خلق الله تعالى الإنسان وأودع فيه من الغرائز ونوازع الخير والشر ما يتحقق به الابتلاء والامتحان، ومن هذه الغرائز ما يُؤدي إلى النزاعات بين الناس، فتظهر السلوكيات العدائية وتحدث التفككات الأسرية والتمزقات المجتمعية التي تقضي على البقية الباقية من دين الإنسان وأخلاقه، لذا نبّه القرآن الكريم على خطورتها، وأوجد من الأساليب والوسائل المراعية للنفس البشرية ما يمنع حدوثها.
لقد رتّب الله – تبارك وتعالى- الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن أسهم في إنهاء الخلافات وساهم في حلها؛ فقال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
لذا، لزامًا علينا أن نتعلم كيف نختلف، وكيف نُمارس فقه الخلاف في واقعنا، لئلا يصل بنا إلى ما لا يرضى الله عنه، ومع ذلك فإذا ما وقع المسلمون في منازعات فإن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد بينا الآليات المناسبة لحلها.
تعريف النزاعات
النزاعات في اللغة جمع نزاع: وهو مأخوذ من نزع، ولفظ نزع يأتي لعدة معانٍ منها: النزع: القلع والجذب. والنزع من المنازعة ويراد بها الخصومة، والمنازعة في الخصومة، مجاذبة الحجج فيما يتنازع فيه الخصمان.
ويدل النزاع على معاني الجدل والخصومة والصراع والعدوان، وبين هذه المصطلحات علاقة عموم وخصوص؛ فجميعها يحمل معنى الآخر ويدل عليه، كما أنها تحمل معنى الجانب والناحية، وأثر كل من المنازع والمخاصم والمعتدي والمصارع قد اتخذ جانبًا، كما أنها تحمل معنى المجاذبة والمجادلة والقلع. فالنزاع يدل على مراتب الخلاف المتعددة التي تعد كل منها صورة من صور النزاع وهي: الجدل ثمّ الخصومة ثمّ العدوان ثم الصراع.
والنزاع في الاصطلاح هو العلاقة التي تحكم بين طرفين أو أكثر ويعتقد عدم وجود التوافق بينهما في الأهداف، وهذا التعريف يظهر أنّ النزاع نتيجة تعارض المصالح عند أطرافه؛ لتبني وكل طرف من الأطراف له أهداف لا تنسجم مع أهداف الطرف الآخر.
النزاعات في القرآن الكريم
الخلاف بين الناس أمر طبيعي وجائز، وسنة إلهية، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ …} [هود: 118-119]، ومن هنا لم يكن من مقصود الشرع القضاء على الخلاف ومنعه، وإنما أراد أن نرجع إليه مذعنين لحكمه فيما اختلفنا فيه، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65].
وقد ورد لفظ النزاعات في القرآن الكريم للمعاني التي ذكرها أهل اللغة، ومن الآيات التي ذكر فيها هذا اللفظ:
النزاع بمعنى المجادلة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}[الكهف:21].
والنزاع بمعنى المجاذبة، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[القصص:75].
والنزاع بمعنى القلع، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}[الحجر:47]
أمّا النزاع بمعنى المخاصمة والصراع، ففي قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:46].
أضرار الخلافات
إنّ أضرار النزاعات عديدة؛ فهي تُؤدي إلى الفشل وضعف القوة والهزيمة وتُمكن أعداء الأمة، كما أنها مدخل واسع من مداخل الشيطان يتمكن بها من إفساد العقيدة ونشر الكراهية بين الناس وإشاعة البغضاء بين الأخ وأخيه بل بين الابن وأبيه. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ”. رواه مسلم عن جابر بن عبدالله.
وذلك التنازع والتطاحن المُر من خصائص الجاهلية المظلمة ودیدن من لا إيمان لهم، ولن يخرج الناس من مضيق الخلاف والشقاق إلى بحبوحة الوحدة والاتفاق إلا إذا اعتصموا بحبل الدين المتين الذي أمر برفع الشقاق والتنازع، والاستمساك بحبل الوحدة وشد أواصر الإخاء.
لقد أفاضت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في النهي عن الخصومة ودواعيها، وفي الحض على التسامح والعفو وكظم الغيظ وقبول العذر، وكل ذلك توصلا إلى الصلح الذي به تنهی الخصومات وتزال الخلافات وتتوثق الصلات.
