لا تنجح أي دعوةٍ ما لم يتجرّدْ لها المؤمنون دون سواها من المبادئ والأشخاص، وقد كان الأستاذ مهدي عاكف المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين، أحد الذين عاشوا لفكرتهم وأخلصوا لها وصبروا على الظلم الذي تعرضوا له طوال حياتهم، فتذكره الناس دائمًا بكل خير في حياته، ولمّا مات تدارسوا أعماله الخالدة وتضحياته في سبيل الله.
إنّ طريقَ الدعوة إلى الله- عز وجل- يحتاج إلى الإخلاص والتجرّد، بحيث تملك الدعوةُ عقولَ ومشاعرَ الدعاة فتعينهم على المِحَن، يقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162-163).
نشأة مهدي عاكف والتحاقه بالإخوان
في جوّ امتاز بصفاء الطبيعة وروعة الحياة وبساطة المعيشة وصِدق المشاعر بين أبناء القرية، وُلِد محمد مهدي عاكف في يوم 12 يوليو من عام 1928م بقرية كفر عوض السنيطة مركز أجا محافظة الدقهلية، وَسط أُسرة متدينة، فقد حرص الوالد على تربية أبنائه تربية إسلامية.
يصف “عاكف” أسرته بقوله: “وُلدت في أسرية ثرية وهي أسرة عاكف حيث كان جدي عثمان عاكف الطبيب الخاص للخديوي وللسلطان، غير أنّ الإنجليز قتلوه في عام 1900م حين كان عمر والدي سنتين”.
وفي وصف بيته وكيف كان في الصغر، يقول: “كان بيتنا الكبير مملوءًا دائمًا بالخيرات وكان والدي محط احترام أهل القرية وإجلالهم، وما يكاد يخرج من البيت لعمله حتى تدب الحركة، ويعلو صياحنا- نحن الأطفال- حتى يملأ البيت، وتبدأ أمي الحبيبة تلك الملاك الجميل، الباسم الوجه، المشرقة، المحبة- يومها بعد صلاة الفجر بتجهيز طعام الإفطار الشهي، وإيقاظ النائمين، ثم تبدأ في أعمال البيت بكلِّ همة ونشاط.
ويضيف: أتاح لنا مرور الترعة من أمام البيت أن نتدرب على فنون صيد الأسماك فكُنّا نخرج بالساعات نقضيها على الترعة في صيد السمك، وكانت هذه المهنة لها عامل كبير في تعليمنا فنون الصبر والتريث”.
لقد تشكلت مقومات شخصية “عاكف” على يدّ والده الذي حرص على تعليم أولاده معنى الرجولة الحقّة وفنون الحياة العزيزة والقوة، وفنون الحوار مع العاقل والإعراض عن السّفيه والجاهل.
مهدي عاكف والإخوان
وفي مدرسته التي انتقل لها في القاهرة وفي مسجدها كانت جموع الشباب تلتقي لتقف بين يدي ربها وبعدها تتلاقى القلوب لتتعارف وكان وسط هؤلاء مَن يرتفع مقامه وتلتف حوله القلوب ويستمع له الجميع، إنه واحد من طلاب الإخوان المسلمين- الذين حملوا همّ دعوتهم فنشروا عبيرها وسط القلوب الطاهرة النضرة فتلقفها بعضهم، وكان مهدي عاكف منهم، وتعرف إلى الإخوان والتقى الأستاذ البنا في المركز العام سنة 1941م.
انتقل “عاكف” وأسرته إلى شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليًّا) وقت أن كان على مفترق الطُّرق، حيث تخرّج من التوجيهية وكان والده يسعى بكل قوته لإلحاقه بالكلية الحربية ليبعده عن الإخوان المسلمين وتقدم ونجح في الكشف الطبي غير أنه رأى بعض السلوكيات الشائنة التي دفعته لسحب أوراقه وتقديمها في كلية الهندسة ولم يمانع والده لكن حدث ما لم يكن في الحسبان.
فقد انضم للنظام الخاص والتقى الإمام البنا بعد فترة من انتقاله في السّكن وتحدث الأستاذ البنا معه، وأن الإخوان ليس لهم في معهد التربية الرياضية العالي أحد، فسمع الكلمة وتحدث مع صديق له اسمه صلاح حسن الذي وافقه على أن يذهب لكلية التربية الرياضية وكانت الأمور تسير بكل يسر حيث استقبلوه في الكلية بالترحيب ما شجعه أن يسحب أوراقه من الهندسة ويتقدم بها للتربية الرياضية بعد نجاحه في كل الاختبارات.
