إنّ نزول المطر من السماء نعمة من الله تعالى على عباده، فهو سبب للحياة على الأرض، ودونه لا يُمكن أن تنمو النباتات ولا تعيش الحيوانات ولا يتوفر الماء للشرب أو للزراعة أو للصناعة، بالإضافة إلى أنه مهم لتلطيف الجو، وإزالة الغبار والأتربة، وتنظيف الأرض من الشوائب.
والمطر حين ينزل يغسل القلوب مِن الأدران، لذا يجب التفكُّر والتدبر في مِثل هذه النِّعم، لإدراك أنَّنا مجرد بشر ضعفاء، وأن مُسيِّرَ ومُدبِّرَ هذا الكون هو مَن بيده ملَكوته، فعلينا دومًا استشعار واستجلاب نِعَمه؛ حتى لا تُمنع عنَّا.
نزول المطر في القرآن والسنة
ونعمة نزول المطر أشار إليها القرآن الكريم في مواضع عديدة، يقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ [السجدة: 27]، فهذه الآية الكريمة توضح لنا أنَّه من الواجب تدبُّر هذه النِّعمة واستجلاب أسبابها.
وإذا غاب الغيث فترة، يحصل الضرر للعباد والبلاد، فالآبارُ تنضب، والثِّمار تذبل، والمواشي تهزل، حتَّى يُصيب بعض الناس اليأس، وفي هذه الحالة يُنزّل الرَّحيم- سبحانه وتعالى- بعض رحمته، فتنهمِر السَّماء وترتوي الصَّحراء: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ) [الشُّورى: 28].
ولقد أشاد الله سبحانه بهذه النعمة، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 21 – 22].
وعرف النبي- صلى الله عليه وسلم- قيمة هذه النعمة وعلمها لصحابته الكرام، فقد ثبَتَ عنه- صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه كان يقول إذا رأى الغيث: “اللَّهُمَّ صيِّبًا نافعًا” (البخاري)، وثبت عنه أيضًا أنَّه قال: “مُطِرْنا بفضل الله ورحمته” (البخاري).
وإذا نزل المطر وخشي منه الضَّرر، كان يقول- صلَّى الله عليه وسلَّم-: “اللهُمَّ حوالَينا ولا عليْنا، اللهُمَّ على الآكام، والظِّراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر” (أخرجه الشَّيخان).
وعند الغيْثِ كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يستغل هذا الوقت المبارك في الدعاء، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “ثنتان لا يردُّ فيهما الدُّعاء: عند النِّداء، وعند نزول المطر” (أخرجه الحاكم، وحسَّنه الألباني).
وعن ابن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “مِفْتَاحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْحَامِ، وَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ” (متفق عليه).
ويقول ابن القيم- رحمه الله- وهو يتحدَّث عن نزول الغيث: “فيرشُّ السَّحاب على الأرض رشًّا، ويرسلُه قطرات منفصلة، لا تَختلط قطرةٌ منها بأخرى، لا يتقدَّم متأخِّرُها ولا يتأخَّر متقدِّمها، ولا تدرِك القطرة صاحبتَها فتمتزج بها، بل تنزِل كلُّ واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدِل عنه، حتَّى تصيب الأرضَ قطرة قطرة، قد عُيِّنت كل قطرة منها لجزءٍ من الأرْض لا تتعدَّاه إلى غيره، فلوِ اجتمع الخلْقُ كلُّهم على أن يَخلقوا قطرةً واحدة، أو يُحصوا عدد القطر في لحظة واحدة، لعجزوا عنْه”.
ثمَّ قال- رحِمه الله-: “فتأمَّل كيف يسوقُه- سبحانه- رزقًا للعباد والدَّوابِّ والطَّير والذَّرِّ والنَّمل، يسوقه رزقًا للحيوان الفلاني، في الأرْض الفلانية، بِجانب الجبل الفلاني، فيصِل إليْه على شدَّة الحاجة والعطش”، فتبارك الله أحسنُ الخالقين وربُّ العالمين.
دروس تربوية من نزول المطر
ونعمة نزول المطر من الله تعالى على عباده، فيها دروس وعبر كثيرة يجب أن نتعلمها، ومنها:
- المطر نعمة عظيمة من الله تعالى: فهو سبب للحياة على الأرض، ودونه لا يمكن أن تنمو النباتات ولا تعيش الحيوانات ولا يتوفر الماء للشرب أو للزراعة أو للصناعة.
