إن المصلحين يرسمون بأعمالهم صحائف من ضياء تُنير للناس الطريق الصحيح حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ومن هؤلاء الشيخ مصطفى الزرقا الذي تربى على المنهج الإسلامي منذ نعومة أظفاره، فكان خير معين لغيره أثناء حياته وبعد مماته.
ولا شك أن أول مقومات بقاء الكون هو بقاء آثار الرسل وعدم انطماسها، وإنما تنطمس آثار الرسل وتُمحى بتعطيل الوسيلة الضامنة لبقائها وهم المصلحون، الذين وصفهم رب العزة بقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117).
نشأة مصطفى الزرقا
وُلِدَ الشيخ مصطفى أحمد محمد عثمان محمد عبد القادر الزرقا بمدينة حلب السورية عام 1322هـ الموافق 1904م، في بيئة علمية محفزة على الطلب والتحصيل، حيث تربى تحت نظر جده العلامة الكبير الشيخ محمد الزرقا، وفي رعاية والده الفقيه الشيخ أحمد الزرقا.
وظهرت على مصطفى الزرقا ملامح النجابة والذكاء منذ طفولته، وأهّله ذلك النبوغ على تلقيه العلم عن كبار علماء حلب، بالإضافة إلى إجادته اللغة الفرنسية والعلوم العصرية.
بدأ دراسته في كتاتيب القرآن الكريم، وقرأ في بدايته كتاب (شرح الكفراوي على الآجرومية) على العلامة المحقق محمود بن سعيد السنكري، وتوجهت رغبته إلى التجارة، لكن جده ألزم والده أن يسجله في المدرسة الخسروفية، فدرس على كثير من العلماء قبل أن ينتقل إلى دمشق للتّدريس في كلية الحقوق عام 1944م، كما درس في كلية الشريعة بدمشق بعد إنشائها سنة 1954م، وبقي فيها أستاذًا للحقوق المدنية والشريعة، حتى بلوغه سن التقاعد في آخر عام 1966م.
وكان قد توجه إلى القاهرة، والتقى هناك علماءها الكبار، وحصل في القاهرة على (دبلوم الشريعة الإسلامية) من كلية الحقوق بجامعة الملك فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًّا). ودرس في معهد الدراسات العربية العالية، التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة، ثم درس في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية عام 1971م، وظل بها حتى عام 1989م.
وظل الزرقا يعمل في حقل الدعوة، حتى تُوفّي يوم السبت 19 ربيع الأول 1420هـ الموافق 3 يوليو 1999م بعد أذان صلاة العصر، وهو جالس ينقح الفتاوى ويبوبها.
مصطفى الزرقا والانتماء إلى الحركة الإسلامية
وانتمى الدكتور مصطفى الزرقا لحركة الإخوان المسلمين وأصبح أحد رجالاتها وأعلامها حتى أنه انتخب عن مدينة حلب نائبًا في المجلس النيابي السوري عام 1954 ثم 1961م، وأسندت إليه وزارتي العدل والأوقاف عامي 1956 ثم1962م.
واشتغل الزرقا بالمحاماة لمدة عشر سنين، بعد تخرجه في كلية الحقوق، بعد ذلك عينته وزارة الأوقاف في الكويت خبيرًا للموسوعة الفقهية فيها سنة 1966م، وبقي في الكويت خمس سنوات قائمًا بهذه المهمة خير قيام، حيث أنجز مشروع: “الموسوعة الفقهية” محررًا على المذاهب الفقهية الثمانية، ومعجمًا للفقه الحنبلي يقع في 1142 صفحة مرتَّبًا ترتيبًا هجائيًا بإشرافه.
واختارته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة عضوًا في المجمع الفقهي منذ إنشائه عام 1398هـ/ 1978م، وقدم للمجمع عدة دراسات فقهية معاصرة. وتتلمذ على يديه كثير من العلماء أمثال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والفقيه الحنفي الشيخ محمد الملاح، واللغوي الأديب عبد الرحمن رأفت باشا، والفقيه الأصولي الشيخ محمد فوزي فيض الله.
تأثيره الفكري
كان لإجادة الدكتور مصطفى الزرقا اللغتين الفرنسية والإنجليزية وقليل من الألمانية السبيل في تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة التي كانت منتشرة في الغرب عن الإسلام والمسلمين، حتى أنه حضر مؤتمرًا في لاهاي بهولندا تحت عنوان (مؤتمر الحقوق المقارنة) عام 1937م وكان للعلماء المسلمين تأثير في تبني العديد من القرارات، ومنها:
- اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا من مصادر التشريع العام.
- اعتبارها حية، قابلة للتطور.
- اعتبارها تشريعًا قائمًا بذاته، ليس مأخوذًا عن غيره.
