كان من ذكاء وبراعة النبي – صلى الله عليه وسلم- حسن إدارته للموارد البشرية واكتشاف المواهب والكفاءات والطاقات لدى أصحابه وفي أمته، وحُسْن استثمارها.
وقضية اكتشاف الطاقات البشرية من أهم القضايا التي تُؤَرِّق الداعية الناجح، الذي إن أحسن استثمار مريديه، نفع بهم الأمة نفعًا كبيرًا، وحقق بهم التطور والازدهار والتمكين.
يقول أحد المفكرين: «إن معرفة الرجال بعمق من أدق أعمال الرئيس وأكثرها تأثيراً، إنها ينبوع القوة التي يملكها، إنها سر الرؤساء العظام»(1).
حقيقة الإنسان
خلق الله سبحانه وتعالى الخلق، وفضل الإنسان بحمل رسالته للأرض وتعميرها، فقال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30)، وقال تعالى: {وَأَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}(هود 61) ثم علمه ما لم يكن يعلم من أجل حسن القيام بمهمته في الحياة وتعميرها ونشر السلام والإسلام فيها، وتوحيد الربوبية والعبودية لله وحده، ومن ثم فالعنصر البشري هو الأساس لكل نهضة، وهو العماد لكل حركة، حتى يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها، فعن أنس بن مالك قال: قال صلى الله عليه وسلم: [إذا قامت الساعةُ وفي يدِ أحدكم فسيلةٌ، فإن استطاع ألا يقومَ حتى يغرِسَها فليفعل] (مسلم).
وعملية توظيف المواهب لم تقتصر على مجتمع الأنبياء وصفوة الخلق، بل هي صفة مصاحبة للقائد والمربي الناجح في كل زمان ومكان، ولقد كان يقين السلف بقدرتهم على البذل والعطاء نابعاً من استشعارهم المسؤولية الفردية القائمة على الإحساس بالعزة الإيمانية فجعلتهم مشاعل هداية، ونماذج فريدة في البذل والعطاء والتضحية فكان الواحد منهم بأمة.
قوة الأثر
كان سيدنا إبراهيم عليه السلام أمة في صفاته وأعماله كما وصفه الله بذلك، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} (النحل: 120).
وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تبين امتلاك قادة البشرية من الرسل والأنبياء والمصلحين مختلفَ القدرات والكفاءات التي تميزوا بها عن غيرهم من الناس، واستطاعوا أن يحققوا من خلالها آثارًا طيبة تَعْجَز عن تحقيقها الجماعات الكبيرة في الدهور الطويلة.
وهذا موسى عليه السلام حينما فر هاربا إلى مدين، برزت فيه صفتا القوة والأمانة، ولاحظتهما ابنتا الرجل الصالح في الوقت القصير الذي تعرفتا عليه فيه، فرشحتاه للعمل عند أبيهما: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ} (القصص: 26).
اكتشاف الطاقات لا تقتصر على نظرة فرد لآخر، بل لربما الشخص ذاته يستطيع اكتشاف طاقاته ويحسن توظيفها واستغلالها، وفي قصة يوسف عليه السلام خير دليل، حينما أعلن عن استحقاقه لمنصب رفيع في الدولة، واستعداده لمواجهة سنين القحط والجوع التي تهدد المجتمع: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 55)(2).
منهاج النبي
كان الرسول الكريم بارعا في اكتشاف الطاقات الفاعلة والمبدعة داخل المجتمع، وحُسن استغلالها وتوظيفها في مواقعها المناسبة، وتحديد قدراتها، من ذلك قوله لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود» (البخاري ومسلم)، وذلك لمَّا سمعه يقرأ القرآن، فاكتشف صلى الله عليه وسلم هذه الموهبة الصوتية الجميلة، ولم يمرَّ عليها مرور الكرام.
وأيضا حينما قال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس رضي الله عنه: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة» (أبو داود).
