إنّ معرفة المدعوين وأحوالهم من أهمِّ جوانب العلم التي يَتَعيَّن على المربي أو الداعية معرفتُه، فبه يستطيع- بإذن الله تعالى- أن يُحدِّد الوسائل والأساليب المناسبة لدعوته، وبالتالي يتمكّن من التأثير في الذين يدعوهم، ويُحقق الهدف المنشود من دعوته.
والدعوة ليست كما يظن بعض الدعاة أنها كلمة تقال من أجل إبلاغ العذر وإقامة الحجة؛ دون معرفة حالة الإنسان الدعو، الذي قد يكون محزونًا أو مريضًا أو مشغولًا، فالداعية مُطالب بالبصيرة مع الدعوة، لقول الله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف:108].
معرفة أحوال المدعوين في القرآن والسنة
ولا شك أن معرفة أحوال المدعوين والاهتمام بهم ومراعاتهم أثناء دعوتهم ضرورة حرص الإسلام عليها في جميع إجراءات الدعوة، إذ لم يكن لها البقاء والاستمرارية والداعية يفتقر إلى معرفة تلك الأحوال، والاطلاع عليها.
ولعل الأمر لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- في قول الله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، يتضمن التنويه إلى هذه الناحية بإعطاء تلك العشيرة مكانتها، لقرب موقعها من الرسول- صلى الله عليه وسلم-، ومن المهم أن ندرج تحت ذلك كل ما فيه حرص المخاطب على دراية الداعية بمقامه، وإظهاره لذلك أثناء خطابه معه، وقد حدث ذلك حينما مكن النبي- صلى الله عليه وسلم- ثمامة بن أثال، من ذلك على الرغم من كونه مربوطًا بسارية المسجد بعد أن أُسر.
فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: “بَعَثَ رَسولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ برَجُلٍ مِن بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ له: ثُمَامَةُ بنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهْلِ اليَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بسَارِيَةٍ مِن سَوَارِي المَسْجِدِ، فَخَرَجَ إلَيْهِ رَسولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-، فَقالَ: مَاذَا عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ فَقالَ: عِندِي يا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وإنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ علَى شَاكِرٍ، وإنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ تُعْطَ منه ما شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حتَّى كانَ بَعْدَ الغَدِ.
فَقالَ: ما عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ قالَ: ما قُلتُ لَكَ، إنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ علَى شَاكِرٍ، وإنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وإنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ تُعْطَ منه ما شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حتَّى كانَ مِنَ الغَدِ، فَقالَ: مَاذَا عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ فَقالَ: عِندِي ما قُلتُ لَكَ، إنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ علَى شَاكِرٍ، وإنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وإنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ تُعْطَ منه ما شِئْتَ، فَقالَ رَسولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ، فَانْطَلَقَ إلى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَقالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولُهُ…” (مسلم).
وحينما قدم وفد من أهل الحبشة، قال لهم الرسول- صلى الله عليه وسلم-: “انتسبوا”، فانتسبوا إلى نبي الله العربي القديم هود- عليه السلام- وافتخروا أنهم شاركوا في غزوات، ورحلات ذي القرنين أول ملوك التبابعة، أو تبع التبابعة، الذي ذُكر خبره في القرآن.
وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعرض دعوته على وفود القبائل في مواسم الحج، فكان يصطحب معه أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- وابن عمه علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- وعمه العباس ابن عبد المطلب، وكان كل منهم يؤدي مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أثناء عرضه نفسه على القبائل دورا يناسب ما لديه من حذقه، وتوافرت له الدراية به، فكان أبو بكر يتألف الوفود، ويستميلهم بذكر مآثرهم، ومفاخرهم وأنسابهم، كنوع من التقرب إليهم ومعرفة أحوالهم.
مصادر معرفة أحوال المدعوين
وعن مصادر معرفة أحوال المدعوين إلى طريق الله، فإنه يمكننا تلمس خطوات النبي- صلى الله عليه وسلم- في ذلك، والذي كان على دراية واسعة ودقيقة بمَن يدعوهم إلى الإسلام، وقد كان يستقي معرفته بمدعويه ومخاطَبيه من مصادر عدة غير مصدر الوحي، ومنها:
- الملاحظة: وهي من المصادر المهمة لدى الدعاة القادة الذين يتسمون بالقدرة على معرفة الآخرين وتقويمهم والتفرس فيهم، وإدراك محيطهم والأشياء من حولهم بعين البصر والبصيرة، ومن ذلك ما يروى عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- قال: كنا عند النبي- صلى الله عليه وسلم-، فجاء شاب فقال: يا رسول الله! أُقَبِّل وأنا صائم؟ قال: “لا”. فجاء شيخ فقال: أُقَبِّل وأنا صائم؟ قال: “نعم”. قال: فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قَدْ عَلِمْتُ لِمَ نَظَرَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ إِنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ” (صحيح أحمد).
- الاستفهام عن الحال: فقد يستفهم النبي- صلى الله عليه وسلم- من صاحب الحال عن حاله، أو ربما استفهم من غيره عنه وطلب رأيه فيه؛ ليتبين المعلومة التي يبني عليها النبي- صلى الله عليه وسلم- حال المخاطَب فيتعامل معه بما يناسب هذه الحال، ومن ذلك ما ورد في حديث وفد عبد القيس لما أتوا النبي- صلى الله عليه وسلم- قال لهم: “مَن الْقَوْمُ؟” أو “مَن الْوَفْدُ؟” قالوا: ربيعة. قال: “مَرْحَباً بِالْقَوْمِ -أو بِالْوَفْد- غَيْرَ خَزَايَا وَلا نَدَامَى” (البخاري ومسلم).
