نحن أشقاء ثلاثة وشقيقة واحدة، أنا ثالثهم في الترتيب غير أني كنت أولهم في التمرد والخروج عن السيطرة بما فيها سيطرة الوالدين حتى ماتت أمي
هكذا نشأت بلا قيد أو رادع، وكان كل مَن يحاول أن يقف أمام طبيعتي أحطمه وأهينه حتى ولو كانت أمي المسكينة التي لم تملك سلطانًا تفرضه عليّ إلا سلطان الأمومة، الذي اجتهدت أن أدمره هو الآخر حتى أتخلص من جميع الوصايا.
ولكثرة إهانتي لأمي كنت أسمع دعاءها عليّ ألا يُدفن بدني مجتمعا، وأن يفرق الله بين جسدي وبين يدي التي آذتها عند الموت، وكم كانت الدعوة قاسية ومرعبة لكنها لم تكن تُؤثر فيّ أو تحرك ساكنًا من عنادي وقسوتي.
وعاشت والدتي ما شاء الله لها أن تعيش راضية بقضاء ربها وقدره في ابنها العاق الذي لم تسلم من يده ولسانه حتى توفاها الله- عز وجل- وهو على هذا الحال. ومرت الأيام بعدها بحلوها ومرها، وتزوجت وأعطاني الله- عز وجل- البنين والبنات، لكني لم أشعر بطعم حلاوتها، بل إنني لا أكاد أخرج من بلاء إلا وأقع في آخر أشد منه، ولا أفرح فرحًا فيكتمل أبدا حتى ولو كنت أملك أسباب استكماله.
ثمّ إن الرد الإلهي يتعهدني كثيرًا في نفسي وولدي ومالي وغير ذلك. فوجهي الجميل احترق في حادث بسيط التهم نضارته وبهاءه الذي كنت أختال به. وولدي الأكبر الذي أوشك أن يبلغ مبلغ الرجال دهسته سيارة ومات من فوره، ولم أفرح شبعا ببنوته بعد، ناهيك عن حوادث ومصاعب ملأت عليّ حياتي.
أخذت أقلب صفحات الحياة فوجدتني قد نسيت ما كان من أمري مع أمي- رحمها الله-، وكيف أشقيتها في حياتها، فوجدت دعاءها عليّ يقفز إلى ذاكرتي، فأيقنت على الفور أنها دعوات تفتحت لها أبواب السماء فاستُجيبت، وحالي يشهد على ذلك. لكني الآن وهذا ما سطرت من أجله هذه الرسالة أخاف من خاتمة دعائها عليّ، بأن يفرق الله بيني وبين يدي عند الموت، حتى إن بعض أهلي ممن كان شهودًا على حالي مع أمي يخافون كل يوم ألا أعود إلى البيت كما خرجت.
أنا الآن أحسن حالًا من ذي قبل من حيث الصلاة وبعض العبادات، فهل عندك من حل لمشكلة إنسان عاق يدفع اليوم فاتورة ما جناه سلفًا؟
الإجابة:
على قدر غضب أمك عليك، على قدر ما هو مطلوب منك من بذل وسعي. لكن احمد الله أولًا وقبل كل شيء أنك لا تزال حيًّا، ولم تكن أنت مَن مت على هذه الحال، فلا يتاح لديك فرصة للتوبة ولا التغيير، لهذا السبب نحن نحمد الله مع بداية كل يوم جديد فنقول: “الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور”، أراد الله أن يردك إليه فمد لك في عمرك، ولو لم يرد ذلك لقبضك على حالك هذا مع أمك.
ثانيًا: الحمد لله أنك تنبهت قبل فوات الأوان فراجعت نفسك، بالرغم من توقفنا طويلًا أمام قولك بأنك نسيت ما مر بك مع أمك، لكن من الجيد أنك فهمت الرسالة جيدًا، وربطت بين ابتلاءاتك ودعاء أمك عليك. فمثل هذه الحال التي كنت عليها مع أمك- رحمها الله- يعجّل الله لك عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، حيث قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- “كلُّ ذنوبٍ يؤخِرُ اللهُ منها ما شاءَ إلى يومِ القيامةِ إلَّا البَغيَ وعقوقَ الوالدَينِ، أو قطيعةَ الرَّحمِ، يُعجِلُ لصاحبِها في الدُّنيا قبلَ المَوتِ”، ولعل هذا من رحمة الله بخلقه حتى يردهم للصواب كما ردك بالابتلاءات والمصائب التي جعلتك تقلب صفحات حياتك كما تقول حتى وصلت لصفحة أمك، وربما ليخفف عقاب الدنيا عنك من شدة عقاب الآخرة، وربما كذلك لتخويف الناس من الإتيان بهما، وكذلك التحذير من عظم الذنب، فرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “سُئِلَ عَنِ الكَبَائِرِ- فَقالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، فَقالَ: ألَا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ قالَ: قَوْلُ الزُّورِ”.
لك حق أن تخاف وأن تنتظر تَحقق دعوة أمك في كل خطوات حياتك، لكن في المقابل إذا صدقت مع الله في توبتك، واطّلع عليك – سبحانه وتعالى- فرآك نادمًا حقًّا، فلعله سبحانه وتعالى يغفر لك كما وعد في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}، فعليك أن تتبتل إلى الله باسمه الواسع وتدعوه باسمه التواب وتطمع فيه باسمه الغفور فتداوم على الاستغفار، وتلح عليه في طلبك، وتحسن الظن في عفوه.
واعلم أنّ للتوبة شروطًا، وهي الندم والإقلاع عن الذّنب والعزم على عدم العودة ثم ردّ الحقوق والمظالم لأهلها، أما وقد أقلعت مجبرًا بسبب وفاة أمك، فأنت الآن تملك صدق الندم، كما تملك أن توفي أمك حقها بعد وفاتها بالطريقة التي أمر بها رسول الله، فقد سئل النبي- صلى الله عليه وسلم-: “هل بقي من بِرِّ أبوي شيء أبرُّهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصَّلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرَّحم التي لا تُوصل إلا بهما، وإكرام صديقهما”.
وليس أفضل من أن تكون أنت امتدادٌ لأمك وكأنها لا تزال على قيد الحياة، وكأن كتاب أعمالها لا يزال مفتوحًا وعملها جار، وذلك بإصلاح نفسك، فكما قال- صلى الله عليه وسلم-: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”. فيمكنك أن تصلح نفسك وتتقرب إلى الله ثم تُهدي أمك الكثير من الدعوات التي ستصل إليها، فقد قال- صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ اللهَ ليرفعُ الدرجةَ للعبدِ الصالحِ في الجنةِ فيقولُ يا ربِّ من أينَ لي هذا فيقولُ باستغفارِ ولدِكَ لكَ”، كذلك أن تكثر من الصدقات الجارية لها، وأن تكرم ذوي القربى منها.
افعل كل هذا إلى الدرجة التي يبدأ معها ذلك الشعور المؤلم بالذنب في الخفوت، وادع الله أن يريك بر أبنائك في حياتك، وألا تذوق من الكأس نفسه، لأنه حقًّا شديد المرارة. كما أننا نأمل أن يكون في رسالتك هذه العظة الكافية لمَن هم في مثل حالتك ليثوبوا قبل فوات الأوان.