قُبِلَ عاكف في التربية الرياضية فكانت الأزمة مع والده وإخوته الذين رغبوا في أن يكون مهندسًا مثلهم ولم تهدأ العاصفة إلا بعد شهور حينما زار والده التربية الرياضية ووجدها من الكليات المحترمة.
وحينما اندلعت حرب فلسطين كان “عاكف” أحد الذين درّبوا المجاهدين ووفّر السلاح تحت مظلة جامعة الدول العربية غير أنه اعتُقل مع بقية المجاهدين والإخوان وظل بالسجن حتى خرج في يناير سنة 1950م.
ولمّا خرج النحاس باشا بتصريحاته النارية التي ألهبت الوجدان وأشعلت جذوة النار في قلوب طلاب الجامعات بعدما قرّر إلغاء معاهدة 1936م من طرف واحد، فانطلق الطلاب يكبدون العدو الإنجليزي الخسائر تلو الخسائر في حرب القنال، وكان “عاكف” أحد هؤلاء الذين قادوا معسكر التدريب في جامعة إبراهيم باشا، فخرج جيل زلزل أركان المحتل عام 1951م.
يقول عاكف: “في أحد الأيام فوجئتُ بالدكتور عثمان خليل، عميد كلية الحقوق، يأتيني ويقول لي إن مدير الجامعة الدكتور محمد كامل حسين يريد أن يفتتح المعسكر على شاكلة معسكر جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، فقلت له: يا عثمان بك نحن خارجون عن القانون ونعمل في حِمَى حرم الجامعة، ولا نستطيع أن نقوم بذلك خارج الحرم الجامعي، وأنتم لكم صفة رسمية، فهل تشاركوننا هذه المسؤولية؟، فلست أنسى هذه الكلمة أبدًا، قال لي: شرف عظيم يا بني أن أشارككم جهادكم”.
الصبر على الظلم
ضرب مهدي عاكف النموذج الحي والعملي للثبات على المواقف والصبر على الظلم وتجبر الطغاة، حيث سُجِنَ في سبيل أفكاره التربوية والدعوية في مختلف العصور التي عاشها بدءًا من عام 1954م، وحتى وقت وفاته في عام 2017م، وهي فترة تمتد إلى 63 عامًا كان زائرًا فيها للسجون.
لقد قُبض عليه في أول أغسطس 1954م، وحُوكم بتهمة تهريب اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف- أحد قيادات الجيش وأحد أعلام الإخوان- الذي أشرف على طرد الملك فاروق، وحُكم عليه بالإعدام، ثم خُفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، وخرج من السجن سنة 1974م في عهد السادات ليزاول عمله مديرًا عامًا للشباب بوزارة التعمير.
وقُدِّم للمحاكمة العسكرية سنة 1996م، فيما يُعرف بقضية سلسبيل التي ضمت وقتها عددًا كبيرًا من قيادات جماعة الإخوان المسلمين، وقد اتهمه الادعاء بأنه المسؤول عن التنظيم العالمي للإخوان، وحُكم عليه بثلاث سنوات، ليخرج من السجن في عام 1999م.
وقُبض عليه في يوليو 2013 بعد أيام من الانقلاب العسكري، وحُكم عليه بالسجن 25 عامًا، لكن محكمة النقض ألغت الحكم في يناير 2016، لتُعاد محاكمته من جديد.
ورغم وفاته عام 2017 عن عُمر ناهز 89 عامًا، لكن محكمة النقض رفضت في نوفمبر 2021 الطعن المقدم من محامي الأستاذ الراحل وأيدت إدراجه على “قوائم الإرهاب” لمدة 5 سنوات.
وبهذه الروح عاش عاكف وظل ثابتًا على دعوته يعمل لها، بل أواخر حياته ظل ثابتًا وصابرًا حتى توفاه الله في السّجون لم يلن ولم يطلب من أحد العفو.
الجندية في حياة عاكف
ما إن انخرط مهدي عاكف- وهو شاب في المدرسة الثانوية- لركب الدعاة رغم حياته الميسورة، إلا وقد تملّكه حب الانطلاق والإبداع للوصول إلى قلوب الناس بدعوته التي ما إن عرفها حتى كان جنديًّا في الميدان يذود عنها ويعمل تحت لوائها.
لقد ضرب عاكف المثل العالي في الجندية حينما اختار عن طِيب خاطر أن تكون فترة ولايته كمرشد فترة واحدة ويترك المجال لجيل آخر يحمل ويقود مسيرة هذه الدعوة.
