نحن أسرة متدينة، ربينا أولادنا على الالتزام منذ نعومة أظفارهم، فأحسنا تسميتهم وعققنا لهم عند مولدهم. وكلُّ المحيطين بهم من أهلٍ وأصدقاءٍ متدينون ويحيطونهم بالحب والرعاية والاحترام، وخاصة أنهم إضافة إلى التزامهم متفوقون، لكن الكارثة أنه بعد أحداث الربيع العربي وفى إطار الهجوم على الإسلاميين في المواجهة ونسبة الأخطاء والفشل إليهم وتحميلهم أسباب القتل والسجون والتعذيب وسوء إدارة الموقف، سقط الإسلام أيضًا من نظر أولادي، وبدأوا يتفوهون بكلمات لا تستوي مع حسن إسلام المرء.
أحدهم أنهى تعليمه ثم ترك البيت ليعيش بمفرده ولا يصلي ولا يصوم، أما البنتان فما زالتا محجبتين وتصليان وتصومان ولكن يقلقني قولهما إنهما لم تنخلعا من الإسلام كلية؛ مخافة أن يكون فعلًا هناك يوم قيامة، وحساب، وجنة ونارَ
حقيقة.. أنا مرعوبة على أولادي وأخاف أن يكونوا بذلك قد دخلوا في حلقة الإلحاد!
السائلة الكريمة:
نشفق على جيل أبنائنا من أهوال عايشوها، فما رأوه بأم أعينهم لم يكن هينًا أبدًا، كنا في السابق نشاهد مثل هذه الأحداث في فلسطين وغيرها من بلاد ينكل أعداء الله فيها بالمسلمين، تبدل الحال ورأى الشباب إخوتهم يتعرضون للسحل والقتل والاعتقال من بني جلدتهم أمام أعينهم وهم مكتوفي الأيدي، بعد أن ظنوا أن الأرض قد مهدت لهم، وأن مطالبهم بينها وبين التنفيذ بعض الوقفات والاعتصامات! وفجأة أتت الرياح بما لا تشتهيه الأنفس! وتبددت الأحلام، وعايشوا كابوسًا مرًا علقمًا.
الشباب يعني العنفوان، وقمة التأثر بالأحداث، وتحميل النفس ذنب ما حصل لأصحابهم، قد يتهمون أنفسهم أنه كان بأيديهم أن ينقذوهم، فلديهم مشاعر عجز وإحباط وشعور بالذنب، تجعل اليأس يتملكهم؛ ولما ضاقت أنفسهم ذرعًا بما حدث، بدأوا في لوم من أخرجهم، وحينما تشتد الكربات ولا يجدون حلحلة لهذه الظلمات؛ يبدأ سقف غضبهم في الارتفاع، فيصرخون من أعماق قلوبهم، أين الله مما نحن فيه؟!
مساكين، حيارى، نشفق عليهم، فهم لم يروا من الإعداد ما يمهد لهم هذه التبعة الثقيلة، فنعذر تخبطهم، ونكون على يقين بأن ما غرسناه لن يذهب هباءً بعون الله وبرحمته بهم، مسألة وقت ويعودون إلى رشدهم.
يحتاجون إلى قبولهم بين أظهركم على حالهم، وأن تكون بيوتكم محضنًا آمنًا لهم، نسمع كلماتهم الغاضبة- التي لو أعادوها على مسامعهم لاحقًا سيدركون أنها كلمات تنفيس عن غضب- ولا يقصدون معانيها بالكلية، فالاحتواء في هذه المرحلة مهم جدًا.
تقولين بأن أحدهم ترك البيت! لا تملي من السؤال عنه، اصنعي له أطباقه المفضلة، فكل ود منكم وتفهم، وابتعاد عن الحديث فيما حصل، يقلل هذا من الفجوة الحاصلة بينكم وبينه بإذن الله.
كما يجب تجنب أي نقاش ضاغط، مرروا هذه المرحلة بسلام قدر المستطاع، وإن كان تركه للصلاة والمنزل ردة فعل غاضبة مؤقتة، تكونون قد واربتم الباب في هذه المرحلة ولم توصدوه في وجهه، حتمًا سيكون له رجعة قريبة بإذن الله، وفي هذه الأثناء لا تملي الدعاء والصدقة، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.
أما إذا انفلتت زمام الأمور، وطالت فترة ابتعادهم؛ فلتعرضوا عليهم الذهاب لمختص في علاج الترومات (الصدمات)، يمارس معهم أنواع علاجات معرفية وسلوكية ويرشدهم إلى طرق التعامل الصحيح مع الصدمات، فقد نصنف المشكلة تصنيفًا دينيًا، وهم بحاجة إلى علاج نفسي من هول الصدمات التي عايشوها، وقد يحتاج الأمر لتناول بعض المهدئات حسب رؤية الطبيب.