وورد في التخويف والترهيب من المشاحنة، قوله صلى الله عليه وسلم: “تُفتحُ أبوابُ الجنةِ يومَ الاثنينِ ويومَ الخميسِ، فيُغفرُ لكلِّ عبدٍ مسلمٍ لا يُشركُ باللهِ شيئًا إلا رجلًا كانت بينَه وبينَ أخيه شحناءُ، فيُقال: أَنْظِروا هذينِ حتى يَصطلِحا، أَنْظِروا هذينِ حتى يَصطلِحا” رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “من تركَ الكذبَ وهو باطلٌ بُنيَ لهُ في ربضِ الجنةِ ومن تركَ المراءَ وهو محقٌّ بُنيَ لهُ في وسطِها ومن حسُنَ خُلقُهُ بُنيَ له في أعلاها” حديث حسن، رواه ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
أساس العلاقات بين المسلمين
الإسلام دين التوحيد الذي شرعه الله لتجتمع عليه كلمة أتباعه وتتوحد صفوفهم، فقال تعالى محذرًا من النزاعات والفرقة ومذكرًا بحال السابقين ممن لم يعرفوا قيمة الاجتماع والائتلاف: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:105].
والأصل في الجماعة المسلمة أن تقوم على المحبة والسلام والتعاون والوئام فيما بينها، والتعايش والاحترام المتبادل مع غيرها، ويحرص الإسلام حرصًا شديدًا على سلامة الأمة وحفظ كيانها، ويطفئ بحزم بوادر الخلاف، ويدعو أتباعه إلى التكاتف والتعاون على إخراج الأمة من دواعي الشقاق، فإذا حدث الخلاف ووقع الشقاق والنزاع وَجَبَ تطبيق قانون الإخاء؛ حماية وصيانة لمقام الأخوة أن يهدمه ذلك الداء.
لقد جاء الإسلام فهذّب النّفْس الإنسانية، فنزع منها الغل وحارب الحقد والحسد والعصبيات الذميمة، بل ومنع الجهاد ورد العدوان في بداية الدعوة؛ ليس فقط خوفا على الفئة والعصبة الناشئة من أن تتعرض للفتك والإبادة، وإنما لأمر هو أعظم من هذا وهو تخليص النفس من شوائب الهوى والحمية والعصبيات في رد العدوان، وإخلاص النية لله تعالى وحده؛ فإذا ما أعلن الجهاد شارك فيه المؤمن بنية متجردة، لا يخالطها روح الانتقام وحب الثأر.
وقد كان الصحابة كغيرهم من العرب يتصفون بالأنفة والإباء ورفض الظلم والضيم، فكان يخشى من مشاركتهم في الجهاد في بداية الدعوة وفي نفوسهم بقایا رواسب تلك العادات، فلما أن علمهم الصبر والجلد وتحمل الأذى في سبيل الله تعالى وَصَفَت نفوسهم أباح لهم الجهاد ورد العدوان؛ لأن الرد هنا أصبح غضبا وحمية لله تعالى لا للنفس.
فأعاد الإسلام للبشرية فطرتها القوية التي فقدتها، فنزع العداوات القائمة بين الناس، وأبدلها بالأخوة في أعلى درجاتها وأعظم صورها، فقدمت الأخوة الدينية على الأخوة النسبية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[التوبة:23].
ولم يقتصر الشارع الحكيم على جعلها ثقافة وشعارات فحسب، كما أنه لم يجعل الأخوة الإيمانية محصورة في المكان والزمان والأشخاص، بل جعلها عامة لكل مؤمن وفي كل مكان وزمان، بغض النظر عن جنسه أو لونه أو لغته، أو عمله أو غناه أو فقره، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر:10].
ثمّ أوجدها المسلمون في حياتهم العملية واقعا مُعاشا، فكان التعايش بينهم قائمًا على أساس الأخوة وهو ما امتن الله به على عباده فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا …}[آل عمران:103]، فأصبحت علاقة المسلم بالمسلم القائمة على الأخوة، والألفة، والمحبة، والرحمة، والنصرة، والسلام هي الأصل، وجعلت هذا الأصل جزءًا من عقيدة المسلم ودينه وسلوكه.
الأخوة في القرآن والسنة
وقد بيّنت النصوص الشرعية أنّ مَن قصّر في هذه الأخوة فإن إيمانه بحاجة إلى مراجعة، إذ نفت هذه النصوص الإيمان عمّن لم يراع الأخوة الإيمانية وحقوقها ولوازمها، فكانت الأخوة دينا، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]، وهذا التعبير القرآني البليغ يعرف في اللغة يأسلوب القصر، أي أن العلاقة بين المؤمنين لا بُد من أن تكون الأخوة الإيمانية أساس لها.