وزد على تلك الاكتشافات ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في صفات بعض أصحابه فقال: [أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح] ( صحيح على شرط الشيخين فيما رواه أنس بن مالك)
ولم يقتصر أمر اكتشافه للطاقات على الأفرد، إنما كانت له – صلى الله عليه وسلم – نظرة متفرسه في الشعوب والقبائل، فقال واصفا أهل اليمن: [جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ](رواه مسلم).
وما قصته مع زيد بن ثابت إلا دليل جديد على حسن اكتشاف المواهب وتوظيفها التوظيف الأمثل، فعندما رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت أُعجب به، وأدرك على الفور موهبته في الفهم السريع، والحفظ القوي، والذاكرة الحية، فقال له: “يا زيد تعلَّم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتاب”. قال زيد: فتعلمت كتابهم، ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب] (رواه الترمذي).
وهذا عبدالله بن مسعود الذي اكتشف صوته الندي بالقرآن فقال: [من سره أن يقرأ القرآن غضًّا كما نزل فليسمعه من ابن أم عبد]( رواه أحمد).، وهذا عبدالله بن عباس الذي اكتشف – رغم صغر سنه – مدى اتساع أفقه وإدراكه فقال صلى الله عليه وسلم: [اللهم فقِّه في الدين] فأصبح فقيه الأمة وحبرها، وهذا أسامة بن زيد – رغم صغر سنه – يرى فيه صفات الفروسية والقيادة، فيوليه قيادة الجيش وبه كبار الصحابة وأمهر الفرسان.
فالسيرة النبوية وتاريخ الصحابة والتابعين والسلف الصالح يزخر بكثير من النماذج التي تدل على حسن اكتشاف الطاقات واستغلالها الاستغلال الأمثل الذي حقق للأمة الإسلامية مجدا عتيدا.
قواعد نبوية في اكتشاف الطاقات
للنبي – صلى الله عليه وسلم – بعض القواعد التي اتضحت في سيرته من اختياره للطاقات وتوظيفها كما ينبغي، ويوضحها الدكتور رضا الحديثي – نائب رئيس مجلس إدارة أكاديمية الصحابة، ومدير موقع ومركز 4talents بالأردن:
- كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن البشر مختلفون في طباعهم وشخصياتهم. مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: [الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا] (البخاري ومسلم).
- النبي صلى الله عليه وسلم يميز الطبع من التطبع في خصال أصحابه، فقد وهب الله صفات لبعض الناس في طبعه وفطرته، كالنشاط والكرم والشجاعة، فإذا لم تكن تلك الصفات في شخص سعى لاكتساب مثل هذه الصفات. ولو نظرنا مثلًا إلى صفات مزاجية وانفعالية معينة؛ مثل الحلم والأناة والحياء والحمق والغضب وسرعة الانفعال وما شابهها؛ نجد أن جانبًا منها فطري، وجانبًا منها مكتسب يتمثل في التحكم والسيطرة على الصفة المزاجية قدر المستطاع، وهو المعنى الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: [وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه] (صحيح الجامع). والقول بأن الأخلاق لا تكتسب مردود عليه بالحديث: [ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله] (البخاري).
- وعرف النبي صلى الله عليه وسلم، الصحابة بنقاط تميزهم كالحديث الذي ذكرناه آنفا: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر ..).
- شجع النبي صلى الله عليه وسلم، وحفز أصحاب المواهب (كما فعل مع كثير من الصحابة).
- وظف النبي صلى الله عليه وسلم، نقاط التميز لدى الصحابة في مكانها الصحيح مثل: (توليته معاذ بن جبل رسول لأهل اليمن، ومصعب بن عمير حينما أوفده للمدينة في بداية الدعوة، وكزيد بن ثابت حينما دفعه لتعلم لغة يهود).
- كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتشف طاقات الصحابة منذ صغرهم ويدلهم عليها ويحدد لهم التخصص المناسب، كما فعل مع عبدالله بن عباس، ففي المستدرك على الصحيحين للحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة فوضعت له وضوءا، فقالت له ميمونة: وضع لك عبدالله بن العباس وضوءا، فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل). [صححه الحاكم ووافقه الذهبي والعراقي والبوصيري والألباني].
