لقد كان هدي النبي مع زوجاته- أمهات المؤمنين- في جميع الأوقات والمواقف المختلفة، يُؤسّس لعلاقة زوجية قائمة على الودّ، والتآلف، والرحمة، حيث تمثَّل المصطفى- صلى الله عليه وسلم- صورة المعاشرة مع أهله في أبهى حُلَلِها؛ فكان خير زوجٍ لخير أهل، كيف لا وهو القائل: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي” (صحيح الترمذي).
لقد حبا الله تعالى نبيَّه أكمل الأخلاق وأنبل الصفات؛ فكان عليه الصلاة والسلام الزوج الحبيب، والموجِّه الناصِح، والجليس المؤانِس؛ وكان يمازح نساءه في السرَّاء، ويواسيهنَّ في الضرَّاء، ويسمع شكواهنَّ، ويكفكف دموعهنَّ، ولا يؤذيهنَّ بلسانه، ولا يجرح مشاعرهنَّ بعبارته، وما ضرب بيده امرأةً قط. ولا يتصيَّد الأخطاء، ولا يتتبَّع العثرات، ولا يضخِّم الزلاَّت، ولا يُديم العتاب، وكان يتحمَّل الهفوة، ويتغاضى عن الكبوة، وقليل الملامة، وكثير الشكر والعرفان.
هدي النبي مع زوجاته
إنّ الرسول الداعية المربِّي محمد- صلى الله عليه وسلم-، ضرب أروع الأمثلة في معاملة زوجاته، ولعلَّنا نقترب من بيوته، لنرى بعض المشاهد التي دوَّنتها كتب السُّنَّة، وحفظت لنا شيئًا من عشرة النبي الكريم مع أهل بيته؛ ليتَّضح لنا عظمة الخُلُق، وبساطة الحياة، ومثاليَّة القِوامة:
- السهولة واللين: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- سهلًا لينًا في التعامل مع زوجاته، فعن جابر بن عبد الله أن عائشة- رضى الله عنها- في حجة النبي- صلى الله عليه وسلم- أهلت بعمرة.. وزاد في الحديث قال: “وَكَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا سَهْلًا، إِذَا هَوِيَتِ الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ” (مسلم).
- تطييب الخاطر: فعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: خَرَجْنَا مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بَعْضِ أسْفَارِهِ، حتَّى إذَا كُنَّا بالبَيْدَاءِ أوْ بذَاتِ الجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فأقَامَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى التِمَاسِهِ، وأَقَامَ النَّاسُ معهُ ولَيْسُوا علَى مَاءٍ، فأتَى النَّاسُ إلى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقالوا: ألَا تَرَى ما صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أقَامَتْ برَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والنَّاسِ ولَيْسُوا علَى مَاءٍ، وليسَ معهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أبو بَكْرٍ ورَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واضِعٌ رَأْسَهُ علَى فَخِذِي قدْ نَامَ، فَقالَ: حَبَسْتِ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والنَّاسَ، ولَيْسُوا علَى مَاءٍ، وليسَ معهُمْ مَاءٌ، فَقالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أبو بَكْرٍ، وقالَ: ما شَاءَ اللَّهُ أنْ يَقُولَ وجَعَلَ يَطْعُنُنِي بيَدِهِ في خَاصِرَتِي، فلا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إلَّا مَكَانُ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ أصْبَحَ علَى غيرِ مَاءٍ، فأنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا، فَقالَ أُسَيْدُ بنُ الحُضَيْرِ: ما هي بأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يا آلَ أبِي بَكْرٍ، قالَتْ: فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الذي كُنْتُ عليه، فأصَبْنَا العِقْدَ تَحْتَهُ” (مسلم والبخاري)، ويظهر تطييب خاطر النبي- صلى الله عليه وسلم لعائشة بأن ظل يبحث عن عقدها الذي ضاع وقتا ليس بالقليل، حتى نام على فخذها.