وجعل هذه الأخوة لا حد لنهايتها فهي أخوة في الدنيا، وتمتد وتستمر لتكون كذلك في الآخرة في الجنة إن شاء الله، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ …} [الأعراف:43].
وترتب على هذه الأخوة الإيمانية الكثير من الحقوق والواجبات للمؤمنين مع بعضهم، راعى فيه الشارع أبسط الأمور وأصغرها، وجعل للمشاعر والأحاسيس فيها نصيبًا، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ” رواه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
ونهى الإسلام عن النزاعات والخلافات، وأمر المسلم بالانتهاء عن كل ما يُؤذي أخاه المسلم ولو كان ذلك الإيذاء هو مجرد النجوی، مراعاة لمشاعر وأحاسيس المؤمن وحفظًا لسلامة الصدور، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “إذا كُنْتُمْ ثَلاثَةً، فلا يَتَناجى اثْنانِ دُونَ صاحِبِهِما، فإنَّ ذلكَ يُحْزِنُهُ” رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود.
وتحدثت كثير من النصوص الشرعية عن حقوق المسلم على المسلم، منها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه- عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “حَقُّ المسلِمِ على المسلِمِ ستٌ: إذا لقيتَهُ فَسلِّمْ علَيهِ، وإذا دَعاكَ فأجِبْهُ، وإذا استنصَحَكَ فانصَحْ لهُ، وإذا عَطسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وإذا مَرِضَ فَعُدْهُ، وإذا ماتَ فاتْبَعْهُ”.
بل إنّ علاقة المسلم بغير المسلم قد بينتها نصوص القرآن ووضحت أن الأصل فيها هو المسالمة ما كفوا أيديهم وألقوا السلم، ولم يتعرضوا لمسلم ولا لدينه باللمز والانتقاص، وأن العلاقة تكون قائمة على أساس الأخوة الإنسانية – الواردة في بعض الآيات القرآنية الكريمة، فهي العامل المشترك بين بني البشر، وهي التي يُمكن أن يعيش الناس جميعًا في ظلها وتحت رايتها في سلام وأمن.
هذه الأخوة الإنسانية واردة في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ}[الشعراء:106]، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ}[الشعراء:124]، وقوله: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ}[الشعراء:142]، وكذلك قول جل وعلا: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ}[الشعراء:161].
وليست الأخوة هنا أخوة نسب باعتبار أن نسبية الأنبياء إلى أقوامهم، فسيدنا لوط – عليه السلام- لم يكن من هذه القبيلة وإنما هاجر إليها مع سيدنا إبراهيم – عليه السلام-، قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:71].
والإسلام ليس ذلك الدين الذي لا يعترف بالآخر ولا يتعايش معه، ويضمر له الكيد والمكر والعداء، بل على العكس، فالنظام الإسلامي من أسسه الاعتراف بالآخرين ومعتقداتهم، بل نهى عن إكراههم الدخول في الإسلام، فقال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:256].
أمّا إذا ما بدر من غير المسلمين ما يدعو لغير ذلك مما يتعلق بأمور الدين والشريعة فإن المسلم وبتعاليم ونصوص القرآن لا يجد غضاضة في إظهار وإعلان العداوة والمواجهة، ولا يستجيز لنفسه كما لا يجيز له دينه إضمارها، وإظهار خلافها مداهنة، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}[الأنفال:58].
الآثار السلبية للخلافات
نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عن النزاعات والتفرق وأخبر أنها من الأمور المذمومة التي لا يرضاها الله تعالى، كما أنّ التآخي والتحاب أمر يرضاه الله، فقال – صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أنْ تَعْبُدُوهُ، ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، وأَنْ تَعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا، ويَكْرَهُ لَكُمْ: قيلَ وقالَ، وكَثْرَةَ السُّؤالِ، وإضاعَةَ المالِ”. رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ويؤكد رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في كثير من الأحاديث حرصه على اجتماع الكلمة والتنفير من الاختلاف والافتراق، واتبع مختلف الوسائل لإيضاح ذلك المعنى، فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- قال: خطّ لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- خطًّا ثم قال: “هذا سبيل الله”، ثمّ خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثمّ قال: “هذه سُبل” قال يريد: متفرقة – “على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثمّ قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام:153]. حديث صحيح أخرجه أحمد والنسائي.
ويرتبط النزاع بكثير من الأخلاق السيئة التي تطيل أمده وتوغر الصدور وتورث العداوة، ومن هذه الأخلاق السيئة: الغيبة والنميمة وسوء الظن والسخرية والهمز واللمز والتنابز والغش والمكر والخداع والغدر والتباغض والتدابر والهجر وغير ذلك مما يكون سببًا في المباعدة بين الإخوة والمتحابين.
