أنا امرأة مطلقة ولدي ثلاثة من الأبناء، ابنتي في العشرين من عمرها وهي مخطوبة، وتبقى على زفافها أربعة أشهر، وتعيش هي وإخوتها معي بعد أن رفض أبوهم تحمل مسئولياتهم، ومرتبي محدود لا يكفي مصاريف السكن والطعام والتعليم وباقي متطلبات الحياة، وأقترض من الناس لأسد النقص في حياتنا على أمل أن يفرجها الله يومًا مًا.
المشكلة أنها عروس ولها متطلبات في الجهاز، ولا أستطيع أن ألبي لها كل ما تطلبه، وهو حقيقة ليس بكثير مقارنة بما ينفقه الناس على بناتهم في الزواج، لكن حتى القليل لا أستطيعه، وفي الوقت نفسه هي لا تتفهم ظروفي وضعفي وقلة حيلتي، وتشعر تجاهي بالكراهية وتتهمني بأنني لا أحبها، وأنني لا أحاول إسعادها مثلما تفعل الأمهات مع بناتها، وهذا يحزنني كثيرًا ولا أكف عن البكاء، ولا أدري ماذا أفعل كي أثبت لها عكس هذا الإحساس؟
السائلة الكريمة:
بدايةً، نشكر لكِ أنكِ لم تتخلي عن أولادك، بل تحملتِ مسؤولياتهم بعد أن تخلى عنهم أبوهم المسؤول عنهم، وهذا إن دلّ فإنما يدل على نُبل صفاتك، ورقيّ أخلاقك، وصفاء نيتك وطبيعتك.
أعانك الله على ما كلفك به من مسئولية تربيتك لهم وحدهم، ويقينًا سبحانه إذا كلف أعان، فالزمي الدعاء بالعون والتسديد، يفتح لك الله خزائن رحمته الواسعة.
نوصيكِ بأن تقبلي غضب ابنتك وتتفهمي دوافعها، فنحن في زمن طغت فيه الماديات وصارت على مرأى ومسمع من الجميع، فما كان يُقنع أجيالًا سابقة، لا يقنع ضِعفه الأجيال الحاليةَ
هناك حالة عامة من السخط وعدم الرضا؛ لأن الكل إلا من رحم ربي يعرض بضاعته ويتباهى بمشترياته، وجهاز ابنته، وحتما تتأثر ابنتك كغيرها.
وحتى لا يكون هذا العرض مؤثرًا علينا بشكل كبير، يستلزم ذلك إيمانًا بأن الرزق مقدر، وأنا لن نحوز شيئًا لم يقسمه الله لنا، ولن يفوتنا شيءٌ قد قسمه الله لنا.
الحل يكمن في الرضا والحمد، ومقارنة حالنا بمن هم أقل منا، وليس بمن هم أعلى، نوصيك بأن تجعلي ما بقي من وقت لابنتك في بيتك، أجمل الذكريات، ولن يكون ذلك إلا بحوار مليءٍ بالتفهم منك والإقرار لمشاعرها الغاضبة، وتوجيهها في المكان الصحيح، فغضبها في الأصل من أبيها الذي تركها، وليس منكِ، فلتوجه اللوم ولو في دواخل نفسها لأبيها، ولتطرق بابه بعزة وأدب، تطلب منه الوقوف بجانبها، وإن لم يستجب فتخيروا طريقة أخرى، وإن احتاج الأمر لوساطات فلا تتأخري، لأن في ذلك تحميل لنفسك فوق طاقتها بالاستدانة من الناس.
يجب أن تقتنعي داخل نفسك أنهم مسئولية أبيهم مهما تنكر من مسئولياته نحوهم، هذه القناعة تجعلك لا تفقدين الوسيلة للحصول على حقوقكم.
ومن ناحية أخرى، احرصي على كتابة المطلوب شراؤه، واختاري مع ابنتك الأولويات من هذه القائمة، وتناقشوا في كيفية تدبير الأمر، فهي صارت كبيرة تستطيع العمل، حتى تشارك في تحقيق متطلباتها، حينها ستشعر بقيمة سعيك عليها وعلى إخوتها.
فحينما نتبادل الأدوار نشعر ببعضنا البعض، وما كنا نعتبره تقصيرًا من طرف، ندرك أن الأمر ليس سهلًا كما نظنه ونحن جالسون على الأريكة هكذا!
كثير من الأولاد لا يشعرون بالامتنان لأهليهم إلا حينما تتبدل المواقع ويصيروا آباءً وأمهات، حينها يشعرون بالحرج من أنفسهم؛ لأنهم أضاعوا أجمل سنين عمرهم في مشاعر مغتربة عن الأهل، فيها القليل من التقدير لجهودهم وتضحياتهم.
لا عيب أبدًا في أن تعمل؛ فمع الأسف في كثير من جوانب ثقافاتنا العربية، يظل الأبناء عالقين في رقبة الأهل حتى تنمو شواربهم! بينما لدى بعض الثقافات الأخرى، تجدهم يعملون من أجل تغطية مصاريف الدراسة، أي يعملون في الوقت الذي نقدم لأبنائنا الحليب على الأسرّة، نخشى عليهم من تحمل الأعباء، ثم نشتكي أنهم غير عابئين؛ فهل دربناهم على تحمل المسئولية مبكرا!
السائلة الكريمة:
كم من عوائل ظروفهم قد تبدو أيسر، لكن فقههم في الإعداد للزواج هو التيسير، فبالرغم من مشاهدة رفوف العرائس تكتظ بما يفيد وما لا يفيد عند أكثر البيوت، نجد البعض الآخر ما زال محافظا على المعقول في التجهيز برغم قدرتهم على فعل المزيد، وهذا يجب أن يكون محل نقاش مع ابنتك، فإذا ما رأت نماذج حولها متخففة ميسرة، اقتنعت بحالها أكثر، وما لم تستطع تجهيزه قبل الزواج، بإذن الله تستطيعه بعده، وستتجد المتعة في إكمال الناقص، ستتجدد فرحتها مع كل جديد، المهم حاليا حصر الأشياء الأساسية والضرورية جدًا، إذا ما أرادت إتمام الزواج في موعده، أما وقد أصرت على أن تجهز حالها بالكامل فلتمهلك وتمهل نفسها حتى يتم الأمر على الوجه الذي تريده.
هي من تختار، وعليها تحمل التبعات، فهوني على نفسك، ولا تضخمي فكرة مشاعر الكراهية في نفسك، أبدليها وترجميها ترجمة مختلفة، بأنها تكره الظروف، حينما نسمي المشاعر تسمية صحيحة، يخفف ذلك من وطأة الحدث على نفوسنا.
التعامل الرشيد مع رعونة الأبناء هو الذي يردهم بعد فضل الله إلى محاضن أهليهم، أما إذا قابلنا أمواجهم العالية العاتية بنفس الغضب، فستتطاير سفن المودة ذاهبة بلا رجعة.
يقولون: “إن عَزَّ أخوكَ فهُنْ”؛ ولن نجد أعز من أبنائنا مهما فعلوا، فليني لابنتك جانبًا، يُكرمك الله فيها ويعينك على إسعادها، ويرزقها تفهم الظروف أكثر، فالقلب سمي قلبًا من تقلبه فنمسي بحال ونصبح على حال غيره، يقول ﷺ: إن القلوب بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء.
أقر الله عينك بأولادكِ، وأعانك على ما كلفك به، وأنزل الرحمة على قلب أبيهم، يهديه الله بحوله وقوته، وليس ذلك على الله بعزيز.