رغم مرور أكثر من 1400 عام على نشأة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، ما زال المسلمون يغوصون في دروسٍ من هجرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم، يستلهمون منها الأسباب والثمار والعبر، تلك الرحلة التي غيّرت وجه الإنسانية، وحوّلت الصفحة المظلمة للكرة الأرضية إلى نور يتلألأ للناظرين من بعيد.
لقد بعث الله- عز وجل- النبي- صلى الله عليه وسلم- بدعوة تملأ القلوب نورًا، وتشرف بها العقول رشدًا؛ فسابق إلى قبولها رجال عقلاء، ونساء فاضلات، وصبيان ما زالوا على فطرة الله، لكن المشركين رفضوها وصدّوا عن سبيل الله، بل وجدوا في أيديهم وسيلة هي أن يفتنوا المؤمنين، ويسُومونهم سوء العذاب، حتى يعودوا إلى ظلمات الشرك، لذا كان المَخرج من كل هذا الظلم، هو ترك كلّ غالٍ ونفيسٍ والهجرة إلى المدينة، حيث رحّب الأنصار بإخوانهم المهاجرين وامتزوجُوا معًا، ما أفرز قِيمًا وثمارًا أنارت الأرض وكانت السبب الرئيس في نشر الإسلام.
أسباب هجرة النبي إلى المدينة
رغم أهمية الوقوف على الدروس والعبر من هجرة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم-، فإن دراسة الأسباب التي تدعو إلى الهجرة وترك الوطن للانتقال إلى أرض جديدة لا تقل أهمية، وهي تتمثل في الآتي:
- الفرار بالدين والخشية عليه، حتى لا يُرغم الكافرون المسلمين على ترك دينهم.
- والفرار من الظلم الاجتماعي والاقتصادي، ولهذا فإنه إذا لحق الإنسان المسلم ظلم اجتماعي أو اقتصادي وخشي أن يمتد ذلك الظلم إلى دينه فواجب عليه أن يهاجر من هذا البلد إلى بلد آخر يجد فيه العدل والمساواة، قال تعالى: {والَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ولأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (النحل: 41).
- الهجرة من أرض الفساد وانتشار الرذائل وهتك العرض أو المساس به، لذلك إذا كانت أرض ينتشر فيها الفساد، وعدم الالتزام بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى عنه، وخشي الإنسان أن يطاله من ذلك ما يدنس عرضه وشرفه وجب عليه الانتقال إلى مكان تسوده الأخلاق الحميدة، ويتمسك أهله بمبادئ الدين وتعاليمه، أو على الأقل مكان يمارس فيه شعائر دينه بحرية.
- واجبٌ على المسلم أن يهاجر من أرض الشرك إلى أرض الإسلام عندما تقوم الدولة الإسلامية ويتكون المجتمع الإسلامي وذلك بهدف تدعيم الدولة الإسلامية بقوى بشرية وتقنية وعلمية.
- أما الهجرة الشعورية فهي معاداة وإنكار كل ما لا يرضي الله ويخالف شريعة الله، ويظهر المسلم هذه المعاداة بكل الوسائل المتاحة كالجوارح والقلب واللسان، ويعمل على تغييرها بكل الإمكانات المتاحة، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” (مسلم).
- وقد كان هدف الهجرة المباركة من مكة إلى المدينة هو الانتقال بالرسالة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة.
ماذا علمتنا الهجرة؟
ويبحث المسلمون في كل زمان عن دروس من هجرة النبي الكريم، ولم يكتفوا بمجرد الاحتفال وتجهيز الخطب، فهي حدث عظيم احتوى مجموعة من القواعد السلوكية الذهبية القابلة للتطبيق في حياتنا اليومية وفي مجال الدعوة إلى الله.