إنّ الغيبة والنميمة من الأمور التي ورد النهي عنها لأنها تكون سببا للقطيعة والهجران وفصم عرى الأخوة والإيمان، قال تعالى: {… وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}[الحجرات:12]، وقال – صلى الله عليه وسلم-: “… كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ، دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ”، رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأما سوء الظن، فهو من أعظم أمراض القلوب وأخطرها، رغم تساهل بعض الناس فيه، فقد حذرنا الله ورسوله منه وبين خطورته فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ…}[الحجرات:12] وقال صلى الله عليه وسلم: “إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدابَرُوا، وكُونُوا عِبادَ اللَّهِ إخْوانًا”، رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وتُعد السخرية والهمز واللمز والتنابز، صفات تجتمع كلها في عظیم خطرها وكبير إثمها الذي يسبب الشحناء والبغضاء ويؤدي إلى التنازع والتقاطع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات:11]. كما ثبت في الصحيح عن رسول الله أنه قال: “الكبر بطر الحق وغمط الناس”.
والغش والمكر والخداع والغدر، صفات قبيحة لها آثار سيئة في العلاقات بين المسلمين، ومن اتصف بها يكون من المنافقين، فقد ثبت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قوله: “من غشنا فليس منا”.
أسباب النزاع
إن القوة والنصر مع الوحدة والجماعة؛ وحدة الرأي، ووحدة القيادة، ووحدة القوة، وإن الهزيمة والفشل مع النزاعات وتعدد القيادات حتى لو كثر العدد، فعن النعمان بن بشير، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: “الجماعة رحمة والفرقة عذاب”. حديث صحيح رواه أحمد والبيهقي.
وقال ابن تيمية رحمه الله: “فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا”.
ولقد نبه المولى سبحانه عباده المؤمنين على ذلك، وأمرهم بالاجتماع على طاعة الله وطاعة رسوله – صلى الله عليه وسلم- ليتحقق لهم النصر على عدوهم، ولكن إن أبوا إلا التفرق والاختلاف فمآلهم الهزيمة والفشل. يقول الله – عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 45-46].
ولما كان النزاع بهذه الخطورة وهذا الضرر كان الصحابة – رضي الله عنهم- أبعد ما يكون عنه، وأسلم الناس منه. ونعرف هنا إلى أسباب النزاع وأنواعه؛ لعل ذلك يكون سببا في اجتنابها وائتلاف القلوب وتجمعها على كلمة سواء.
أولًا، الأسباب الفكرية والعقدية: فالنقاش والاختلاف الفكري سواء كان بين الأفراد أو بين الجماعات أمر محمود بل هو أمر مطلوب، إذا كان الغرض منه الوصول إلى الحق، وقام على أساس مقارعة الحجة بالحجة، وصحبه حسن النية، وخلا من التعصب الذميم، ولم ينتج عنه شحناء أو بغضاء أو تقاطع أو فرقة وشتات.
والاختلاف سنة إلهية، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فمن سنن الله تعالى في خلقه اختلاف الفهوم والمدارك، ومستوى العلوم، فقد يكون عند هذا ما ليس عند ذاك، فينشأ عن ذلك اختلاف في الرأي.
وإذا كان الغرض من الاختلاف الوصول إلى الحق فلا بأس، وهذا النوع من الاختلافات كان يحدث في زمن النبي بين أصحابه؛ فقال – صلى الله عليه وسلم-: “اقْرَؤُوا القُرْآنَ ما ائْتَلَفَتْ عليه قُلُوبُكُمْ، فإذا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عنْه” رواه البخاري من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
والنبي – صلى الله عليه وسلم- لم يأمر أصحابه بأن يقوموا إذا اختلفت أقوالهم في معنى اللفظ أو في المقصود منه، وإنما إذا اختلفت القلوب؛ لأنه في الصورة الأولى أقرب إلى المناقشة العلمية منه إلى النزاع، بخلاف الصورة الثانية التي أمر النبي عند حدوثها القيام من هذا المجلس.
وأما النزاع الفكري المذموم فهو ذلك النزاع الذي لا يقصد منه الوصول إلى الحق وإبرازه بقدر ما يراد منه ظهور الشخص، أو الانتصار للرأي، أو يقصد منه تحقيق مصالح خاصة، أو يقصد منه إحداث فرقة في الصف الإسلامي الواحد، أو إحداث بلبلة ولغط علمي وتشويش فكري، أو صاحبته مخالفة شرعية، أو أدى إليها.