- المواساة: فعن أنس بن مالك قال: “كانت صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان ذلك يومها فأبطأت في المسير، فاستقبلها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهي تبكي وتقول: حملتني على بعير بطيء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بيديه عينيها ويسكتها…” (النسائي).
- المؤانسة: فعن عائشة، أنها قالت: “كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يفضل بعضنا على بعض في القسم، من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها” (أبو داود).
- الخدمة والمساعدة: بلغ من تواضع الرسول- صلى الله عليه وسلم- وحسن معاشرته لنسائه معاونتهن في البيت وأعماله، عن الأسود، قال: سَأَلتُ عائشة ما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يصنع في بيته؟ قالت: “كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ- تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ” (البخاري).
- المصارحة بالحب: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصرح بحب زوجاته، ويظهر مشاعره النبيلة بحبهن ويجاهر بذلك أمام الصحابة- رضي الله عنهم، فعن عمرو بن العاص، أن النبي- صلى الله عليه وسلم-، بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: “أي الناس أحب إليك؟ قال: “عَائِشَةُ”، فقلت: من الرجال؟ فقال: “أَبُوهَا”، قلت: ثم من؟ قال: “ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ”، فعد رجالا (البخاري).
- المزاح مع الزوجة: فلم يكن غائبا عن النبي- عليه الصلاة والسلام- أن يمازح زوجاته، تقول السيدة عائشة-رضي الله عنها-: كنت أغتسل أنا والرسول- صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد حتى إنه ليقول دعي لي وأقول دع لي”. فكان هذا مزاحا لطيفا يدل على حسن العشرة النبوية منه- صلى الله عليه وسلم-مع أزواجه. وعن عائشة قالت: “كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعطيني العظم فأتعرّقه- أي: آكل ما بقي فيه من اللحم وأمصه-، ثم يأخذه فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي” (مسلم).
- الثقة بالزوجة وعدم تخوينها: فعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه، قال: “نَهَى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنُهُمْ، أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ” (مسلم).
- الاهتمام بها وقت الحيض: فعن أنس رضي الله عنه قال “كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوهن ولم يشاربوهن ولم يجامعوهن في البيوت، فسألوا نبي الله عن ذلك، فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ” فأمرهم رسول الله أن يؤاكلوهن ويشاربوهن ويجامعوهن في البيوت، وأن يصنعوا بهن كل شيء ما خلا الجماع” (النسائي).
- اللعب مع الزوجة: فقد كان النبي يلعب مع زوجاته ويداعبهن وينزل إلى درجات عقولهن لأنه يعلم أن هذا مما تطيب قلوب النساء به، حتى إنه كان يسابق السيدة عائشة، فقد روي عنها أنها قَالَتْ: “سَابَقَنِى رَسُولُ اللَّه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَبَقْتُهُ، فَلَبِثْنَا حَتَّى إذَا أَرْهَقَنِى اللَّحْمُ من البدانة، سَابَقَنِى فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ” (أبو داود وابن حبان).
- مراعاة غيرتهن: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله؟ أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أكل منها ووجدت شجراً لم يؤكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: “في الذي لم يرتع منها”. تعني أن رسول الله لم يتزوج بكراً غيرها (البخاري). وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين، مع خادم، بقصعة فيها طعام فضربت بها الحائط، فسقطت القصعة فانفلقت، فأخذ النبي فضم الكسرتين، وجعل فيها الطعام ويقول: “غارت أمكم غارت أمكم“. ويقول للقوم: “كلوا“. وحبس الرسول حتى جاءت الأخرى بقصعتها، فدفع القصعة الصحيحة إلى رسول التي كسرت قصعتها، وترك المكسورة عند التي كسرت (البخاري).
- مشاورتهن والأخذ برأيهن: فحين فرغ النبي- صلى الله عليه وسلم- من قضية الكتاب في صلح الحديبية قال لأصحابه: “قوموا فانحروا، ثم احلقوا“. قال الراوي: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة- رضي الله عنها-: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام، فخرج، فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر هديه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق لبعض حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً” (البخاري).
