شَرَعَ الله، عز وجل، حدّ القذف، ليمنع الألسنة من الخوض في الأعراض، بل إنه، سبحانه وتعالى، اشترط أربعة شهود في إثبات حد الزّنى، وتوعّد مَن يُشيع الفاحشة في المؤمنين بالعذاب الأليم، ليؤصّل مِن وَراء ذلك أهمية الستر في الإسلام، كنعمة يجب أن يرعاها المؤمن في نفسه وغيره، فلا يُجاهر بمعصيةٍ اقترفها، ولا يفضح مسلمًا وقع محذورٍ، حتى ينعم في الدنيا وينجو يوم الحساب.
نعمة الستر في حياة الناس
وإن كانت نِعم الله، تبارك تعالى، على النّاس، لا تُعد ولا تُحصى، فنعمة الستر لا يشعر بها إلا عباد الله المؤمنين، وعنها قال عز وجل: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 26]، فيتّضح من الآية فضل الله على بني آدم، بستر عوراتهم وعيوبهم.
وليس القصد من إخفاء عيوب الآخرين، هو التّستر على ما ينتج عنه مفسدة، فالقاعدة التي أصّلها لنا الشرع الحنيف، هي العفو الجميل ما لم يكن مِن ورائه ضرر يصيب الجميع، يُؤكد ذلك، ما رواه ابن سعد، في الطبقات الكبرى، عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، قال: “لو أخذت سارقًا لأحببت أن يَسْتُره الله عزَّ وجلَّ، ولو أخذت شاربًا، لأحببت أن يَسْتُره الله عزَّ وجلَّ”.
ويقول الشيخ بن العثيمين عن هذا الخُلُقْ هو: “إخفاء العيب، ولكن لا يكون محمودًا إلا إذا كان فيه مصلحة ولم يتضمن مفسدة، فمثلا: المجرم إذا أجرم لا نستر عليه إذا كان معروفا بالشر والفساد، ولكن الرجل الذي يكون مستقيمًا في ظاهره ثمّ فعل ما لا يحل فهنا قد يكون الستر مطلوبا”.
الستر في اللغة وأنواعه
وللستر معانٍ كثيرةٍ، ورغم تفرّع روافده، يكاد يكون واحدًا، ويكفي أن الله، عز وجل حضّ المؤمنين في أكثر من موضع في القرآن الكريم على التحلي بتلك النعمة التي أفاض بها، عليهم.
أمّا في اللغة فإن الستر، بكسر أوله وسكون ثانيه، جمع ستور وأستار وستر، وهو ما يخفِي الذي خلفه، وقولهم: “هتك الله ستره”، أي: كشف للناس مساوئه” (كما ورد في المعجم الوسيط). وذكر ابن حجر في فتح الباري، أنّ معناه السَّتْرُ على المسلم إِنْ وَقَع في معصيةٍ، شريطة أن لا يُعلنها ويجهر بها.
وعن أنواع السَّتر، أفاد الدكتور فيصل العزام، في مقالٍ له بصحيفة (اليوم)، بعنوان “ستر النفوس وليس ستر الفلوس”، ببعضٍ من هذه الأنواع، إذ قال:
“عندما تكون مريضًا ولكنك قادرٌ على المشي فهذا ستر من مذلة المرض.
وعندما يكون لديك ملابس – ولو كانت مرقّعة – فهذا ستر من مذلّة البرد.
وعندما تكون قادرا على الضحك وأنت حزين لأي سبب، فهذا ستر من مذلّة الانكسار.
وعندما تكون قادرا على قراءة الصحيفة التي بين يديك، فهذا ستر من مذلّة الجهل.
وعندما تستطيع أن تتصل في أيّ وقتٍ بأهلك لتطمئن عنهم وتطمئنهم عنك فهذا ستر من مذلّة الوحدة.
وعندما يكون لديك وظيفة أو مهنة -أي مهنة- تمنعك عن مد يدك إلى أيّ شخص فهذا ستر من مذلة السؤال.
وعندما يكون في جيبك مبلغ بسيط يكفيك لتنام وأنت شبعان حتى لو كان خبزًا، فهذا ستر من مذلّة الجوع.
وعندما يكون لديك زوجة صالحة، تحمل معك همّ الدنيا، فهذا ستر من مذلّة انكسار الزوج أمام زوجته”.
التأصيل الشرعي للسّتر
ولِأَنّ للسّتر فضائل كثيرة، فقد أصّله الشرع بالقرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة، فنجد أنّ الله- عز وجّل- توعّد كلّ من يُشيع الفاحشة في المؤمنين بالعذاب الأليم، إذ قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، [النُّور: 19]، بل شدد الله في أمر الستر بنهيه الذي قال فيه: {وَلا تَجَسَّسُوا}، (الحجرات)، فيما يقول القرطبي في ذلك: (ولا يتتبَّع بعضكم عَوْرة بعضٍ، ولا يبحث عن سرائِره).