ثانيًا، النزاع المادي: إذا كان النزاع الفكري محصور بين فئة مخصوصة من العلماء وطلاب العلم والمفكرين، فإن النزاع المادي أكثر انتشارا وظهورا، وقد يكون على الصعيد الأسري وبين الأفراد أو الجماعات والهيئات أو الدول، لكنه مثل النزاع الفكري فيما إذا أريد به الوصول إلى الحق والإنصاف من النفس فهو محمود، وإن كان الغرض منه الحصول على ما ليس له فهو مما لا يجوز.
ولكثرة صور هذا النزاع وكثرة أطرافه فقد أبرز الوحي العديد من الحلول المناسبة لكل نزاع، ذلك أن الإسلام يهدف إلى المحافظة على أمة الإسلام وكيانها، وحرص على إطفاء كل خلاف، ووأده قبل ولادته، فقطع أسباب الخلاف ابتداء، وحذر منه.
وسائل حل النزاع في القرآن الكريم
يعد الحوار والتفاوض والوساطة من الوسائل المُثلى للتعامل مع النزاعات والخلافات، سواء لتجنبها ابتداءً أو لمعالجتها، ومن هنا كانت وسائل وقائية وعلاجية للنزاع في ذات الوقت؛ وقبول أطراف النزاع بإحدى هذه الوسائل في حد ذاته عمل إيجابي كونه يُذیب جليد القطيعة ويحد من التوتر والتأزيم.
يضاف إلى ذلك – وهو الأمر الأهم- أنها تُساعد على تفهم كل طرف من أطراف النزاع، المعطيات ومطالبات وظروف الطرف الآخر، كما أنها تمكن الأطراف المتنازعة من إبداء وجهة نظرها بشكل واضح لا لبس فيه.
إنّ الحوار هو الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، والحوار هو مراجعة الكلام، قال المناوي: “والمحاورة والحوار: المراددة في الكلام ومنه التحاور”، والحوار له صور متعددة وآليات عمل وبرامج وأهداف تفضي بمجموعها في الغالب إلى فض النزاع والحد منه.
ولأهمية وتأثير الحوار نجد أنّ القرآن الكريم قد تحدث عنه صراحة أو دلالة، في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}[الكهف:34]،
وإذا نظرنا إلى أول نزاع سياسي وقع بين الصحابة نجد أنّ حله كان بالحوار، وذلك في أعظم وأول قضية سياسية وهي مسألة الخلافة، فقد اجتمع جمع من الأنصار في السقيفة يريدون تنصيب سعد بن عبادة خليفة لهم، وهذا ليس افتئاتا على حق المهاجرين، وإنما لظنهم أنّ المهاجرين سيعودون إلى مكة بعد موت رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فخافوا من تجمع العرب وغزوهم المدينة، فاجتمعوا لتدارس هذا الأمر.
فلما علم أبو بكر وعمر بذلك سارا إليهم مع أبي عبيدة – رضي الله عنه-، ودار بينهم الحوار المعروف الذي أفضى إلى مبايعة أبي بكر فكان حوارا ناجحا ومثمرا، قطع الخلاف وسد أبواب الفتنة في أكبر وأول قضية سياسية، كادت تشق الصف الإسلامي، وتودي به، وذلك لأنه كان قائما على الحجة والبرهان والإقناع، مجردة من النزعات الضيقة.
وأمّا الجدال فهو في حقيقته اللغوية والاصطلاحية عبارة عن نوع من الحوار، شريطة أن يكون هادئا وحسنا، فهو بهذا يسمي حوارا ومناقشة، كما في قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46].
والتفاوض هو عملية اتصال بين شخصين أو أكثر يدرسون فيها البدائل المختلفة للتوصل لحلول مقبولة لديهم أو بلوغ أهداف مرضية لهم، وتنشأ أهمية علم التفاوض من زاويتين أساسيتين: الأولى ضرورته، والثانية حتميته.
ونحن نعيش عصر المفاوضات، سواء بين الأفراد أو المؤسسات أو الدول والشعوب، فجميع جوانب حياتنا هي سلسلة من المواقف التفاوضية، وتظهر ضرورة علم التفاوض ومدى الأهمية التي يستمدها من العلاقة التفاوضية القائمة بين أطرافه أي ما يتعلق بالقضية التفاوضية التي يجري التفاوض بشأنها وتلك هي الزاوية الأولى.