- الوفاء للزوجة: فعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله، فعرف استئذان خديجة، فارتاح لذلك، فقال: “اللهم هالة بن خويلد“ (البخاري ومسلم). ارتاح الحبيب لأنها ذكّرته بمن آمنت به حين كذبه الناس، ونصرته حين خذله الناس، وثبتته بكلمات تكتب بماء الذهب.
- ترخيم أسمائهن: فعن عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لها يوما: “يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام”. فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى” تقصد رسول الله (البخاري ومسلم).
وصايا نبوية للزوج في معاملة الزوجة
ورغم أن هدي النبي مع زوجاته في جميع المواقف يكفي لاتخاذه منهجًا في معاملة الزوجة وحسن عشرتهم، فإن النبي الكريم حرص على إعطاء وصايا للرجال في معاملة زوجاتهن، ومن ذلك:
- التحذير من ظلم النساء: فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ظلم النساء، والعدوان على الزوجات، وفي الحديث “إني أُحَرِّج حقَّ الضَّعيفين المرأة، واليتيم” (صحيح ابن ماجه).
- التوصية بالخير: فعن أبي هريرة- رضي الله عنه-، قال- صلى الله عليه وسلم-: “استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فاستوصوا بالنساء خيراً” (البخاري ومسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: “أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم”، (الترمذي)، وقال- صلى الله عليه وسلم-: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي” (الترمذي).
- الطعام والكسوة وعدم الضرب: أخرج الإمام أبوداود في سننه: من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت”.
- احترام الزوجة: فعن أَبي هريرةَ قَالَ: قالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً؛ إِنْ كَرِهَ مِنها خُلُقًا رضِيَ مِنْهَا آخَرَ، أَوْ قَالَ: غَيْرَهُ (مسلم)، وعن عبداللَّه بن زَمْعَةَ: أَنه سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يخْطُبُ، وذكَر النَّاقَةَ والَّذِى عقَرهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا [الشمس:12] انْبعثَ لَها رَجُلٌ عزِيزٌ، عارِمٌ، منِيعٌ في رهْطِهِ، ثُمَّ ذكَرَ النِّساءَ، فَوعظَ فِيهنَّ، فَقالَ: يَعْمدُ أَحَدُكُمْ فيَجْلِدُ امْرأَتَهُ جَلْد الْعَبْدِ فلَعلَّهُ يُضاجعُهَا مِنْ آخِر يومِهِ”. (الترمذي).
- الوصية بالعدل بين الزوجات ففي حال تعدُّدهنّ: قال النبي- صلّى الله عليه وسلّم-: “مَن كانَت لَهُ امرأتانِ فمالَ إلى إحداهما جاءَ يومَ القيامةِ وشقُّهُ مائِلٌ” (أبو داود والترمذي) وفي هذا حَثٌّ من النبيّ -عليه الصلاة والسلام- على العدل بين الزوجات في حال تعدُّدهنّ؛ سواءً كان في المبيت، أو النفقة.
لقد كانت الزوجة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، مصانة ومكرمة، وتحظى بالرعاية والحنان والحب، وهذا ما لم يقصره النبي الكريم على معامله لزوجاته، بل أمر الصحابة والمسلمين جميعًا أن يحذوا حذوه في معاملة نسائهن بالمعروف.
المصادر والمراجع:
- سلمان بن يحي المالكي: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الزوجة.
- محمد شعطيط: مواقف من حُسن تبعّل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لأزواجه.
- إبراهيم بن صالح العجلان: هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – مع زوجاته.
- إسلام ويب: مواقف نبوية للأزواج.
- حسين بن قاسم القطيش: النبي – صلى الله عليه وسلم- زوجاً.
- سلامة إبراهيم: الاقتداء بالرسول- من هدي النبي مع زوجاته (أمهات المؤمنين).