تبقى وصية هارون الرشيد في تربية الأبناء شاهدًا على نضج هذه الشخصية الحاضرة في الوعي الجمعي للذات العربية، رغم السنين الطويلة التي تفصل بيننا وبينه، فكما كان الرشيد ناجحًا بامتياز في قيادة الدولة، كان- أيضًا- على وعي كامل بدور المؤدب في إعداد ابنيه وتربيتهما وتأهيلهما لتولي منصب الخليفة في المستقبل.
إن كتب التاريخ حفظت لنا عددًا من المعايير التربوية التي رأى الرشيد حتمية توافرها في المادة العلمية والتربوية المقدمة لأبنائه، وكأننا هنا بإزاء مستشار تربوي خبير، يُحدد الاستراتيجيات العامة للبرامج الدراسية المقدمة للطلبة، وهي أمور يفرض علينا نجاح تجربة صاحبها أخذها بعين الاعتبار واستيعابها في إطار من المرونة الاستقبالية.
من هو هارون الرشيد؟
هو أبو جعفر هارون بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي القرشي، وُلد (عام 149هـ – 766 م)، في مدينة الري، وبويع بالخلافة ليلة الجمعة التي توفي فيها أخوه موسى الهادي عام 170هـ وكان عمره آنذاك 22 سنة، وأمه الخيزران بنت عطاء وهي أم ولد يمانية جرشية.
ويُعد هارون الرشيد من أشهر الخلفاء العباسيين، وأكثرهم ذكرًا حتى في المصادر العربية والأجنبية، وقد نشأ في بيت ملك، وأُعد ليتولى المناصب القيادية في الخلافة، وعهد به أبوه الخليفة المهدي بن جعفر المنصور، إلى مَن يقوم على أمره تهذيبًا وتعليمًا وتثقيفًا، فكان من أساتذته الكسائي، والمفضل الضبي، وهما مَن هما علمًا ولغة وأدبًا.
ولما اشتد عود الرشيد واستقام أمره، ألقى به أبوه في ميادين الجهاد، وجعل حوله القادة الأكفاء، يتأسى بهم، ويتعلم من تجاربهم وخبراتهم، فخرج في عام (165 هـ = 781م) على رأس حملة عسكرية ضد الروم، وعاد محملاً بأكاليل النصر، فكوفئ على ذلك بأن اختاره أبوه وليًّا ثانيًا للعهد بعد أخيه موسى الهادي.
وكانت الفترة التي سبقت خلافته يحوطه في أثنائها عدد من الشخصيات السياسية والعسكرية، من أمثال يحيى بن خالد البرمكي، والربيع بن يونس، ويزيد بن مزيد الشيباني، والحسن بن قحطبة الطائي، ويزيد بن أسيد السلمي، وهذه الكوكبة من الأعلام كانت أركان دولته حين آلت إليه الخلافة، ونهضوا معه بدولته حتى بلغت ما بلغت من التألق والازدهار.
وقد تُوفّي الرشيد لمرضٍ لا شفاءَ له، في مدينة (مَشهد) التي كانَ يُطلَق عليها اسم (طوس)، وكان ذلك في عام 193هـ = 809م، عن عُمرٍ ناهز الثالثة والأربعين عامًا، فقال الفضيل بن عياض: “ما من نفس تموت أشد علي موتًا من أمير المؤمنين هارون، ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره”، فقال في ذلك أحد أصحاب الفضيل: “فكبر ذلك علينا فلما مات هارون وظهرت الفتن، وكان من ذلك في عهد المأمون عندما حمل الناس على القول بخلق القرآن قلنا الشيخ كان أعلم بما تكلم”.
وصية هارون الرشيد التعليمية والتربوية
أرسل هارون الرشيد إلى الأحمر النحوي فلمّا دخل عليه قال: “يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه وصير يدك عليه مبسوطة ومقالتك فيه مصدقة وطاعتك عليه واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن وعلمه الآثار والأخبار والسنن وروِّه الأشعار وبصِّره مواقع الكلام ومُره بالرزانة في مجلسه والاقتصاد في نظره وسمعه، فلا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فيها فائدة تفيده إياها، وكلمة نافعة يعيها ويحفظها من غير أن تخرق به فتميت ذهنه وتملّه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه بالتقريب والملاينة، فإن أبى فالشدة”.
إن هارون هنا يضعنا مبدأ تربويا بالغ الأهمية وهو حتمية التوازن بين الهدف التعليمي ومفردات العملية التعليمية، وهو ما يكتمل عبر تتابع الخطوط العريضة التي يفرضها الهارون الخبير بأمور الملك، فننتقل من العلوم الدينية إلى العلوم الدنيوية التي يفيض فى تحديدها الهارون على العكس من اختزاله السابق للثقافة الدينية في النص القرآني المقدس، وهارون في هذا لا ينسى الهدف الرئيس من عملية التأديب وهي التهيئة والإعداد للمستقبل على المستويين الشخصي والعملي.