أما زاوية الحتمية، فنجد أن التفاوض قد يكون في بعض الأحيان هو المخرج الوحيد الممكن استخدامه لمعالجة بعض القضايا، فأحيانا يكون كل طرف من الأطراف لديه درجة معينة من السلطة والقوة والنفوذ لكنه في الوقت نفسه ليس لديه كل السلطة أو النفوذ أو القوة الكاملة لإملاء إرادته وفرضها إجباريّا على الطرف الآخر ومن ثم يصبح التفاوض هو الأسلوب الوحيد المتاح أمام الأطراف التي لها علاقة بالقضية وتريد الوصول إلى حل لها.
وفي الوساطة يقبل طرفي النزاع تدخل طرف ثالث “الوسيط” بهدف المساعدة بطريقة تطوعية في الوصول إلى اتفاق يكون مقبولا للطرفين، ومن صفاته:
- الحياد: أن يكون غير منحاز إلى طرف.
- العدل: عدم ترجيح كفة طرف على آخر.
- كتمان السر.
- الإنصات الجيد.
- التواصل السليم والواضح.
- أن يكون مؤثرا يوجه مشاعر وأحاسيس أطراف النزاع ويشجعهم على تحديد الدواعي.
- لا يمتلك سلطة اتخاذ القرار وهذا ما يميز دور الوسيط عن دور المحكم أو القاضي الذي يمتلك السلطة لإملاء قراره على الأطراف.
وسائل الوقاية من الخلافات
لقد دعا الإسلام إلى معالجة النزاعات الحاصلة بين الأطراف المختلفة، ولم يكتف بذلك بل شرع جملة من الأمور من شأنها أن تمنع حدوثها ابتداء، وأول هذه الأمور طاعة الله ورسوله.
يقول صاحب الظلال في تفسير قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:46،]: “هذا الأمر من عمليات “الضبط” التي لا بد منها، إنها طاعة القيادة العليا، التي تنبثق منها طاعة الأمير، وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله، فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه، وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار.
فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم – مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة- فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها، وإنما هو وضع “الذات” في كفة، والحق في كفة، وترجيح الذات على الحق ابتداء.
ومن الوسائل التي شرعها الإسلام لمنع حدوث النزاع وتصاعده ما يلي:
الشورى والأخذ برأي الغالبية فيما لا يخالف الشرع، فمن المعروف أن الشورى مبدأ إسلامي عظيم وأساس من الأسس البارزة في النظام السياسي الإسلامي، وقد جاءت النصوص في القرآن والسنة الدالة على فضلها وعلى أهميتها وأثرها.
والشورى تُجنِّب المجتمع ويلات الظلم والاستبداد، فيكون هناك المسؤولية الجماعية بعيدًا عن الفردية الطاغية، ومِن بركتها الشعور بالثقة والأمان بين أفراد المجتمع، ومِن بركتها – أيضا- تقديم المصلحة العليا للوطن على المصلحة الشخصية، والتنازل عن الرأي الشخصي، واعتناق رأي الأغلبية، أو الرأي الذي تمخَّضَتْ عنه الشورى.
ولقد أجمَل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- فوائد الشورى، فقال: إنها تكمُنُ في: “استنباط الصواب، واكتساب الرأي، والتحصُّن عن السَّقطة، وحِرْز من الملامة، ونجاة مِن الندامة، وألفة القلوب، واتباع الأثر”.
ومن وسائل منع النزاع، الاسترقاق الفكري، فمن المعروف أنّ من أعظم وأبرز أسباب النزاع هو الاستعباد بأشكاله وصوره المختلفة، ولم يعد الاستعباد والرق بالشكل السابق – تملك الرقبة- بل تجاوز ذلك واتخذ صورًا شتى لا يبتعد في مضمونه عن تلك الصور القديمة، ومنها: مصادرة الأفكار وإلغاء عقول الآخرين، والتعامل مع الناس وفق النظرية الفرعونية.
ودعا الإسلام إلى التحرر الفكري والعقدي، فمنع إكراه الناس على الإسلام، مع أن الحكمة من خلقهم هي عبادة الله، إلا أنه سبحانه وتعالى أراد من الإنسان أن يفعلها وأن يؤديها اختيارا لا إكراه فيه، فترك الحرية له في أوجب الواجبات وهو التوحيد فقال: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:256].
ودعا إلى التحرر من الظلم، فقال: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}[النساء:75].
وجاء الإسلام ليعيد للناس حريتهم المسلوبة، ويمنحهم الإرادة الكاملة في مختلف مجالات حياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية، ليتحملوا نتيجة اختيارهم، ففي المجال الديني أقر حرية التدين، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ …}[الكهف:29]، وفي المجال السياسي ترك الحرية للأفراد في اختيار حكامهم.