وأورد أبو هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديثًا مرّ على مسامع كثير من المسلمين، فضلا عن الذين يحفظونه، إذ قال: صلى الله عليه وسلم: [ومَن سَتَر على مسلمٍ، سَتَره الله في الدُّنيا والآخرة]، (رواه مسلم).
كما شدَّد النبي، صلى الله عليه وسلم، في النّهي عن التجسس على الآخرين، ليحفظ أواصر الصّلة بين الناس قويّة متينة، فعن أبي برزة الأسلمي، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: [يا معشر من آمن بلسانِه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عَورَاتهم، فإنَّه من اتَّبع عَوراتهم يتَّبع الله عَوْرته، ومن يتَّبع الله عَوْرته يفضحه في بيته]، (رواه أبو داود وأحمد والبيهقي، وحسّنه الألباني).
وفي قصَّة ماعز بن مالك الأسلمي، الذي جاء إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، معترفًا على نفسه بالزِّنى، وَفقَ مشورة لرجلٍ اسمه “هزال” اقترح عليه التحدث إلى النبي في أمره، فقال النبي، للأخير: [يا هَزَّال، لو سَتَرْته بردائك، لكان خيرًا لك] (رواه مالك والنسائي).
ابن رجب الحنبلي، ذكر أيضًا، فائدة عن الستر في مؤلفه جامع العلوم والحكم، إذ قال: (رُوي عن بعض السَّلف أنَّه قال: أدركت قومًا لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب النَّاس، فذكر النَّاس عيوبهم. وأدركت أقوامًا، كانت لهم عيوب فكَفُّوا عن عيوب النَّاس فنُسيت عيوبهم).
أمّا ابن القيم، فقال في كتاب الفوائد: (للعبد سِتْرٌ بينه وبين الله، وسِتْرٌ بينه وبين النَّاس، فمن هتك السِّتْر الذي بينه وبين الله، هتك الله السِّتْر الذي بينه وبين النَّاس).
أسباب ستر الله لعباده
وستر الله لعباده يتحقّق بأسبابٍ، إذا أَخَذَ بها العبد نال لذّة هذه النعمة في الدّارين، فمن ابتُلي بمعصيةٍ عليه أن لا يفضح نفسه، حتى يدخل في زمرة المُعافين يوم القيامة، إذ قال النبي، صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه] (رواه البخاري).
1. وتُعد التوبة الصادقة، رأس الهرم، في أسباب الستر على المسلم، فالتائب من الذنب كمَن لا ذنب له، وتأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه.
2. عدم إفشاء أسرار الزوجين، وهي من أهم أسباب حفظ ستر البيت ودوام العشرة بين الزوجين.
3. ألا يكون ستر المسلم لأخيه وسيلة لإذلاله واستغلاله ومعايرته بذنوبه.
4. وحذر النبي من تتبع عورات المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: [مَن ستر عورة أخيه؛ ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم، كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته]، (رواه ابن ماجه).
المؤمن يستر وينصح.. والفاجر يهتك ويفضح
وقد يتبع المؤمن ستره لغيره بنصيحةٍ غاليةٍ، لا يهدف من ورائها الإذلال أو الانتقاص من القدر، بينما الفاجر يستغل صاحب المعصية في الإمعان بإذلاله واستغلاله، ليخالف بذلك منهج الله تبارك وتعالى، وحلمه على الناس، وستره عليهم، إذ يقول ابن القيم:
وَهُو الْحَييُ فَلَيْسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ عِنْدَ التَّجَاهُرِ مِنْهُ بِالْعِصْيَانِ
لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيهِ سِتْرَهُ فَهُو السَّتِير وَصَاحِبُ الغُفْرَانِ
بل إن النّصحية التي نُلقيها على مَن نراه في معصيةٍ، لا بُد من تكون على انفراد، وليس في ملءٍ فتصبح فضيحة وكشف للستر، إذ يقول في ذلك الإمام الشافعي:
تَعَمَّدني بنصحك في انفرادي وجنِّبني النَّصيحة في الجماعهْ
فإنَّ النُّصح بين النَّاس نوع من التَّوبيخ لا أرضى استماعه
فوائد الستر على الأفراد والمجتمعات
وفوائد الستر عديدة على الفرد والمجتمع، فهو يصون صاحب المعصية، ويحفظ الأسرة من الانهيار، ويجعل المجتمع كالبنيان المرصوص، لا تهزه ريح ولا تعصف به عاصفة، وهذه بعض فوائد الستر على الأفراد والمجتمعات:
- نشر الحبِّ والمودة بين المؤمنين.
- يُعين العاصي على الرجوع والتوبة إلى الله، عز وجل.
- يحفظ الإنسان من اقتراف المزيد من الذنوب والمعاصي.
- لا يُجرّئ عوام الناس على المعاصي، في حالة كان صاحب الذنب من أهل الفضل لكنه وقع في زلة أو هفوة.
- تحصيل الثواب والنعيم في الدنيا.