شيء عن بعضهما البعض.
- يزرع الاحترام بين الزوجين ويعزز الصراحة بينهما وبالتالي يصبح كلا من الزوجين على ثقة أن الطرف الآخر قادر على تحمل مسؤولية الزواج.
- الحفاظ على أسرار البيت يحافظ على استقرار البيت وذلك لأنه يمنع تدخل أي طرف من الأهل أو الأصدقاء وبالتالي يصغر حجم المشاكل.
- الحفاظ على أسرار البيت يؤثر في تربية الأطفال حيث إنه يعلّم الأطفال مبادئ وقيمًا أخلاقية تجعل شخصية الطفل تنمو بشكل صحيح ومتوازن بعيداً عن النزاعات الزوجية وبالتالي تجعله صديقاً محبوباً وقادراً على تكوين صداقات حقيقية من حوله.
- بالإضافة إلى نظرة الاحترام العامة من المجتمع إلى العائلة المتماسكة التي تحفظ أسرارها مما يجعل هذين الزوجين أهلًا للصداقة الجيدة من المحيط.
خطر إفشاء أسرار البيوت على السوشيال ميديا
إفشاء أسرار البيوت وأسرار العلاقات الزوجية على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها بأي شكل أو طريقة له آثار سلبية، بل كارثية على استقرار الأسرة، فقد يترتب على هذا الأمر:
- فقدان الرغبة بالحوار بين الزوجين لخوف بعضهما البعض من الآخر من أن ينشر ما قاله أو يستغله ضد وقت الأزمات بينهم، مما تؤدي في نهاية المطاف إلى البرود في العلاقة الزوجية وعدم التفاهم.
- خلل في العلاقة الزوجية والفتور بين الطرفين، مما يجعل الحياة روتينية.
- فقدان الثقة بين الزوجين مما يدفعهما للصمت دائما وعدم الحديث فيما بينهما مما يحول الحياة لجحيم.
- ظهور ذلك على الأولاد الموجودين في البيت مما يؤثر عليهم بالسلب في نظرتهم للحياة الزوجية أو فقدانهم الثقة في الوالدين ومن حولهم.
- استخدام المتربصين بالزوجين لهذه الأسرار التي تنشر على السوشيال ميديا وإلحاق الأذي بالزوجين أو العمل على التفريق بينهما.
قال تعالى: { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (النساء: 34).
ولقد عاتب الله سبحانه زوجات النبي على إفشاء سره فقال تعالى: { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} (التحريم: 3) وأمرهم جل وعلا بالتوبة فقال: { إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التحريم: 4).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدري: [إنَّ مِن أشرِّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرَّها]( رواه مسلم).
حلول عملية
كثير من الحلول العملية للحفاظ على أسرار البيوت يجب أن يتعرف عليها الأزواج للحفاظ على بيوتهم سكنًا ومودةً كما أرادها الله، ومنها:
- يجب أن تبقى هذه داخل المنزل ولا يجب الإفصاح عنها ووضع الحدود في العلاقة منذ البداية يجعل هذه العلاقة تنعم باستقرار دائم.
- من أهم الطرق للحفاظ على أسرار المنزل المصارحة، لأن الصراحة بين الزوجين تجنبهم العديد من المشاكل.
- من أهم الطرق للحفاظ على أسرار المنزل وضع حدود لتدخل الأهل في الحياة الزوجية.
- من الممكن أن يكون التدخل المبالغ فيه من قبل الأصدقاء سبباً لافتعال المشاكل بين الزوجين، ولذا وجب وضع حد لها.
- طلب المساعدة وقت الضرورة القصوى من أهل الرأى والصلاح والتقوى حيث قال الله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35).
دور الدعاة في علاج هذه الظاهرة
للدعاة والمصلحين والعلماء دور عظيم في المجتمع حيث يقع على عاتقهم توفير المناخ الذي يساعد على حفظ الأسرار في البيوت ببث روح التربية الحقيقية في الأفراد سواء قبل الزواج أو بعده، وتعريفهم بمغبة إفشاء الأسرار وضرره على الأسرة والمجتمع والأمة.
فالتربية المبكرة على حقائق الأسرة تقيها من شر الوقوع في الزلل أو الانهيار، خاصة وأن أكثر انهيار الأسر من جراء إفشاء الأسرار الأسرية ونشرها بين الأهل والأصدقاء، أو على الملأ عبر صفحات التواصل الاجتماعي.
أيضا يحاول الدعاة التركيز على الأضرار الناجمة عن الثرثرة وكثرة الكلام وحض الجميع على أن يقولوا خيرا أو يصمتوا، وهو خلق إسلامي حث عليه النبي الكريم بقوله :[مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ] (رواه البخاري ومسلم). فالصمت عبادة في حالات كثيرة وأشدها الأسرار بين الزوجين.
عليهم أيضا نشر الإيجابية بين الزوجين بأن يقيما حوارا بناءا لعلاج مشاكلهما في ضوء التي وضعها الله كأساس للحياة الزوجية.
يُروى عن بعض الصالحين أنَّه أراد طلاق امرأته؛ فقيل له: «ما الذي يريبك فيها؟»، فقال: «العاقل لا يهتك ستر امرأته»، فلما طلَّقها قيل له: «لم طلَّقتها؟»، فقال: «ما لي ولامرأة غيري؟».
ويقول الأبشيهي صاحب «المستطرف في كل فن مستظرف»: «اعلم أن أمناء الأسرار أقل وجودًا من أمناء الأموال، وحفظ الأموال أيسر من كتمان الأسرار؛ لأن أحراز الأموال منيعة بالأبواب والأقفال، وأحراز الأسرار بارزة، يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق، وحمل الأسرار أثقل من حمل الأموال».
و قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «القلوب أوعية، والشّفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلّ إنسان مفتاح سرّه».