وفي المجال الاجتماعي نجد أن الإسلام يقرر هذه الحرية في أدق أمورها وجزئياتها، فمنع الإكراه في الزواج بل وجعل العقد باطلا إن لم يجرِ على تراض بين الزوجين، وهذا معروف في كتب الفقه.
ومن وسائل منع الخلاف، بناء الثقة والالتزام بالعقود والمواثيق، فقد دعا الإسلام إلى الالتزام بها وجعل ذلك واجبا دينيا، وأثنى في بعض الآيات على الموفين بالعهود، وذمّ من لم يفِ بعهده. فقال تعالى عن ذلك كله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ …}[المائدة:1] .
ومن الأمور من شأنها أن تمنع حدوث المنازعات – أيضا- إحياء وتشجيع القيم الإيجابية ومنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة المظلوم، والتسامح، عن حذيفة بن اليمان – رضي الله- عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “والَّذي نَفسي بيدِهِ لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عنِ المنكرِ أو ليوشِكَنَّ اللَّهُ أن يبعثَ عليكُم عقابًا منهُ ثمَّ تَدعونَهُ فلا يَستجيبُ لَكُم”. رواه الترمذي وقال حديث حسن. وصححه الألباني.
وسائل علاجية لآثار الخلافات
وبينت الشريعة الإسلامية أنّ الخلاف نوعان: محمود ومذموم؛ فالخلاف المحمود غذاء للعقل وغربلة للفكر، وقوة في الحجة وهذا خلاف التنوع، وهناك خلاف مذموم خلاف تضاد حذّر منه النبي – صلى الله عليه وسلم- وهو النزاع والشقاق، وهذا النوع من النزاع يجب رده إلى الكتاب والسنة، وأن يُحكِّم في ذلك الخلاف أهل العلم.
وحذّر الرسول – صلى الله عليه وسلم- من هذا النوع من الخلاف، فعن العرباض بن سارية – رضي الله عنه- قال: وعظَنا رَسولُ اللهِ مَوعظةً وجِلَت مِنها القُلوبُ، وذرِفَت مِنها العُيونُ، فقُلنا: يا رسولَ اللهِ، كأنَّها موعِظةُ مودِّعٍ فأوصِنَا قال: أُوصِيكُم بتَقوى اللهِ، والسَّمعِ والطَّاعةِ، وإن تَأَمَّرَ عليكُم عبدٌ، وأنَّهُ من يَعِش منكُم فسيَرى اختلافًا كثيرًا، فعليكُم بسُنَّتِي، و سُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدين المهديِّين، عَضُّوا علَيها بالنَّواجذِ، وإيَّاكُم ومُحدَثاتِ الأمورِ، فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ”.
فهذا الخلاف مذموم لأن منشأه النزاعات والخلافات والتباغض، وتقديم الرأي على النقل، أو البُعد عن الوحي، أو قلة العلم، أو قلة الفهم، كما أن الشريعة قد أوجدت وشرعت من الوسائل ما يمنع حدوث النزاع، فإنها كذلك قد شرعت من الوسائل والأساليب ما يعالج ويرفع النزاع ويزيل آثاره إذا ما حدثت وأيا كان نوعها، ومن هذه الوسائل والأساليب:
الاتفاق على مرجعية حل الخلافات، فمهما تكن طبيعة الخلاف، وأي كان أطراف هذا الخلاف فمن الواجب ومن المعالجات الجذرية والحاسمة والدائمة رد الخلاف إلى الوحي. يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا}[النساء:60].
ومن الأساليب، العفو والصفح الجميل، فمن السياسة الشرعية ومن وسائل فض النزاعات انتهاج أسلوب وخلق العفو، وذلك مع مَن يستحقه ويؤثر فيه هذا الأسلوب، وقد أمر سبحانه وتعالى نبيه بأن يعفو عن بعض أصحابه فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران:159].