ولقد علمتنا الهجرة أنّ كل إنسان يجب أن تكون له قضية في الحياة يعيش من أجلها ويموت من أجلها، وعلمتنا أنه لا بُد من أن يكون للإنسان رؤية لإنجاز رسالته في الحياة. قال حكيم عربي: “ليس للحياة قيمة إلا إذا وجدنا فيها شيئًا نناضل من أجله”، فالناس أربعة أنواع في الرسالة والرؤية:
- رسالة ورؤية: فهؤلاء يعرفون مسارهم وتخصصهم فيه، ولديهم أهداف واضحة، والرسول أكبر أسوة.
- رسالة دون رؤية: فهؤلاء يعرفون مسارهم، لكن ليس لديهم خطة واستراتيجية ومتابعة لتحقيق رسالتهم.
- رؤية دون رسالة: فهؤلاء يعرفون ما يريدون دون أن يُحددوا مسار حياتهم مثلهم مثل التجار المنهمكين في تجارتهم فقط من أجل المال والنجاح.
- لا رسالة ولا رؤية: فهؤلاء حائرون لا يعرفون مسارهم في الحياة ولا يعرفون ما يريدون منها ولم خلقوا!
والهجرة منهج دعوي متجدد لا ينقطع حتى تقوم الساعة، فآية الهجرة لم تنزل إلا في السنة التاسعة للهجرة لتذكر المسلمين بهذا الأسلوب الدعوي المتجدد: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].
وعلمتنا الهجرة أنّ دعاية العدو وتشهيره يمكن أن ينفعنا ولا يضرنا، ألم يقف المشركون عند أبواب مكة ويوصون الناس ألا يسمعوا للنبي؟!، لكن في الواقع، خدم هذا الأمر النبي فقد عملوا له دعاية مجانية، وهو ما ينطبق على حال الدعوة في العصر الحالي.
كما أن ترتيب الأولويات من أسباب النجاح في الحياة، فقد استعمل الرسول القاعدة المشهورة عند خبراء الإدارة والتخطيط: “الأولى أولا” أنجز العمل الأهم، ثم المهم، ثم الأقل أهمية. عندما جاء الإذن الرباني بالهجرة، نلاحظ كيف رتّب الرسول الكريم الأولويات:
- رد الودائع.
- تضليل المشركين بنوم علي بن أبي طالب في فراشه.
- الخروج إلى بيت أبي بكر.
- الاتجاه نحو غار ثور.
- الاتجاه نحو المدينة.
ثمار هجرة النبي
وقد خرج من رحم هجرة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- نتائج وثمار كثيرة نقلت المسلمين من الضعف والهوان إلى عصر القوة والهيمنة والحضارة والحرية، ومنها:
- أنها كانت نقطة تحوّل في تاريخ البشرية، ففي المدينة اكتملت عناصر الدولة؛ الشعب والأرض والسلطة، وتأسست الدولة على دستور شمل كل حاجيات المجتمع المدني؛ الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية، وإقرار المواطنة، وبيان كيفية معاملة أهل الذمة.
- ومن أبرز الثمار تأسيس دولة الإسلام، التي كان لا بُد لها من أرض تستقر فيها، وقائد مسدد قدوة قادر حكيم ومطاع، يتمثل في النبي- صلى الله عليه وسلم- فهو المبعوث بالوحي، الماضي بأمر الله، الشهيد على أمته، الحامل المؤدي أمانته ورسالته، أمّا من بعده فهو كل من فقه دينه، واعتنق يقينه وجاهد نفسه للتحقيق به، والدعوة إليه على هدى من الله وقرآنه وبصيرة من سنة رسوله وأحكام شريعته.
- ولا بُد لدولة الإسلام من مؤمنين صادقين، وحكماء قادرين، وشعب مُلبٍّ مستجيب، مع تجرد لله وإخلاص واع، وعمل دؤوب لربط القلوب بالقلوب فلا تنازع ولا تصارع إلا في الحق ولنصر الحق، وتنافس على خيرات الدارين.