ويوجه الرشيد بعد ذلك إلى أهمية عناية المؤدبين بعلمي التاريخ والأدب، فوعي ولي العهد بالتاريخ ومفرداته سيجنبه الوقوع في العديد من الأخطاء التي وقع فيها سابقوه، كما سيجعله يستثمر التجارب الناجحة للملوك من الأمم المختلفة في إثراء ملكه، أما الأدب فهو مما لا غنى للملوك آنذاك عنه، وهنا تنبلج قضية مهمة للغاية، تجاوز مساحة النص وإطاره وصولًا إلى عصرنا الحال، ونقصد بها القيمة الوظيفية للعلوم الإنسانية.
احترام الأسرة والكبار والوقت
يعنى الجزء التالي من وصية هارون الرشيد بترسيخ مبدأ الاحترام، وذلك باستدعاء تجلياته المتعددة، وأولها احترام الرابطة الأسرية وحتمية أخذها بعين الاعتبار أثناء إعداد برنامج تأهيل ولي العهد، ويتسع هذا المبدأ ليشمل القواد الكبار في الجيش، وما يعادلهم من أصحاب القامات في الدولة، ويمثل الوقت التجلي الثالث لقيمة الاحترام.
ونلاحظ بلاغة الرشيد في تعبيره عن ضرورة الإفادة من عنصر الوقت، لما يمثله من قيمة ذات شأن عظيم ينبغي اغتنامها بما هو جاد ومفيد، ونتوقف قليلًا عند لفظ “يميت ذهنه” الواردة في هذا الإطار، فالموصي يتعامل هنا مع الذهن بوصفه كائنًا تمددت الحياة في شرايينه بما يكسبه من علوم ومعارف على مدار عمره، ويدب العجز والشيخوخة في أواصره إذا لم يجرِ تغذيته بهذه المعارف واستبدال اللهو وإضاعة الوقت بها.
الثواب والعقاب
تختم وصية هارون الرشيد بالتأكيد على مبدأ بالغ الأهمية في التربية وهو الثواب والعقاب، ونلاحظ أنّ الرشيد كان يعي أن الأصل هو الإثابة والمكافأة بوصفها أداة مهمة في الترسيخ لمبدأ الحافزية التعليمية، أما العقاب فهو البديل السلبي لمبدأ الإثابة، وربما يظن ظان أن المؤدبين لم يعيروا مبدأ العقاب بالًا، واكتفوا بمبدأ الثواب لإدراكهم أنهم يؤدبون خليفة المستقبل، إلا أن التاريخ يثبت أن هذا لم يكن صحيحًا، وأن المؤدبين اتبعوا هذه الوصية بحذافيرها وقوموا أبناء الرشيد مراعين ما طلبه منهم والدهم.
والدليل على هذا، هذه الحكاية التي تعكس اتباعهم مبدأ الثواب والعقاب الذي دعاهم الرشيد لاتباعه، فعن أبي محمد اليزيدي قال: “كنت أؤدب المأمون وهو في حجر سعيد الجوهري. قَالَ: فأتيته يوما وهو داخل، فوجهت إليه بعض خدمه، يعلمه بمكاني، فأبطأ علي، ثم وجهت آخر فأبطأ عليّ، فقلت لسعيد: إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة وتأخر. فَقَالَ: أجل، ومع هذا إذا فارقك عزم على خدمه، ولقوا منه أذى شديدا، فقومه بالأدب، فلما خرج أمرت بحمله فضربته سبع درر. قَالَ: فإنه ليدلك عينه من البكاء. إذ قِيلَ: هذا جعفر بن يحيى قد أقبل، فأخذ منديلا، فمسح عينيه، وجمع ثيابه، وقام إلى فراشه، فقعد عليه متربعا وقال: ليدخل. فدخل، فقمت إلى المجلس، وخفت أن يشكوني إليه، فألقى منه ما أكره، فأقبل عليه بوجهه وحدثه حتى أضحكه، وضحك إليه، فلما هم بالحركة دعى بدابته، وأمر غلمانه فسعوا بين يديه، ثم سأل عني، فجئت فَقَالَ: خذ علي ما بقي من جزئي، فقلت: أيها الأمير، أطال الله بقاءك، لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر بن يحيى، ولو فعلت/ ذلك لتنكر لي. فقال: أتراني يا أبا محمد كنت أطلع الرشيد على هذا، فكيف بجعفر بن يحيى حتى أطلعه إني أحتاج إلى أدب، أدب يغفر الله لك بعد ظنك، خذ في أمرك، فقد خطر ببالك ما لا تراه أبدا، ولو عدت كل يوم مائة مرة”.
أخيرًا
فإن وصية الرشيد في تربية الأبناء تعد خارطة طريق يرسمها هذا الأب الخليفة لمعلّم ولده وتظهر حرصه الشديد على صلاح ابنه، واليوم نرى كثيرًا من الأسر تعتمد على معلمين دون توصيتهم بما ينفع أبنائهم، بل من هؤلاء المعلمين مَن يدخل إلى فلذات الأكباد سلوكيات خاطئة بسبب انشغال الأسر عنهم وإعطاء الدور التربوي والتعليمي لغيرهم، فلا بد من الانتباه والمراقبة والتوصية كما فعل الرشيد مع معلم ابنه.