السؤال
أنا طالبة متفوقة والحمدلله ومستواي الدراسي ممتاز جدًا وهذا بفضل الله سبحانه وتعالى، كنت دائما أحصل على الترتيب الأول، عندما كنت في السنة الثانية في المرحلة الثانوية توفي أبي، لقد أثر عليّ هذا الأمر كثيرا ودخلت إلى السنة الثالثة ثانوي من دون وجود والدي بجانبي، كنت أحلم بدخول كلية الطب ولكن لم أحصل على تقدير ممتاز وتحطم حلمي وتحطمت معه، فكرت في دخول كلية القانون، سجلت في الجامعة ولكني خائفة أن أبتعد عن عائلتي إضافة إلى معاناة السكن الجامعي المتعب، فيجب عليك أن تطبخ وجباتك بمفردك وتدرس وتفعل كل شيء بمفردك، وأنا الآن محطمة نفسيًا لا أعرف ماذا أفعل بالضبط؟! فمنذ وفاة والدي وأنا لا أشعر بالأمان!
الرد
السائلة الكريمة، أسعدنا تواصلك معنا في موقع المنتدى الإسلامي العالمي للتربية، ونرجو أن تجدي بغيتك بين السطور.
رحم الله الوالد الكريم، ورزقه الفردوس الأعلى من الجنة، وأخلفك في مشاعر الحزن وعدم حصول مرادك خيرًا.
الحمد لله الذي ملأ قلبك بحب الوالد، فكم من آباء لا يبكِ عليهم أبناؤهم لقسوتهم عليهم، فحزنك على الوالد وتأثرك بغيابه يعني أنك عشتِ معه أيامًا طيبة، والحزن على الفراق يا ابنتي أمر طبيعي، ففراق الأب للابنة ليس بالأمر الهين، فهو السند والعضد والأمان، ومع ذلك نقول إن هذا الارتباك الحادث بسبب فقد والدك لن يدوم طويلًا بإذن الله.
فالكثيرات من قبلك اشتد عودهن، وقويت عزيمتهن بعد مرورهن بتلك المشاعر، حينما أسلمتهن الأقدار لمعاني جديدة في الحياة، أخرجت طاقات وقدرات مدفونة، وتبدل الحال من ضعف إلى قوة، ومن تيه إلى وضوح هدف وقوة بصيرة، فاسألى المولى عزوجل أن تمر هذه المرحلة عليك بردًا وسلامًا.
لا ننكر أبدًا عليك هذه المشاعر، خصوصًا مع علو آمالك وطموحاتك الدراسية، لكن كوني على يقين أن الله سبحانه وتعالى مقدر الخير، فلا تعلمين أين الخير، في دراسة الطب أم دراسة القانون، أم دراسة شيءٍ آخر غيرهم؟!
حينما نرضى بتقدير الله، وندعوه أن يخلفنا خيرًا؛ لا يهمنا النتيجة؛ لأننا حينها نكون على يقين أن هذا هو الخير.
فاستخيري قبل أن تختاري، واستشيري المحبون من حولك، وحددي أهدافك لدراسة القانون، فإذا ما توافقت أهدافك مع طبيعة هذه الكلية فامضي على بركة الله، وستجدين حينها الصعاب محلولة بإذن الله.
أما تجربة السكن في المدينة الجامعية فهي تجربة تشد من السواعد، فالاعتماد على النفس هو الأصل، فيجزي الله الأم خيرًا كثيرًا على خدمتها للأبناء في الصغر.
نخطئ حينما نظل نعتمد على الأم في أداء المهام المنزلية طوال الوقت، فحتى وإن كانت دراستك بالقرب من المنزل يجب أن يكون لك دور مع والدتك الكريمة في إقامة شئون المنزل.
ومع ذلك ندعوك للتريث في قرار البعد عن الأهل إذا لم تبلغي من الطمأنينة القدر الكافي الذي يعينك على تحمل تبعات الغربة، فلا تضعي نفسك في اختيارين لا ثالث لهما، ابحثي في البدائل الأخرى المناسبة، وإذا وجدت نفسك متعلقة بدراسة القانون فتوكلي على الله، وكوني على يقين أنه سبحانه إذا كلف أعان، أي إذا قدر عليك هذا الأمر فسيكون معه اللطف والعون.
ابنتنا الكريمة نوصيكِ ببعض الأمور التي تفعلينها لتعينك على تجاوز فقد الوالد الكريم:
- الكتابة: اكتبي ذكرياتك عنه، والمواقف الطيبة التي جمعتك به، اكتبي صفاته الطيبة، اكتبي عنه قدر المستطاع، فالكتابة تعين على تفريغ المشاعر.
- الحديث عن الوالد: تحدثي عنه مع من تحبين، احكي عن تفاصيلكم المشتركة، شاركي مواقفه مع الآخرين ولا تكتمي مشاعرك، فالحديث مع من تحبين يهون ألم الفراق.