لم يركن عاكف لِكبر سِنة أو للأمراض التي حلّت به لكن قال كلمته التي دوّنها التاريخ حينما اختير مرشدًا جديدًا، وأثناء تسليمه راية القيادة للمرشد الجديد قال له- كما جاء في مذكراته-: “كنت أول مَن نادى الدكتور محمد بديع بفضيلة المرشد العام، وأثناء خروجي من المكتب ناديته، وقلت: يا فضيلة المرشد.. أنا رهن إشارتك في وقت تحتاجني الدعوة فيه”، ليس من السهولة على النّفس أن تلزم نفسها رهن القيادة الجديدة إلا النماذج التي تجرّدت لله رب العالمين.
لم يترجم عاكف شعار (والجهاد سبيلنا) ترجمة قولية أو إعلامية، لكنه حققها في نفسه ترجمة فعلية، فكان مجاهدًا في ساحات الوغى، يذود عن وطنه ضد المحتلين، فقد وكل له مهمة جمع السلاح من الصحراء الغربية وصحاري مصر في أثناء حرب فلسطين، والدفع بها للهيئة العليا للدفاع عن فلسطين، حيث كانوا يزودون بها متطوعي الإخوان هناك.
حمل راية الجهاد على عاتقه وسط جامعة القائد إبراهيم (عين شمس حاليًا)، وجمع الطلاب وفي ساحة الجامعة- وبعد استئذان رؤسائها- افتتح معسكرًا لتدريب المجاهدين في حرب القنال عام 1951م، وكانت له صولات وجولات وسط جامعة القاهرة وجامعة عين شمس، وخرج الكثير من المجاهدين الذين أبلوا بلاء حسنا على أرض المعركة ومنهم من استشهد في سبيل وطنه.
عاكف وأمه
وفي تصوير أول لقاء له مع أمه في العيد بعد 15 عامًا سجن دون أن يراها، وعلى الرغم من كونه كان مسؤولًا عن السجن وله شخصيته، فلم يستطع من خلال هذه الكلمات أن يخفى طفولته وشوقه لمصدر حنانه الأول وهي أمه فيقول: “مرت علينا السنون تلو السنون، والعيد تلو العيد، ولم أرَ والدتي لمدة 15 عامًا داخل السجن، حتى جاء العيد.
يضيف: “حقًا إن العيد في الغد! وإن هذه الليلة هي ليلة العيد! يا الله! ما أجملها من ليلة.. ظلام حالك رهيب.. وزنزانة قذرة ضيقة، وأصوات الحرس الخشنة، وسعال المساجين المستمر، وأصوات الحشرات والهوام وهي تدب وتزحف، ومع ذلك كله فالغد هو العيد!
شرد ذهني بعيدًا، وتخطيت جدران الزنزانة السميك، واخترقت بذهني الأسوار والحراس، وشردت بعيدًا مع ليلة العيد، إنها ليلة ليست محسوبة من الأيام؛ فهي طيف جميل، وحلم بديع، فيها تضمك الدنيا بأكملها، ويتعطر الجو، وتتزين الحياة، ولكنها هنا في السجن طويلة، كالحة، حزينة، ساهمة.
وحاولت النوم فلم أستطع، وتقلبت على فراشي الوثير الذي يتكون من (برش) ليف فوق الأسفلت الجيد، ورطوبة الأرض برائحتها العفنة تعطر الجو. لم أنم هذه الليلة قط، وكيف أنام وأنا أعلم أنني قد تركت أسرتي، أمي وإخوتي، تركتهم جميعًا؛ لأنني آثرت وطني وديني عليهم، فكان نصيبي السجن، ونصيبهم الحزن والألم المرير.. كيف يقضي هؤلاء المساكين العيد.. أمي الحبيبة وأخوتي الأعزاء، وأصدقائي الأوفياء، لا بد أنكم تتألمون مثلي هذه الليلة، لا بد أنكم تعيشون هذه اللحظات معي كما أعيش معهم.
إن الوفاء جميل، وإن الإنسان الذي يملك حب هذه القلوب جميعًا- قلب الأم والإخوة والأصدقاء حقًا- هو السعيد حتى لو كان في السجن.. وابتسمت ابتسامة عذبة، وغطيت وجهي، وتسرب النوم رويدًا رويدًا إلى عيني، فأسلمت نفسي للنوم في هذه الليلة.