- معلومات الآخرين: وقد يأتي من يُسدِي النصيحة ويقدم المعلومة، فيتقبلها النبي- صلى الله عليه وسلم- ويفيد منها في تعاملاته وخطاباته، كما في مسلم: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي فقيل: إنهم لا يقبلون كتابا إلا بخاتم، فصاغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خاتمًا حلقته فضة، ونقش فيه: محمد رسول الله (مسلم).
- التجربة: وقد يُجرّب النبي- صلى الله عليه وسلم- المرء فيكتشف مدى قدرته على ما يريده- صلى الله عليه وسلم- منه، ومن ذلك اختباره لقدرات بعض أصحابه في الشعر حينما أراد أن يوجه سهام الهجاء بالشعر إلى قريش، وفي ذلك تروي عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اهْجُوا قُرَيْشاً؛ فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْها مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ”، فأرسل إلى ابن رواحة فقال: “اهْجُهُمْ”، فهجاهم فلم يُرْضِ، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه. قالت عائشة: فسمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول لحسان: “إِنَّ رُوْحَ الْقُدُسِ لا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحَتَ عَن اللهِ ورَسُولِه”، وقالت: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “هَجَاهُمْ حَسَّانُ، فَشَفَى وَاشْتَفَى” (مسلم).
جوانب معرفة أحوال المدعو
وتتعدد جوانب معرفة أحوال المدعوين إلى طريق الله، إذ لا بد على الداعية الانتباه إلى أبرزها، وهي:
- معرفة الاسم والكنية واللقب: ولا بد أن يخاطب الداعية المدعو بأحب الأسماء إليه، وأن يتجنب ما يسوؤه من الألقاب والكنى، والداعية الناجح يعمل جهده على أن يذكر أسماء المدعوين، وإذا لم يرزق الذاكرة الحافظة فإن عليه أن يستحفظ الأسماء، وقد يجد المدعو في نفسه إذا تكرر نسيان الداعية لاسمه، في حين أن المدعو يفاجأ إذا خاطبه الداعية باسمه ويشعر بالاهتمام والتقدير.
- معرفة ما يحبه المدعو وما يكرهه: وهو ما يجعل الداعية فقيها بلغة المدعو الخاصة، فهذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما إن يعلم حب أبي سفيان للفخر حتى يقول: “مَن دخلَ دارَ أبي سفيانَ فَهوَ آمنٌ” (صحيح أبي داود). وإذا بزعيم مكة الذي خرج للدفاع عن قاعدة الشرك يرجع ليحولها قاعدة للإسلام.
- التعرف إلى أحوال المدعو: ولا تغيب عن الداعية كثير من أمور المدعو الفكرية والاجتماعية والنفسية، ويعرف متى يكون المدعو مشغولاً ومتى يكون خاليًا، وهذه المعرفة تأتي من خلال المعايشة والنشاط الاجتماعي، فالداعية لا يضيع أية فرصة يمكنه من خلالها التعرف إلى المدعوين، ويجب أن تتم هذه المعرفة بطريقة لا تثير انتباههم.
- معرفة أوضاع المدعو الاقتصادية: فإن كان فقيرا معوزًا كانت مساعدته من أهم القضايا التي تهم الداعية، وإن كان مريضا كانت مواساته وإرشاده إلى الطبيب المسلم من وظائف الداعية، وإن كان في نزاع مع أقربائه أو جيرانه أو زوجته كان الاصلاح وجمع الشمل من اهتمامات الداعية. وإن كان قد هُضم حقه في وظيفة أو عمل كان إنصافه ونصره من طموحات الداعية. وإن كان مسترشداً أو طالباً لنصيحة في دين أو دنيا كان الداعية حاضراً لكل إرشاد ونصيحة ممكنة، وإذا عجز عن ذلك فلن يحرم الداعية من نصير من إخوانه يسد العجز، ويفرج الكربة.
- معرفة المناسبات الخاصة بالداعية وحضورها: سواء في الأفراح أو الأتراح وهو ما يفتح له ميادين الدعوة، ويقدم له فرصا طبيعية للاتصال بالناس وكسب وُدِّهم، وكم من سؤال عن الولد المريض جعل الوالد يفتح قلبه ويلقي بسمعه ويمد يده، وكم من همسة تهنئة بولد رُزقه أو فوز حققه كانت سببا في تحويل اتجاه وتغيير قرار، ولا يعدم الداعية البصير من وسائل كثيرة تساعده على كسب القلوب وتكثير الأنصار.
إن الحاجة أصبحت ماسة لمعرفة أحوال المدعوين سيما مع اتساع رقعة الدعوة، وتعدد ميادينها، وتشعب مجالاتها، وتقارب فئات العالم المختلفة، وعلى ضوء هذه المعرفة بالأحوال يتحدد مدى مجال التعامل مع كل مدعو واعتباره في كل شأن يتصل بدعوته، وإعطاء كل ذي حق حقه، ومقام ما يناسبه.
المصادر والمراجع:
- الدكتور همام سعيد: قواعد الدعوة، ص 63-64.
- علي عبد الحليم محمود: فقه الدعوة، 1/142.
- ابن الأثير: أسد الغابة، 2/145.
- الدكتور أحمد فؤاد سيد: تاريخ الدعوة الإسلامية في عهد النبي والخلفاء الراشدين، 1/36.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 1/441.