- وحذر النبي صلى الله عليه وسلم، الصحابة من المهام التي لا تناسبهم وبين لهم نقاط الضعف؛ كموقفه مع أبي ذر حينما طلب الولاية؛ فجاء رد الرسول عليه: يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها) (صحيح مسلم) أبو ذر الذي أتى بغفار كلها، من أوائل من أسلم من الصحابة، لا يتولى أي منصب ويصرح له بأنه ضعيف، وكأنها صيحة لاحترام التخصصات مع استمرار تقدير أهل الفضل، وهي رؤية إسلامية فريدة.
- ودل النبي صلى الله عليه وسلم، الصحابة على نقاط قوتهم التي قد يكونون لا يعرفونها؛ مثل موقفه مع أشج عبد القيس، الذي جاء بقومه كلهم مسلمين، فلما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقربه النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسه إلى جانبه، وقال له فيما قال: [إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ].
- ميز النبي صلى الله عليه وسلم، بين مواهب الكفار ونقاط تميزهم (حينما دعى أن يهدي الله أحد العمرين عمر بن الخطاب، وعمرو بن هشام (أبوجهل) لما تميزا به من القوة والثبات على المبدأ) (3).
إهدار الطاقات
ابتليت الأمة الإسلامية ببعض من يتولون مناصب القادة فكانت من أشد أخطائهم وأد الذات لدى الآخرين، سواء في العصور الإسلامية الأولى أو الحالية ومن صورها التي ذكرها الدكتور حازم محمد اللهيبي (أستاذ العلوم المعرفية والباراسيكولجي في العراق):
- ألاَّ تُستغل المواهب الخاصة والقدرات الفردية لدى الأفراد كل واحد منهم بحسبه، فتُقتل القدرات ويُخنَق الإبداع.
- لا يُنظر إلى الجميع عند توزيع الأعمال، بل تتكرر الوجوه نفسها دائما بصرف النظر عن كفاءتها في الإنجاز، وهذا يقتل الفئتين، فالعاملة تُنهك بالأعمال، والأخرى تبقى أرقاماً لا إضافة لها في واقع الحياة.
- الحكم بالإخفاق الدائم علـى من يُسـند له عمل مـا، ثم لا يتقنه، في الوقت الذي قد يحسن غيره، بل ربما كان الخلل ابتداءً في إسناد هذا العمل له وهو لا يحسنه (4).
أخيرا
إن القدرة على الاستفادة من مكامن التفوق، والتميز لدى المرؤوسين بأفضل ما يمكن يعتبر من مسلّمات الإدارة الناجحة. ولكي يتحقق هذا كان لزاما على الدعاة والمربين معرفة وتمييز هذه المكامن لدى أصحابهم، والسير على منهج النبي صلى الله عليه وسلم في اكتشاف ذلك وحسن توظيفها.
وعدم المعرفة المسبقة بالطاقات الموجودة وتوظيفها في وقت السعة والرخاء يجعل العثور عليها في وقت الضرورة شاقاً وعسيراً، كما أنه حتى وإن – تم اكتشافهـا – آنـذاك قـد لا يكون هناك وقت لتطويرها وصقلها بالشكل المناسب.
المصادر
- عاطف عبدالله المكاوي: العلوم الإدارية، مؤسسة طيبة للنشر والتوزيع، طـ1، 2012، صـ137.
- علي القحطاني: اكتشاف الطاقات وتوظيفها، 8 نوفمبر 2007،
- رضا الحديثي: قواعد في منهجية النبي في اكتشاف الطاقات الدعوية وتوظيفها (ورشة عمل)، 31 مايو 2020، ، وانظر محمد محمود: الأخلاق بين الطبع والتطبع، https://bit.ly/3vBtmrL
- حازم محمد اللهيبي: المقاييس العلمية لكشف الموهوبين والمبدعين نماذج نظرية وتطبيقية عملية، 2012، https://bit.ly/3nESivH