إنَّ خيرَ مَن نستعين بآرائهم وأفكارهم التربوية هم علماء المسلمين الذين ارتبطوا بهدي كتاب الله وسنَّة رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم-، ومنهم ابن عبد البر القرطبي أحد العلماء الربَّانيين الذين وقَفوا جهودَهم للعلم؛ حتى استطاعوا تحقيق أعظم النتائج في بناء شخصيَّات إسلاميَّة تستمدُّ أسس عقائدها من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومنهاج حياتها من هدي الشريعة الإسلاميَّة.
وقد برز هذا العالم الجليل في الحديث وعلومه، والفقه، والسِّيَر والأدب، والأخبار وعلوم أخرى مختلفة، إضافة إلى براعته في الجانب التربوي وإن لم ينلْ نصيبه بعدُ بالدراسة والتحليل.
من هو ابن عبد البر القرطبي؟
هو أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي أندلسي المولد والنشأة والثقافة، ولد في قرطبة عام 368هـ، وتتلمذ على يد كثير من علمائها، حيث درس التفسير والقراءات والفقه والحديث وعلوم العربية والتاريخ والأنساب.
نشأ ابن عبد البر مُحبًّا للعلم والثقافة الإسلامية، وقد أعطى معظم اهتمامه للحديث فنبغ فيه واشتهر به، ودرس قضايا عصره فجمع بين الأصالة والمعاصرة.
وكاتب ابن عبد البر علماء من أهل المشرق، فأجاز له أبو القاسم السقطي المكي، وعبد الغني بن سعيد الحافظ وأبو ذر الهروي، وغيرهم، وقد حدّث عنه الكثيرون، منهم أبو الحسن طاهر بن مفوز المعافري، وأبو بحر سفيان بن العاصي، وابن أبي تليد.
ويُعد أحدُ العلماء الذين أَثْرَوا بمصنّفاتهم المختلفة المكتباتِ الإسلاميَّةَ، وفي مجالات متعدِّدة من العلوم؛ مثل: الحديث، والفقه، والسير، والآداب، والتراجم…، وقد نالت هذه المصنَّفات الثَّناء من كثيرٍ من العلماء في عصره وبعده، ولمصنَّفاته مكانة عظيمة، فلا يكاد يخلو منها أيُّ كتاب أو مرجع علمي، أو بحث تاريخي أو منهجي؛ وذلك بسبب أصالة معلوماتها؛ لأنَّه يسير في منهجه وَفْق الكتاب والسُّنَّة في جميع مؤلَّفاته، ومنها: المجال التربوي.
آراء ابن عبد البر التربوية
إنَّ القارئ لأفكار وآراء ابن عبد البر التربويَّة يجدُ العديد من الأدلة والشواهد التي تُبيِّن اهتمامه بالمبادئ التربويَّة في مختلف الجوانب؛ مثل: الطُّرق والوسائل التربوية التي تُساير كلَّ عصر وبيئة، مستندًا في تلك الآراء على ما تضمَّنَه القرآن الكريم والسنَّة والأثر، وهذا دليلٌ على أصالة تلك الآراء.
والآراء التربويَّة التي ناقشها تتمشَّى مع أيِّ عصر أو بيئة ومجتمع إسلامي، ومن الممكن الاعتمادُ عليها في المؤسَّسات التربوية؛ لأنها تتوافق مع المبادئ والقِيَم والمثُل العُليا التي يحثُّ عليها الإسلام.
ولقد نصح هذا العالم الجليل، المعلِّم والمتعلِّم على حدٍّ سواء بأنْ يصُونوا العلم، وأنْ يتصفوا بصفاتٍ تبلغُ بهم إلى فهم العلم، ومن هذه الصفات الإخلاصُ والصبر والحِلم، والاقتداء بصفوة خلق الله، وهم الرسل والأنبياء، وهذا ما أمر به الإسلام عند تعلُّم العلم أو تعليمه.
وقد ركز في آرائه تلك على مفهوم العلم، وفضله، وشرف العلماء به، وكذلك اهتمَّ بالعالم والمتعلم، وما ينبغي أنْ يتحلَّى به من أخلاق وآداب، وطُرق التدريس ووسائل التعلم والتعليم، والقُدوة وأثرها على المقتدي؛ كل ذلك لإظهار قيمة العلم قولاً وعملاً.
المعلم والمتعلم
كما قدَّم ابن عبد البر النُّصح للمعلم والمتعلم، بأنْ يتحلَّى بالأخلاق الفاضلة عند طلب العلم؛ لأنَّ العلم يُلهَمُه السُّعداء ويُحرَمه الأشقياء، كما حثَّ المعلِّم أنْ يكون قدوةً لتلاميذه، وأنْ يكون مَرِنًا في تعامُلِه معهم، وألا يجعل من الدرس شبحًا مُنفِّرًا، بل عليه أنْ يُدخِلَ عاملَ التشويق إذا رأى من طلابه انصرافًا عن الدرس.