- الاستبشار بالمطر بعد القنوط من نزولها: فعندما يطول انتظار المطر، ويشعر الناس باليأس والقنوط من نزوله، ثم ينزل، فيفرح الناس.
- إحياء الله الأرض بالمطر دليل على إحياء الموتى: عندما ينزل المطر على الأرض، فإنها تخرج من موتها، وتصبح صالحة للزراعة، وتنمو فيها النباتات، وتنتشر فيها الحياة.
- آيات الله في السحب والبرق والرعد والملائكة والصواعق: عندما ينزل المطر، فإننا نرى العديد من الظواهر الطبيعية، مثل السحب والبرق والرعد والملائكة والصواعق، وهي كلها آيات من آيات الله تعالى.
- المطر قد يكون عذابا: المطر نعمة من الله تعالى، لكنه قد يكون عذابا إذا كان عنيفًا أو مصحوبًا بالفيضانات والسيول، لذا يجب أن نحذر من غضب الله تعالى.
- السبب الحقيقي من منع الأمطار: إذا منع الله تعالى المطر عن قوم، فذلك بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، لذا يجب أن نحرص على طاعة الله تعالى، وأن نبتعد عن معاصيه.
- الاستغفار سبب لنزول الأمطار: قال تعالى في سورة نوح: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي: اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب، واستغفروا الله منها. (إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) كثير المغفرة لمن تاب واستغفر، فرغبهم بمغفرة الذنوب، وما يترتب عليها من حصول الثواب، واندفاع العقاب. ورغبهم أيضًا، بخير الدنيا العاجل، فقال: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) أي: مطرا متتابعا، يروي الشعاب والوهاد، ويحيي البلاد والعباد.
- نسبة نزول المطر إلى غير الله كفر: نسبة نزول المطر إلى غير الله كفر، لأن نزول المطر من عند الله تعالى وحده، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].
- دليلٌ باهرٌ على وحدانيّة الله وعظيم أمره، فلو اجتمعت المخلوقات كلّها لينزلوا قطرةً واحدةً ما استطاعوا، ولكنّ الله إذا أراد الله أمرًا حصل، قال عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النّحل: 40].
- خشوع الأرض وطمأنينتها ولينها بعد جفافها وقسوتهاـ بسبب نزول المطرـ هو المثل الذي ضربه الله للمؤمنين معاتباً أجلاء الصحابة رضوان الله عليهم على عدم خشوعهم الخشوع الحقّ عند سماع آيات الله تعالى، يقول تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 16، 17].
- الله سبحانه يهلك به الظالمين، فالماء هو الذي طغَى ليُهْلِك كلَّ طاغيةٍ، فأغرق فِرعون وأذلَّه، وأخذه وجيْشَه: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) [الذاريات: 40].
- والله ينصر المسلمين بالماء: كما حصل في غزوة بدْرٍ: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ) [الأنفال: 11].
- المطر عِلْمُ وقْتِ نُزوله بِيَد الله، يقول- سبحانه وتعالى: (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) [النمل: 65]، وقال النبيُّ- صلَّى الله عليه وسلَّم-: “مفاتيح الغيْبِ خَمسٌ”، ثُمَّ قرأ: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 34]، (البخاري).
- لا نغترَّ بكثْرة الخير والمطَر والماء: فقد يكونُ استِدراجًا؛ روى الإمام أحمد عن عُقبةَ بن عامر- رضِي الله عنْه- عنِ النَّبيِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم-: “إذا رأيتَ الله- عزَّ وجلَّ- يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يُحب، فإنَّما هو استدراج”، ثم تلا: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) [الأنعام: 44].
فنحمد الله عز وجل ونشكره على ما منّ علينا من نزول المطر، ونسأل الله سبحانه أن يجعله مباركًا على المسلمين وأن يجعله نعمةً لا نقمة.
مصادر ومراجع:
- أحمد بن حسين الفقيهي: نعمة المطر.
- ابن القيم: مفتاح دار السعادة 1/202.
- رمضان صالح العجرمي: وقع الاستبشار بنعمة نزول الأمطار.
- الدكتور عبد اللطيف أحميد: نعمة نزول الغيث ووجوب شكرها.
- أحمد بن عبد الله المباركي: نعمة المطر.
- الشيخ محمد بن إبراهيم السبر: السيول والأمطار دروس وعبر.