- شاركي من مر بمثل تجربتك: فإفصاح الآخرين عن نفسك آلامك وكيفية تجاوزها يعينك على المضي قدمًا، فحينما نشعر أن ما نمر به أمر طبيعي، وأن غيرنا قد سبقنا وذاق ما ذقنا، يجعلنا نضع المصاب في حجمه الطبيعي، ولا نشعر حينها بالإحباط والخيبات.
- امنحي نفسك الوقت: فالألم يولد كبيرًا ويصغر بمرور الأيام فلا تتعجلي مرور الأيام، ولتعلمي أن كل مناسبة تمر عليك تجدد افتقادك لأبيك، فأول رمضان بغيره، وأول عيد بغيره، وأول استلام نتيجة بغيره، وغيرها من محطات الحياة، سيتجدد فيها الألم، فإدراكك المبكر لذلك لا يجعلنا نتوقع شيئًا ونجد عكسه، وحينما تتكرر المناسبات، ستجدين نفسك تتذكرين الذكريات المشتركة بينكما مخافة أن تنسيكي إياها الأيام، فيبدأ التعافي الحقيقي الذي فيه إدراك للمشاعر لا إنكارها.
- اختاري شخصًا مناسبًا يمثل دور الأب: قد يكون الأخ أو الخال أو العم، أو الجد- بمقام الوالد- اختاري شخصًا تستريحين إليه، واجعليه مستشارك، وجلوسك معه موطن راحتك من هموم الدنيا. يخلف الله خيرًا، قد يكون أحد الأقارب بلا دور في حياة الوالد، وحينما يقع البلاء نجد منهم مشاعر وحضور مميز، فامنحي نفسك التقرب من أحدهم إذا ارتحت لذلك.
- شاركي صديقاتك: اختاري من بين صديقاتك من تُخرجين معها مخاوفك، وتشاركيها إحباطاتك، فإخراج تلك المشاعر مع صديقة أمينة هو نصف الحل، التحدث عما يلم بنا، ومشاركة الآخر وإن لم يقدم الحلول، هو عين الراحة ابنتنا الكريمة.
- برك بأبيك: يقول المصطفى- صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ : صدقةٍ جاريةٍ، وعلمٍ ينتفعُ به، وولدٍ صالحٍ يدعو له)، فكوني لأبيك هذا الولد الصالح بالدعاء له وصلة أرحامه التي لا توصل إلا به، وإن كان له علم أو كتب أو منافع انشريها للناس ينتفعون بها ويؤجر هو.
- حينما نترجم مشاعرنا لأفعال يساعدنا ذلك على التجاوز، فبدلا من البكاء على الوالد، ندعو له، وبدلًا من تذكر أفعاله، نجمعها ونقدمها للناس حتى يعم النفع، فكوني لأبيك خير خلف، يقولون في المثل:- (اللي خلف مماتش).
- افرحي بإنجازاتك الصغيرة في رحلة التعافي، فألم الفقد يمر بأربعة مراحل:-
- مرحلة الإنكار أو عدم التصديق.
- مرحلة الألم.
- مرحلة القبول والتكيف.
- مرحلة النسيان، ولا نعني نسيان الأحبة، بل نسيان ويلات الألم وعودة الحياة لطبيعتها.
فحينما تدركين هذه المراحل، يساعد ذلك على التفهم والتقبل والتجاوز الواعي، فكلما انتقلت من خطوة إلى خطوة شجعي نفسك حتى وإن بدا التغير قليلًا.
ابنتنا الكريمة:
يقع الكثيرون في محنة الثانوية العامة بدون أسباب للفقد، ويختار البعض إعادة السنة الدراسية، فهذا أيضًا اختيار، لكن لا نفضله لاحتمالية معاودة مشاعر الإحباط.
وبعضهم يختار أن يتوقف عن الدراسة لمدة عام، يجمع فيها شعث نفسه، هذا أيضًا اختيار له وجاهته واحترامه.
وبعضهم يبحث عن البدائل الممكنة مثلك، وهذا أمر محمود، ولكن نذكرك بوضوح الهدف من اختيارك البديل، حتى تتحملين التبعات أيًّا كانت، ولعلك أردت أن تكوني طبيبة، ويدخر الله لك ما هو أفضل، وما سيستعملك فيه استخلافًا في الأرض، وما أكثر الأطباء الذين ينعتون حظهم بمسارهم الدراسي هذا، فلا تشعرين بأن أمرًا جللًا قد فاتك، هوني على نفسك الأمور تهُن بإذن الله.
أعانك الله على التعافي والتجاوز ووضوح الرؤية، وأقامك فيما استخلفك فيه ويسر لك كل أمر عسير.