ومن دروس السيرة العظيمة ما وقع في حادث الإفك بين الصديق أبي بكر ومسطح بن أثاثة، إذ كان مسطح من فقراء المهاجرين، وكان من قرابة أبي بكر وكان الصديق ينفق عليه، فكان مسطح ممن تحدث بحديث الإفك وأقيم عليه الحد فماذا فعل معه الصديق رضي الله عنه؟
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “فَلَمَّا أنْزَلَ اللَّهُ هذا في بَرَاءَتِي، قالَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عنْه وكانَ يُنْفِقُ علَى مِسْطَحِ بنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ منه وفَقْرِهِ: واللَّهِ لا أُنْفِقُ علَى مِسْطَحٍ شيئًا أبَدًا بَعْدَ الذي قالَ لِعَائِشَةَ ما قالَ، فأنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولو الفَضْلِ مِنكُم والسَّعَةِ أنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى والمَسَاكِينَ والمُهَاجِرِينَ في سَبيلِ اللَّهِ، ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا، ألَا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
قالَ أبو بَكْرٍ: بَلَى واللَّهِ إنِّي أُحِبُّ أنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إلى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتي كانَ يُنْفِقُ عليه، وقالَ: واللَّهِ لا أنْزِعُهَا منه أبَدًا” رواه البخاري، وفي هذا ندب المسلمين إلى التخلق بهذا الخلق العظيم خلق العفو، وبيان لعظم أجره.
ولا بد من إصلاح الأضرار ودفع التعويضات المناسبة، حتى ينتهي الخلاف والنزاع، فقد أشار القرآن والسنة إلى هذا الحل المناسب لفض كثير من الخلافات، ومن الأمثلة على ما جاء من نصوص الشرع في هذا: في القتل الخطأ فقد شرع الله تعالى الدية لأولياء القتيل كتعويض مناسب فيما لحقهم من مصاب.
قال تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء:92].
وجاء في السنة عن ابن عباس رضي الله عنه: أنَّ جميلةَ بنتَ سَلولَ، أتَتِ النَّبيَّ صلّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقالَت: واللَّهِ ما أعتِبُ على ثابتٍ في دينٍ، ولا خُلقٍ، ولَكِنِّي أكْرَهُ الكُفرَ في الإسلامِ، لا أطيقُهُ بُغضًا، فقالَ لَها النَّبيُّ صلّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: أترُدِّينَ علَيهِ حديقتَهُ؟ قالَت: نعم، فأمرَهُ رسولُ اللَّهِ صلّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ أن يأخذَ منها حديقتَهُ، ولا يزدادَ) حديث صحيح رواه ابن ماجة.
الخاتمة
إنّ النزاعات أمور استثنائية وطارئة، ومع ذلك يجب معالجتها ومحاصرتها، لما لها من آثار سلبية على الفرد والمجتمع، فهي تؤدي لا محالة إلى التباغض والتشاحن وغيرها من الأمراض القلبية والنفسية.
وقد بين الإسلام أن التنازع بين المسلمين سبب للفرقة والتمزق والهزائم، فقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:152].
المصادر:
1- آدم سعيد النوبي: إدارة الحوار والتفاوض، الشهباء للطباعة والنشر 2006.
2- الفيروز آبادي: القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، بيروت 2005.
3- محمد بن عمر الرازي: التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1999.
4- حسان علي ناجي: منهج القرآن في فض النزاعات.
5- عبد الله ناصح علوان: الأخوة الإسلامية، مكتبة دار السلام، القاهرة 2015 .
6- ابن عطية الأندلسي: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، مطبوعات وزارة الأوقاف بقطر، ۲۰۰۷م.
7- ابن القيم: الجواب الكافي.
8- ابن بطال: شرح صحيح البخاري.
9- ابن مفلح: الآداب الشرعية.
10- اعتمد هذا المقال على كتاب الصلح والإصلاح في القرآن الكريم، رسالة ماجستير إعداد مريم عبد الرحمن.
11- ابن تيمية: مجموع الفتاوى.
12- موقع الدرر السنية: https://www.dorar.net/hadith/sharh/151217
13- محمد بن جرير الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن ، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، 1999.
14- زين الدين محمد عبد الرؤوف المناوي: التوقيف على مهمات التعاريف ، عالم الكتب، القاهرة، -1990م.
15- محمد بن جرير الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن ، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، 1999 .
16- أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن کثیر: السيرة النبوية، دار المعرفة للطباعة بیروت، 1979م.
17- أحمد فهمي جلال: مهارات التفاوض، مكتبة جامعة القاهرة، القاهرة 2007 .
18- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: دليل المجتمع المدني للحد من النزاعات، صنعاء 2012.
19- جلال الدين السيوطي: تاريخ الخلفاء ، تحقيق: حمدي الدمرداش، مكتبة نزار مصطفى الباز، 1999 .20- سيد قطب: في ظلال القرآن، دار الشروق، عمان 2013 .
21- علي محمد الصلابي: الشورى في الإسلام، مؤسسة اقرأ، القاهرة 2009 .
22- محمد ناصر الدين الألباني: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها، مكتبة المعارف، الرياض، 1989 .