كان الشيخ منير الغضبان أحد الذين تركوا بصمات جوهرية في الجانب الفكري والتحليلي لمفاهيم الإسلام وكذلك الجانب العملي، وقد تعرّض من أجل ذلك إلى كثير من اضطهاد الأنظمة الحاكمة، لكنه ظل مثالًا للثبات والصبر حتى مات.
إن العلم يُرفع بموت العلماء، وقد خسرنا غيابه وعلمه ودوره في نشر الدعوة، وهو ما أوضحه عنه النبي- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا”.
نشأة منير الغضبان
وُلِدَ منير محمد الغضبان في 10 مارس عام 1942م في مدينة التل في دمشق بسوريا، حيث تعلم ونشأ فيها وحفظ القرآن الكريم منذ صغره. ثم التحق منير الغضبان بمراحل التعليم المختلفة حتى تخرج في كلية الشريعة بجامعة دمشق، وحصل على الإجازة فيها عام 1968م، ثم حصل على دبلوم عام في التربية من الجامعة نفسها في عام 1969م.
وسافر إلى القاهرة وأكمل تعليمه وحصل على دبلوم خاص لغة عربية من معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة 1972، ثم على ماجستير في الأدب العربي من ذات المعهد عام 1978م، ثم حصل على الدكتوراة في اللغة العربية من جامعة القرآن الكريم بالسودان عام 1997م.
وبعدما تخرج في كلية الشريعة عمل في التدريس بالمراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية بدمشق عام 1972م، ثم انتقل للعمل فترة في المملكة العربية السعودية موجهًا تربويًّا بإدارة تعليم البنات بالطائف خلال الفترة (1973- 1975م). ثم موجهًا للعلوم الدينية برئاسة تعليم البنات بالسعودية (1975- 1980م)، ثم داعية في الخارج برئاسة الإفتاء السعودية (خارج المملكة) (1980- 1987م)، وبعدها عمل باحثًا تربويًا بجامعة أم القرى بمركز الدراسات الإسلامية بمكة المكرمة (1987- 2000م)، وباحثًا ثقافيًا في الندوة العالمية للشباب الإسلامي 1992م.
وظلّ الغضبان يدندن حول مفاهيم السيرة التي عاش عليها وعمل إلى غرسها في نفوس الناس منذ سنة 1971 إلى أن توفاه الله تعالى يوم الأحد 3 شعبان 1435هـ، الموافق 1 يونيو 2014م بالقرب من غار حراء حيث بدأ نزول الوحي قبل 15 قرنًا خلت، وشاءت الأقدار أن يعيش “عاشق السيّرة” هناك ويموت هناك.
منير الغضبان والحركة الإسلامية
عرف منير الغضبان حركة الإخوان المسلمين مُنذ وقت مبكر، حيث كانت أسرته كلها ومنهم أخوه الأكبر، أحد المنضوين تحت لوائها ومن الذين بايعوا الدكتور مصطفى السباعي على العمل من أجلها.
وكان لزيارات الدكتور السباعي وخطبه تأثيرها الجلل في نفسية الشيخ التي دفعته للتعرف إلى أهداف هذه الجماعة والانضواء تحت لوائها والعمل من أجل نشر مبادئها وأفكارها بل والدفاع عنها في فترة الخمسينات.
وحينما أتمّ عامه الثاني عشر، انتظم في إحدى أسر الإخوان التربوية، وتدرّج داخل الجماعة من مسؤول أسرة ثم مسؤول بلدة التل ثم مسؤول شعبة ثم مسؤول مكتب دمشق، ثم مساعدًا لنائب المراقب العام للإخوان في سوريا ثم نائبًا للمراقب العام، حتى تولى منصب المراقب العام لإخوان سوريا باختيار التنظيم الدولي للإخوان عام 1985، في فترة من أحلك ليالي المحنة فلم يبخل بعطاء.
فلما كانت جماعة الإخوان في سوريا تتعرّض للمذابح على يدي النظام البعثي بقيادة حافظ الأسد؛ لم يضن بجهد أو جهاد واستمر في منصبه لمدة 6 أشهر حتى استقال ليتفرغ للفكر والتربية ويخلفه الأستاذ محمد أديب الجاجي، ويظل الغضبان في مجلس الشورى العام العالمي للإخوان في الفترة من 1986 إلى 2000م.