- وقد كانت الهجرة انطلاقة حضارية، فالتاريخ البشري هو التعبير الحي الصادق عن إرادة الله العليا التي تهدف إلى تحقيق وتكوين كيان إنساني متنامٍ، يسعى سعيًا حثيثًا نحو الارتقاء الأمثل الذي يحقق عمليًا إرادة الله.
- إن الانطلاقة الحضارية تعني وَفق التنظير الحضاري التحليلي أنّ الهجرة كحركة تاريخية ترتب عليها وجود كيان إرهاصي للحضارة الإسلامية وكان رائدها الأول هو سيدنا محمد- عليه الصلاة والسلام- الذي قاد حركة الهجرة وَفق ناموس كوني صارم ساعده على تحقيق أهدافه بصورة دقيقة، لا تزال هي المثل الأعلى لكل إنسان مسلم بل للأمة الإسلامية الحائرة في هذا العصر.
- وثالث انطلاقة حضارية هي تلك الانطلاقة نحو فرض الهيمنة الإسلامية والاعتراف بها كوجود فعلي وحركي في المدينة المنورة التي أصبحت دار الهجرة، من خلال إبرام وصياغة الصحيفة التي نظمت أبعاد العلاقة بين العناصر البشرية، والتي كانت تقطن المدينة، وبخاصة اليهود والمسلمين، ولأول مرة يتعرف اليهود بالمسلمين كقوة بشرية ناهضة ولها حسابها.
- بل يأتي على قمة هذه الانطلاقات الحضارية، تلك الوثبة العملاقة التي وثبتها الأمة الإسلامية بعد الهجرة، من خلال تلك المعارك الحاسمة التي خاضها المسلمون ضد أعداء الإسلام، وانتصروا فيها بفضل القيادة الواعية لسيدنا رسول الله- عليه الصلاة والسلام-، والإيمان الجازم بالنصر كل هذا ما كان له أن يكون واقعا حيًّا لولا حركة الهجرة.
- ومن الثمار، أن التوكل أثر من آثار الإيمان بالله، والوالدين لهما دور كبير في تبصير الأبناء بأن الله بيده تصريف الحياة والموت. كما أن النصر هبة من الله تعالى لعباده المؤمنين إذا هم حققوا منهج الله قولًا وعملًا.
- والأمانة ضرورية لتنظيم شؤون الحياة، وتقع على عاتق الأسرة والمدرسة إبراز أهمية الأمانة في حياة الأمة، والعفو له آثار إيجابية على الفرد، فيجب على الوالدين غرس هذه الصفات في أبنائهم.
- وكتمان السر له آثار إيجابية على المستوى الفردي والجماعي، وطاعة الله لها أثر إيجابي في تماسك المجتمع، ويقع على الأسرة والمدرسة غرس هذه الصفة في نفوس الأبناء.
- كما أن الإسلام لا ينكر حب الوطن، لكنه يتخذه وسيلة عبور لغاية أفضل وهي تحقيق عبودية الله تعالى.
- أن المرأة المسلمة تستطيع أن تقدم الكثير، وتقوم بواجبها الاجتماعي والدعوي على أكمل وجه، خلاف ما يدعيه خصومها، فها هي أسماء بنت أبي بكر، تحمل الطعام إلى الغار بكل شجاعة، حيث كان يختبئ الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر- رضي الله عنه.
- الهجرة كانت انتصارًا عظيمًا؛ لأنها الفرار إلى الله تعالى. قال تعالى: {ففِرُّوا إلى الله إنِّي لكم منه نذِير مُبين} (الذاريات: 50).
- والصحبة لها أثر كبير على تشكيل سلوك الأفراد، والأسرة مطالبة بالرقابة على أبنائها ووقايتهم من قرناء السوء، وتوجيههم إلى اختيار الصحبة الصالحة، ذات الأخلاق الحسنة.
المصادر والمراجع:
- الدروس المستفادة من الهجرة النبوية
- سبعة من الدروس والعبر من هجرة سيد البشر
- عبد الملك بن هشام: سيرة ابن هشام، ص 482 و483.