كان ثمة نقاش دائر على الساحة السياسية في مخاطر استعمال كلمة (الإسلام هو الحل) بسبب ما نحن بصدده من نتائج؛ لأن الشباب قد يُلصقون الإخفاقات المرحلية بالإسلام، وأنه لم ينجح في الحل! ويلقون باللوم على كل ما يتعلق بالدين!
نتفق أو نختلف مع أصحاب هذا الطرح، لكن على أرض الواقع هذه إحدى تبعات استخدام الشعارات الدينية دون توعية الشباب بحقيقة الأحداث الجارية، وأن الأيام دُول، وأن حقيقة النصر هي في الثبات على الدين ونشره، وأن النصر بمعنى الظفر على الأعداء هو أمر محبب للنفس لكنه ليس كل النصر، مصداقًا لقوله تعالى: {وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ …}.
نعم، الإسلام هو الحل لكل مشاكلنا قولًا وعملًا، فعلًا وواقعًا، وعلينا أن نبذل في سبيل تطبيقه الغالي والنفيس، ونرجو في ذلك رضى الله والجنة- سلعة الله الغالية-، وليس معنى الشعار أن من يتبع الإسلام لن يلقى في حياته مصاعب وابتلاءات، وستُحل كل مشاكله في طرفة عين، وإلا فما معنى الابتلاءات التي عايشها أنبياء الله! ولو كان أحد أحق برغد العيش لكان الأنبياء، لكنها الدنيا، أي الدنيئة التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وهي دار ابتلاء لا اصطفاء.
إن ما يمر به أبناؤك يندرج تحت إطار الشبهات الفكرية، والتي لا تواجه إلا بالفكر مثلها، وهذا دوركم أن تبحثوا عمن يصحح لهم المفاهيم الخاطئة التي قادتهم إلى هذا الطريق.
يومًا ما حينما تهدأ الأمور سيتوصلون من تلقاء أنفسهم أنهم كانوا يبحثون عن شماعة كما يقولون، يعلقون عليها الخيبات ويتهمون الإسلام وهم من اتهامهم براء، وحتى ذلك الحين، لا تثخنوا جراحهم بمزيد من الأخبار المؤلمة خصوصًا التي تخص من في دائرة معارفكم.
قد يكون من المناسب ترك المكان الذي عايشوا فيه مثل هذه الصراعات، والتركيز على تحقيق أهداف ممكنة، كتفوق في الدراسة، وممارسة رياضة ينفسون فيها عن شحنات الغضب المخزونة.
يوصي علماء النفس من تعرض لترومة (صدمة نفسية)، أن يكون ليومهم روتين ثابت حتى لا يتركوا الأفكار والوساوس والهواجس تتقاذفهم، كما يمكنكم أن تقترحوا على الأبناء التواصل مع الأسر المتضررة وتقديم الدعم النفسي والمعنوي، فلعل هذا يخفف من مشاعر الإحساس بالذنب لديهم.
تقولين بأنهم تركوا الصلاة، ومع ذلك نقول لك صلي أنت وأبيهم أمامهم، ربتوا على أكتافهم داعين لهم أن يهدأ بالهم ويصلح الله حالهم.
وإذا كنت تخشين من أن هذه بداية لطريق الإلحاد لا قدر الله، نوصيك بالاستماع لحلقات متميزة للمهندس فاضل سليمان يتحدث فيها عن الإلحاد أسبابه وعلاجه، تجدين فيها النفع والخير بإذن الله، وحتى حين الاستماع، نبشرك بمقولة لأكبر الملحدين، يقول فيها لا ينكر عاقل وجود الإله وهو المعنى الأساسي للإلحاد، فالدلائل على وجود الإله لا ينكرها عاقل، إنما يقع الشباب ضحايا معرفة وتفسير صفات الله، فكيف للرحمن ألا يرحمنا وينهي ما نحن فيه من عذابات.
نسوا أن الدنيا دار ابتلاء، فضخموا من حجمها، وظنوا أنها دار سعادة، لم يروا الرحمة في كل ابتلاء، فمهما عظم المصاب تجد الفئة المؤمنة بحق تقول الحمد لله على أن المصائب لم تكن في الدين.
هذه المعاني وغيرها تسمعينها بإذن الله في السلسلة المعروفة بالرد على الشبهات، وسلسلة مقاومة الإلحاد كما تقدم ذكرها.
خفف الله عن أبنائك مشاعر العجز واليأس والإحباط، وردهم إلى الطريق القويم، على بصيرة ونور مبين.