يموج العالم الآن بلغة الانفرادية بالرأي، وضعفت ثقافة الحِوَار البّناء الهادف فلا يَسمع الفرد إلا نفسه وذاته وقراراته، ولا تسمع الأنظمة إلا لمصالحها وما يحفظ كينونتها، ولا يسمع الحاكم لشعبه، حتى أصبحنا نُشكك في ما يطرحه غيرنا أو من يتحدث معنا عن أي قضية.
لقد صار التعصب في طرح الرأي سمة عامة، ومن يخالفنا فهو ضدنا وعدونا ونختلق معه العَداوات والمشكلات من دون ذنبٍ اقترفه سوى أنه أفصح عن وجهة نظره بمُنتهى الصدق والأمانة والإخلاص، لذا نجد أن القرآن الكريم أعلى من قيمة التربية بالحوار والنقاش الإيجابي، حتى يسود العدل والسلام والتوافق بين الناس.
مفهوم التربية بالحوار
إنّ التربية بالحوار من الأمور والقيم المهمة في حياة البشرية، ودونها يصبح الكون شعلة من نار الاختلافات والنزاعات والحروب، ويعود أصل كلمة الحوار إلى الحَور وهو الرجوع، وحار: أي رجع، وهم يحاورون أي يتراجعون، وحاورته أي راجعته الكلام.
إذا الحِوار هو: التناقش بطريق الكلام المباشر بين مجموعة من الأشخاص الذين يمثلون اتجاهين متخالفين بطريقة هادئة يحترم فيها كل طرف الطرف المقابل له، دون التعصّب لرأيه أو جماعته، وتكون الغاية من الحوار الوصول إلى الحقيقة من خلال عرض الأفكار ووجهات النظر المتعددة.
ويعني أيضًا: التعاون والتباحث بين طرفين مُختلفين بهدف الوصول إلى حقيقة معينة ومعرفتها والاطلاع على تفاصيلها، بعد أن يكشف كل طرف ما لديه تجاه الآخر(1).
أهداف التربية بالحوار البناء
وتهدف عملية التربية بالحوار البناء إلى التفاهم والتلاقي على مساحات مشتركة، وأهداف إنسانية عامة لا تمييز فيها على أساس الدين أو اللون، أو الجنس أو غيرها، ومن ثم فمن أهدافها:
- التعرف إلى وجهات نظر الأطراف الأخرى، للوقوف على حلّ وسطي يرضي الأطراف المختلفة.
- دفع الفاسد من القول والرأي، وتعديل الأفكار غير الصحيحة وتقويمها.
- حصر نقاط الاختلاف في وجهات النظر وإيجاد حلول لها، مع إقناع الطرف الآخر بالاستناد إلى أدلة واضحة.
- العمل على تحقيق التماسك بين أفراد المجتمع الواحد وبناء جسور التعاون.
- تحقيق العدالة بين الجميع.
- وتنمية مهارات فن التواصل مع الناس.
- خلق جيل واعي مثقف وقادر على الاستماع للآخر واحترامه(2).
اهتمام الإسلام بالحوار
لقد أولى الإسلام موضوع التربية بالحوار أهمية فريدة ووضع معالم ذلك في أرقى صورة، وجعل من الحوار وسيلة هادفة ذات قواعد وآداب ورسالة شريفة، تخدم الحق، وتدور في فلكه.
ولقد اتّسم الحِوَار في القرآن الكريم بالتنوع والاشتمال على جميع أوجه الحياة، فنراه يسوق قصص حوار الأنبياء مع أقوامهم بمختلف لغاتهم، وكذلك حوار أهل الحق والباطل، وحوار بني إسرائيل مع أنبيائهم.
يقول الله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}[الكهف: 34].
وقال تعالى مؤكدا حسن الحوار بالكلمة الطيبة: {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}[طه:43-44].
وطالب أنصاره بالحوار الحسن مع الناس فقال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125].
وقال الحسن بن علي لابنه- رضي الله عنهما-: “يا بنيّ إذا جالست العلماء؛ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلًم حُسْنَ الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ولا تقطع على أحد حديثا- وإن طال- حتى يُمسك”.
ويقول ابن المقفع: “تَعلَّمْ حُسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام؛ ومن حسن الاستماع: إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي لما يقول)(3).
حوار سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل
ساق لنا القرآن الكريم حوارًا رحيمًا بين أبٍ مأمور بتنفيذ أوامر الله وقلبه الشفوق على والده، وبين ابنٍ فهم معاني الرسالة التي بعثها الله له، غير أنّ الأمر لم يجرِ بأوامر تسلطية من الأب لابنه، لكنه جاء في حوار تربوي تحققت فيه معاني التربية بالحوار وتجلت فيه الرحمة بعد الاستجابة للتنفيذ من كلا الطرفين، فسبق الحوار اشتياق إبراهيم- وقد بلغ من العمر أرذله- إلى الولد وإلحاحه على الله أن يرزقه ولدًا.