الغضبان والتربية
كانت أوجه الانحراف أمام منير الغضبان كثيرة، وبخاصة حينما انتقل للدراسة في دمشق، لكن أثر التربية التي نالها حفظته، وجعلته الشيخ الصغير الذي يُذكّر رفاقه بالبعد عن مواطن الشهوات والمنكرات، فيقول: لكن الحصانة التي غادرت فيها بيئتي الأولى كان لها الدور الأكبر في عصمتي من الزلل، ورفاقي يعرفوني الداعية الأول وأنا الذي أعظهم وأذكرهم بالله أن يتراجعوا عن الشهوات، ووسط هذا الجو المتلاطم عثرت على بغيتي، وقرة عين لى، أخ لي في الدعوة حيث التصقت به وأصبحنا نرتاد المركز العام.
وكان يُعلّم أعضاء الجماعة منهاج الدعوة من خلال الكتب والمحاضرات حتى وضع كتاب المنهج التربوي للسيرة النبوية لتكون ضياء لشباب الحركة فيما بعد، فعمد إلى استنباط معالم منهج الدعوة الإسلامية في عصر الرسول- صلى الله عليه وسلم- وإسقاطها على الواقع الذي تحياه الأمة الإسلامية.
بل عمد إلى استنباط معالم منهج النبي- صلى الله عليه وسلم- في بناء الجيل الأول سواء على مستوى التربية أو على مستوى إنتاج القيادة الراشدة، لذلك شمل تأليفه في هذا المجال: فقه السيرة أولًا (مجلد واحد)، ومنهج التربية النبوية (أجزاء)، والتربية القيادية، والمنهج الحركي للسيرة النبوية (ثلاثة أجزاء).
وقد عكست هذه الكتب عمق الفهم لدى الرجل وجلت موهبته في استنباط منهج التربية والبناء وإعادة بعث الأمة وفق أسس شرعية هي التي استمدها بقوة ذكائه وموهبته وإخلاصه، وكانت هذه الكتب زادًا علميَّا وتربويًّا غطى جانبًا كبيرًا في الحقل الدعوي والعمل الإسلامي المعاصر وصارت كتبه مقررات دراسية وتربوية لدى مختلف العاملين في مدرسة الاعتدال شرقًا وغربًا.
رؤية إصلاحية ومنهج حركي
وأحدث الغضبان بكتابه المنهج الحركي للسيرة النبوية ثقافة جديدة في فهم السيرة النبوية، وجعلها منهجًا عمليًا تستطيع الأجيال الحالية أن تشاهد سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بشيء يواكب زمانهم وواقعهم.
وقد وصفه الشيخ البوطي بقوله: وكلهم أجاد وأفاد.. إلاّ أن “التفسير الحركي” للسيّرة النبوية الشريفة الذي أعده أستاذي وصديقي المرحوم منير الغضبان ظل شامة بارزة في علاقتي بجميع الكتب التي قرأتها لسببين على الأقل:
- الاعتبار والتأسي: فالسيرة ليست تاريخًا للتسلية وإنما منهج للبناء.
- روح السيرة وحياتها: فقد تجاوز السرد التاريخي للأحداث إلى محاولة البحث عن “روحها” الذي ينبغي أن يسري في عقول وقلوب هذه الأمة التي فقدت هويتها وجهلت تاريخها وأضاعت رسالتها وقيمها ومقوماتها وجودها في صناعة التاريخ واستمرارها.
وعن أوضاع الحركة الإسلامية في سوريا وما وصلت له كان يقول: يجب أن نملك الشجاعة لنعود إلى نقطة البدْء ومرحلة الصّفر لنمضي في الاتجاه الصّحيح. ونملك القيادة الشُّجاعة التي تُعلن الحقيقة وتعزم على العودة إلى نقطة الانطلاق الأولى مهما امتدّ الزمن وإلاّ فالمسير في الضلال والمتابعة فيه لن يقود إلى الهدى، لا بدّ من العودة إلى الوراء، ولا بدّ من الشّجاعة في العودة.