ويرى أنَّ الاقتداء بالسلف أفضلُ مُؤثِّر لتقويم السلوك؛ مثل: الاقتداء بالرسل والصحابة، وأنَّ من العوامل المؤثِّرة على السلوك عدَّة عوامل إيجابية وسلبية، وتكون إمَّا بالوالدين أو الإِخوة أو المعلِّمين في المدرسة أو المجتمع وما فيه من أفراد، وأنَّ من الوسائل المؤثِّرة تأثيرًا مباشرًا هو الجليس أو القرين، كما يرى أنَّ أفضل تأثير لتعديل السلوك هو التناصُح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولكن على مَن يقوم بهذا العمل أنْ يبدأ بنفسه، ثم يقوم بتقييم غيره.
إنَّ ما قدَّمه هذا العالم القرطبي من آراء تربوية يدل على شدَّة حِرصه على طلب الخير؛ فهو يريد من المعلم والمتعلم أنْ يطلبوا العلم حبًّا في العلم وإخلاصًا له؛ حتى ينالوا الأجر والثواب من الله؛ لأنَّ العالِم والمتعلم في الأجر سواءٌ.
مبادئ تربوية
1- مبدأ وجود التعليم وتحريم كتمان العلم: قال ابن عبد البر في تمام مقدمته: “وسارعت فيما طلبت رجاء عظيم الثواب وطمعا في الزلفى يوم المآب ولما أخذه الله – عز وجل- على المسؤول العالم بما سُئل عنه بيان ما طلب منه وترك الكتمان لما علمه”.
2- مبدأ وجوب طلب العلم: قال في باب قوله – صلى الله عليه وسلم- “طلب العلم فريضة على كل مسلم” وساق الأدلة والآثار الدالة على وجوب طلب العلم ويدل ذلك على أن علماءنا سبقوا إلى تحقيق “إلزامية التعليم” وهو ما تحاول التربية الحديثة تحقيقه اليوم.
3- العمل بالعلم: لقد عقد هذا العالم الكبير أكثر من باب لهذا المبدأ مثل: “باب ما جاء في مساءلة الله – عز وجل- العلماء يوم القيامة عما عملوا فيما علموا” وساق الأدلة في ذلك. وهذا يثبت لنا سبق علماء الإسلام إلى هذا المبدأ قبل أن يأخذ به الغربيون ويقيموا على أساسه “الانقلاب الصناعي” الذي قام على أساس استخدام قوانين العلم في الصناعة أي العمل بها وهو أساس مبدأ التقنية.
4- كل مولود يولد على الفطرة: يرى مع جمهور علماء المسلمين وسلفهم أن كل مولود يولد على فطرة الإسلام فإذا انحرف عن هذه الفطرة كان السبب أبويه أو من يقوم مقامهما من المربين.
فالمربون المسلمون يرون المحافظة على فطرة الطفل بتربيته على الحنيفية والاستقامة التي فطر عليها أي على الإسلام.
5- الإخلاص لله في طلب العلم وإرادة الخير به: وقد عقد لهذا المبدأ بابًا من كتاب جامع بيان العلم وفضله سماه “باب ذم الفاجر من العلماء وذم طلب العلم للمباهاة والدنيا” ولقد جعل علماؤنا “أول مراتب العلم النية”، فإذا أطلقت النية في طلب العلم أريد بها النية الخالصة لله تعالى وإلا لم يكن علمه صحيحا سليما.
6- التعليم مجانا: روى بسنده عن أبي العالية قال: “مكتوب عندهم في الكتاب الأول: ابن آدم علّم مجانا كما علمت مجانا” ومعناه: كما لم تغرم ثمنا فلا تأخذ ثمنا. والمجان عندهم الذي لا يأخذ ثمنا.
7- مبدأ نشر العلم وتبليغه: عقد ابن عبد البر لهذا المبدأ “باب دعاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لمستمع العلم وحافظه ومبلغه”، وذكر في هذا الباب روايات وألفاظا عديدة لحديث زيد بن ثابت وابن مسعود – رضي الله عنهما- أنّ النبي الله – صلى الله عليه وسلم- قال: “نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه”.
8- مبدأ الأمانة العلمية والصدق في نقل العلم وإصلاح اللحن والخطأ: فقد ضمن هذا المبدأ في “باب آفة العلم وغائلته وإضاعته”، حيث ذكر عددا من الآثار عند التابعين والعلماء كالزهري الذي قال “… ومن غوائله الكذب فيه وهو شر غوائله”، وأورد أثر محمد بن سيرين قال: “كان أنس بن مالك إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا ففرغ منه قال: أو كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم”.
المصادر:
- ابن عبد البر: سير أعلام النبلاء.
- ابن بشكوال: الصلة: ص 973.
- الزركلي: الأعلام، 8/240.
- ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، 7/71.