ونمت، ولكن روحي حلقت هناك عند الأحبة، سعيدة هانئة، ولكن تلك السعادة لم تكد تبدأ لتنتهي؛ فقد استيقظت من نومي فرأيت الجدران ما زالت قاسية صلبة، والرائحة العفنة تتصاعد، والحشرات تسعى، والظلام الكئيب ينتشر، لكن كلي أمل أن يأتي العيد لأقابل الأحبة الذين سيأتون لزيارتي، ستأتي أمي الحبيبة وأشقائي.
أشرقت الشمس، وأشرقت معها نفوس متلهفة، ووجوه المساجين المساكين، وأخذوا يهنئون بعضهم بعضًا بالعيد.. حقًا إن البشر يكسو وجوههم الفرح، ولكن الصدور تحمل ما تحمل من ألم دفين.
وجاء وقت الزيارة؛ فالزيارة مباحة للجميع في يوم العيد، وحدث هرج شديد، وانطلقت ضحكات صاخبة، وتبادل المساجين التهاني، ووزع البعض كعك العيد من السجن وهو خبز أسود معجون بقليل من الزيت، ونادوا أسماء المساجين ممن لهم زيارات، وأرهفت السمع، ولكن لم أكن بين الأسماء في البداية، وعلا وجهي الوجوم.. إنه أول عيد التقي فيه أهلي بعد خمسة عشرة عامًا، ترى ماذا أصابهم؟ ليتني أستطيع أن أفديهم بحياتي، ولكنها القيود، قيود الظلم التي تكبلني.
سمعت صوتًا خافتًا ينادي باسمي، فتلفت حولي، ونظرت هنا وهناك، فرأيت أمي الحبيبة بوجهها الملائكي الصغير.. أُماه.. انطلقت من فمي كصرخة مستغيث.. فسمعتها الأم، ولكن الأسلاك القاسية، والقضبان الغليظة حالت بيني وبين أحضانها، فدمعت عيناها، وأخذت تبكي بكاءً صامتًا.
حاولت أن أمد يدي مرات لأضع تلك الرأس الحبيبة على كتفي، وأمسح تلك الدموع بكفي، وأقبل اليد وأزيل عن ذلك الملاك الحبيب حزنه وألمه.. ولكنها الأسلاك ردتني!
وجاهدت نفسي لأمنع تلك الدمعتين الكبيرتين من السقوط.. ولكن هيهات فقد سقطتا تتدحرجان على وجهي.. وأحست بمرارة في حلقي، ولم أستطع إلا أن أردد تلك الكلمة الحبيبة.. أُماه.. أُماه.. أُماه.. وأخيرًا استطعت أن أتكلم، وأن أملك زمام نفسي، فمسحت دموعي بملابسي، وقلت لأمي: بربك لا تبكي يا أماه، فإن بكاءك يقطع قلبي، ويمزق أحشائي، فمسحت الأم دموعها، وابتسمت، حتى إنها جاهدت جهادًا جبارًا حتى تبتسم.
وأخيرًا أشرق ذلك الوجه الملائكي بابتسامة لترضي ابنها، ابتسم وجهها وقلبها يحترق، وأقبل الحارس بوجهه المقطب، وشاربه الضخم، وصوته الأجش، معلنًا انتهاء الزيارة، فدمعت عيون، وغصت حلوق، واضطربت قلوب، وودعت أمي، وكأنهم ينتزعون منها فؤادها، وعدنا إلى الزنازين بقلوب منكسرة، ووجوه قد ذبلت، وارتميت على فرشتي أبكي فراق أمي، غير أنى بمسحة طيّبة على قلبي أنستني حزني، وأرجعتني لواقعي، فنهضت فصليت لربي”.
هذا جزء من حياة عاكف، التي سعى أن تكون على درب نبيه- صلى الله عليه وسلم-، لا يعبأ بالحياة ومتعها، إذ كانت الآخرة نصب عينه، فقال: “مَن أراد الجنة فلا يرى لنفسه حقًا على أحد.. ولا ينقص من أقدارنا أن يهاجمنا بعض الناس، ويتهموننا بالباطل، ولكن الذي ينقص من أقدارنا هو أن نخطئ نحن”.
المصادر والمراجع:
- ويكيبيديا الإخوان المسلمين: محمد مهدي عاكف.
- موقع العرب: مهدي عاكف.. سجين كل العصور ومقاوم الإنجليز.
- موقع بي بي سي: من هو محمد مهدي عاكف المرشد العام السابق للإخوان المسلمين؟
- موقع إخوان أون لاين: الأستاذ مهدي عاكف.. محطات في رحلة الصمود.
- ساري عرابي: هذا محمد مهدي عاكف.. وكفى!