ولا بدّ من استئصال الأدواء التي أوصلتنا إلى هذه النقطة، في عزيمة صادقة وقيادة تاريخية عالية، فلنعمل إذا كنا نفقد الشجاعة المطلوبة على تكوين قيادات شابّة ولو خلال عشر سنوات نأخذها من الشهادة الثانوية ونرعاها، ونصطبر عليها حتّى تقودنا بعد ذلك.
إن المتأمل في عناوين المنجز الفكري للعلامة الغضبان لا تخطئه الملاحظة بأن هذا الرجل كان مهمومًا بواقع أمته، كان يعيش لها ويفكر من أجلها، ويجاهد في سبيل قضاياها، ويسهر على راحتها وحل مشكلاتها.
لقد حوّل الكتابة في السيرة النبوية في مجملها من البحث في الآثار والأخبار وفحص أسانيدها من حيث القبول والرد، إلى واحة للعاملين للإسلام، وصنع منها ملحمةً تُستلهم للواقع والمستقبل، وتُستدعى في واقع الأمة للتربية الجهادية والحركية والإعلامية والقيادية، وغيرها.
مؤلفاته
وخلّف الدكتور منير الغضبان الكثير من المؤلفات سواء الفكرية أو التربوية أو التحليلية وأبرزها كان كتابه السيرة النبوية الذي من أجله حصل على جائزة سلطان بروناي للسيرة النبوية – 2000م. ومن هذه المؤلفات:
- المنهج الحركي للسيرة النبوية بثلاثة أجزاء، 1984.
- المنهج التربوي للسيرة النبوية (سبعة مجلدات).
- المنهج الإعلامي للسيرة النبوية (الشعر في عهد النبوة).
- فقه السيرة النبوية، وهو مقرر مادة السيرة النبوية في جامعة أم القرى والعديد من الجامعات العربية والإسلامية.
- التراتيب الإدارية في نظام الحكومة النبوية، تقريب وتهذيب.
- التربية السياسية للطفل المسلم.
- فقه التمكين في السيرة النبوية.
- أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية.
- الأخوات المؤمنات: (وقد قررته الرئاسة العامة لتعليم البنات بالسعودية كتابًا مساعدًا لمدة سبع سنوات لطالبات المرحلة الثانوية).
- كتاب الأربعين في سيرة سيد المرسلين.
- محمد صلى الله عليه وسلم (بالاشتراك مع آخرين).
- معاوية بن أبي سفيان.
- أبو ذر الغفاري.
- المسيرة الإسلامية للتاريخ.
- عمرو بن العاص (الأمير المجاهد).
- هند بنت عتبة.
- المسيرة الإسلامية لجيل الخلافة الراشدة- عهد الصديق- (تحرير العراق والشام والجزيرة).
- جولات نقدية في كتاب الخلافات السياسية بين الصحابة.
- الحركات القومية في ميزان الإسلام.
- سورية في قرن.
- سيد قطب ضد العنف.
- إليك أيها الفتى المسلم.
- إليك أيتها الفتاة المسلمة.
- أفكاري التي أحيا من أجلها.
- التحالف السياسي في الإسلام.
- نحن والغرب على ضوء السنن الربانية (العراق وأمريكا نموذجًا).
- من معين التربية الإسلامية.
- طرق تدريس المواد الدينية (للصف الثاني بدار المعلمات) (بالاشتراك مع آخرين).
- طرق تدريس المواد الدينية واللغة العربية (للصف الثالث بدار المعلمات) (بالاشتراك مع آخرين).
المصادر والمراجع:
- الدكتور منير الغضبان، كشف المستور،( سلسلة الريادة الذاتية )الطبعة الأولى، 1427هـ/ 2006م، حقوق الطبع محفوظة للمؤلف.
- عبده دسوقي: في ذكرى رحيله.. منير الغضبان وكشف المستور، مجلة المجتمع، 9 يونيو 2018.
- الدكـتـور منير الغضبان رجل السيرة وفقيهها: 10 سبتمبر 2018.
- مؤمن كويفاتية: رجال ونساء يستحقون التقدير الشيخ منير الغضبان، 2 يونيو 2014.
- وصفي عاشور أبو زيد: منير الغضبان .. حينما تتحول السيرة إلى ملحمة دعوية، 4 يونيو 2014.