وقد حصل الشيخ الزرقا على جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية عام 1404هـ تقديرًا لإسهاماته المميّزة في مجال الدراسات الفقهية، وبخاصّة كتابه: “المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي”.
وله مشاركات علمية أخرى، منها: مشاركته في وضع مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري عام 1372، ورئاسته لجنة مشروع القانون الموحد للأحوال الشخصية لمصر وسوريا خلال وحدتهما (1958ـ 1961)، ونشر الزرقا هذا المشروع، وقدَّم له، وصدر عن دار القلم بدمشق، وشارك في تأسيس وتطوير مناهج عدد من الجامعات، وفي كثير من المؤتمرات.
وتميز الشيخ مصطفى- رحمه الله- بفكر نيّر، متفتح، ناقد، بعيد عن التقاليد أو التعصب، وإذا كان الشيخ حنفي المذهب بحكم دراسته للمذهب على والده وجده من قبله، لكنه كثيرًا ما كان يخرج عليه إذا رأى غيره أرجح من ناحية الدليل، لمراعاة النص، أو لتحقيق مقاصد الشرع، لذا استحق بجدارة لقب “عميد الفقه الإسلامي”، وقد كان منهجه يقوم على أسس هي:
- الاستقلال في الفهم والبعد عن العصبية المذهبية.
- التخفيف والتيسير والبعد عن الحرج بضوابطه الفقهية.
- تطبيق مبدأ سد الذرائع.
- الأخذ بفقه الضرورة.
- التعليل للحكم الفقهي.
- ذكر الحكم الدياني بجانب الحكم القضائي.
- الاستدلال بالقواعد الفقهية والأصولية.
- إحالة المستفتي إلى كتاب يستوفي الموضوع.
- سؤال إخوانه من أهل العلم.
- إيجاد البدائل الشرعية للأوضاع المحرمة.
- تقييد الفتوى بقيود وضوابط.
مؤلفاته
اهتم الشيخ مصطفى الزرقا بإصدار سلسلتين علميتين فقهيتين قانونيتين هما:
السلسلة الفقهية، وعنوانها العام: “الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد”، وقد بلغت أجزاؤها أربعة مجلدات: الجزء الأول والثاني: “المدخل الفقهي العام”، والجزء الثالث: “المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي”، والجزء الرابع: “العقود المسماة في الفقه الإسلامي: عقد البيع”.
السلسلة القانونية، وتتألف من ثلاثة مجلدات في: “شرح القانون المدني السوري”، وقد حوت هذه السلسلة مقارنات كثيرة بالفقه، وأبرزت بوضوح ما يتميز به الفقه الإسلامي من إحاطة ودقة وشمول. وبالإضافة إلى هاتين السلسلتين، كان للشيخ مؤلفات أخرى، هي:
- أحكام الأوقاف.
- في الحديث النبوي.
- الاستصلاح والمصالح المرسلة في الفقه الإسلامي.
- الفعل الضار والضمان فيه.
- نظام التأمين، والرأي الشرعي فيه.
- الفقه الإسلامي ومدارسه (بتكليف من منظمة اليونسكو).
- عظمة محمد مجمع العظمات البشرية.
- عقد الاستصناع وأثره في نشاط البنوك الإسلامية.
- صياغة شرعية لنظرية التعسف في استعمال الحق.
- ديوان شعر، بعنوان: قوس قزح.
- فتاوى مصطفى الزرقا: التي جمعها تلميذه الشيخ مجد مكي وكان قد عرضها عليه في حال حياته من عدد من الدوريات، وما اجتمع لدى الشيخ من إجابات عن أسئلة يُسأل عنها، كما قدَّم لها الدكتور يوسف القرضاوي بمقدمة ممتعة، وقد لقي هذا العمل استحسانًا وثناء من جلة أهل العلم والفضل. وله العديد من البحوث المنشورة في مجلة مجمع الفقه الإسلامي.
وكان كتاب (الفعل الضار والضمان فيه) من أبرز كتب الشيخ الزرقا، وهو يُفصّل لموضوع الفعل الضار، وقواعده في مسؤولية الفاعل، ونتائجه في إيجاب الضمان المالي والتعويض على المتضرر منه، وهو من أهم الركائز الأساسية في كل عرف وتشريع منذ أقدم العصور.
المصادر والمراجع:
- حمدين بكير: العلامة مصطفى الزرقا مجددا: كتاب المدخل الفقهي العام نموذجا، جامعة أحمد دراية أدرار، الجزائر، 2011م.
- عبد الناصر أبو البصل: مصطفى أحمد الزرْقا: فقيه العصر وشيخ الحقوقيّين، دار القلم، دمشق، 2010.
- محمد عدنان كاتبي: العلامة الشيخ مصطفى الزرقا، 12 نوفمبر 2018.
- إخوان ويكي: مصطفى الزرقا.. عميد الفقه الإسلامي، 13 سبتمبر 2012.