يقول تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات:100-102].
حوار مُوجز لكنه لخّص ما قد يتخيّله العقل من سجالات ونقاشات دارت بين الأب وابنه، وقد استخلصت منه الدكتورة أمل كاظم زوير ما يلي:
- أهمية دراسة أسلوب الحوار القرآني في التعامل مع الأبناء، وأثره في تربيتهم وتوجيههم، لحل المشكلات التي تعترضهم، بحيث ينشأ الطفل وهو متسلح بمهارة الحوار.
- شرع القرآن الكريم للطفل من الحقوق ما يحفظ عليه حاضره، ويؤمن مستقبله.
- نلحظ في هذا النص القرآني مدى قوة العلاقة بين الأب والابن إذ يغلب عليها الحب والعاطفة ونستنبط منه ضرورة استشارة الطفل واستعمال أسلوب الحوار والمناقشة معه.
- يُعد الحوار الهادئ المتّزن، المقرون بالموضوعية والأدب والاحترام والصراحة، الوسيلة المُثلى لتحقيق الغايات، وتنمية الثقافة بشكل راقٍ ومهذب.
- يجب على الآباء الامتناع عن اللجوء إلى العقاب مباشرة عند خطأ أولادهم، وليستبدلوا العقاب بحوار ونقاش طويل لتعليمه طبيعة الخطأ الذي ارتكبه ومآلاته كيف لا يقع فيه مرة أخرى.(4).
حوار لقمان والأصول التربوية
اشتملت نصائح لقمان الحكيم لابنه على أصول التربية بالحوار والنقاش القويم، حيث استعمل أسلوب النداء من باب المجاز لطلب حضور الذهن لوعي الخطاب، وبدأها بأخطر المهلكات وهي الشرك بالله، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} حتى{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}[لقمان:13-19].
واشتَملت القصة على العديد من الأطر التربوية التي سطرها الأب لمعالم طريق ابنه والتي استخدم فيها أسلوب الحوار الوعظي المغلف بحنان الأب، ومنها:
- تعهد الأب ابنه بالنصح والتوجيه، وهو ما يزال تحت كنفه؛ وبالأخص في المراحل الأولى من العمر التي يتهيأ فيها الأبناء لاكتساب القيم.
- انطلاق وصايا لقمان من الحكمة فهي لم تكن اعتباطًا، بل كانت عن معرفة وخبرة.
- استخدم فيها وسائل الإقناع المتنوعة ما بين تعليل الأمر وبيان سببه، أو تقبيح المنكر وتعظيم خطره، أو تحسين المعروف وذكر فضله، ثم ربط هذه التوجيهات بمراقبة الله والعمل للآخرة.
- اعتبرت وصايا لقمان تسعى إلى بناء الشخصية المتوازنة، فلا تجنح إلى طرف على حساب الطرف الآخر.
- توجيهات تراعي الأولويات، وَفْق ميزان الشرع، فتقدم ما هو أَوْلى بالتقديم، وتُؤخر ما حقه التأخير(5).
إن الالتزام بالحوار وآدابه منهجية إسلامية وركيزة من ركائز العمل الإسلامي، فهو لغة الأقوياء وطريقة الأسوياء وما التزمه إنسان إلا كان الاحترام والتقدير نصيبه من قبل الأطراف الأخرى بغض النظر عن قبوله.
ولا شكّ بأن امتلاك مهارات الإقناع يحقق للإنسان مكاسب حياتية مختلفة، بل القدرة على الإقناع هي سر النجاح في حياتنا العامة والخاصة، وتُمثل حجر الزاوية والعمود الفقري لكثير من المهن والتخصصات، وهو ما يجعل الحاجة ماسة إلى إتقان أساليب الإقناع في تربية الأبناء.
المصادر والمراجع
- عماد أبو صالح: فن الحوار، وزارة الشوؤن السياسية والبرلمانية، الأردن.
- علي بن راشد المحري المهندي: أهمية الحوار في حياتنا.
- عبدالله بن سليمان المشوخي: الحوار وآدابه في الإسلام، طـ1، مكتبة العبيكان، الرياض، 2009، صـ21 وما بعدها
- أمل كاظم زوير الزيدي: المنهج القرآني في تربية الأبناء بالحوار (دراسة تفسيرية- موضوعية) مجلة التراث العلمي العربي، العدد الثاني، 2014، صـ 391- 392
- فؤاد بن صدقة مرداد: أساليب الإقناع واستخداماتها في تعزيز القيم (دراسة تحليلية لحوار لقمان مع ابنه)، كلية الاتصال والاعلام، جامعة الملك عبدالعزيز، جدة، 2018م، صـ 30 وما بعدها.