رغم أنّ الأستاذ محمود شكري لم يكن معروفًا لدى الكثير من الناس، إلا أن أثره التربوي عظيم على أبناء الحركات الإسلامية، خصوصًا جماعة الإخوان المسلمين، حيث غرس في النفوس أزهار المحبة والفهم الحقيقي لمعنى (الله غايتنا والرسول قدوتنا والقرآن دستورنا).
وعاش “شكري” معظم حياته صامتًا عن الكلام، إلا أنّ أفعاله كانت تُترجم إلى مواقف وأسس تربوية سار عليها المحبون وكل من يعرفه، حتى صدق فيه القول “ليست العبرة بمن سبق وإنما العبرة بمن صدق”.
نشأة محمود شكري
وُلد محمود عبد الحميد شكري خليفة، وشهرته محمود شكري في حي السبتية بالقاهرة، في 25 أغسطس 1920م، الموافق 11 ذو الحجة 1338هـ في أُسرة كان يعمل ربّها في سكك حديد مصر، غير أنّه تُوفي وكان عمر ابنه محمود خمسة أعوام وهو ما أثّر بالسلب على تعليم أبنائه لضيق الحال، فانتقل محمود للعيش في بيت جده لأمه بالسيدة زينب.
وحصل على التعليم الأولي ثمّ تطوع في البحرية المصرية (البحرية الملكية) وعمل كنصف بحري على يخت الملك المسمى “المحروسة” وتخصص في الإشارات، وسكن بحي رأس التين وهو السبب الذي جعله ينتقل للعيش بقية حياته في الإسكندرية، إلا أنه وبعد اعتقاله عام 1949م ترك اليخت الملكي وعمل في الجمعية التعاونية للبترول، رئيس ناقلة بترول لتمويل السفن داخل ميناء الإسكندرية قبل أن يدخل دوامة المحن في عهد عبد الناصر.
وبعد أن خرج تجاوز المحن في السبعينيات، رغب الإخوان في إنشاء دار إسلامية بالإسكندرية، فأخذ على عاتقه هذه المهمة، واستقال من عمله وتفرغ للدار التي كانت تحمل اسم “دار الدعوة للنشر والطبع والترجمة بالإسكندرية”، وظل يُشرف عليها حتى مرضه الذي تُوفي فيه، كما أنه ساهم في مدارس المدينة المنورة بالإسكندرية.
رحلة محمود شكري الدعوية
كان حي السيدة زينب – الذي نشأ فيه محمود شكري ببيت جده- من الأحياء التي تتسم بحب آل البيت والفطرة الدينية، لذا كان جده يحرص على اصطحابه إلى المساجد حتى نبتت فيه بذرة حب التدين، فحرص على حضور الكثير من الدروس الشرعية، وتعرف على بعض أعضاء الجمعية الشرعية وصحبهم لحضور الدروس في مقرها الرئيسي بميدان رمسيس.
إلا أن حي السيدة زينب كان من الأحياء القريبة من المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين، الذي كان صيته وصيت مرشده العام ذائعًا بين الناس، وكانت شعبة السيدة زينب من الشُّعب النشطة في الإخوان، وبخاصة بجوالتها التي لفتت لها الأنظار.
تعرف محمود على بعض أفراد جماعة الإخوان المسلمين في السيدة، فاصطحبوه معهم إلى المركز العام بالدرب الأحمر، حيث أعجب بالإمام البنا وما يدعو إليه، والنموذج الإسلامي العملي الواقعي الذي كان يغرسه في أتباعه، فقرر الانتساب إلى جماعة الإخوان المسلمين.
التقى “شكري” بالإمام البنا – الذي كان في هذه الفترة قد أنشأ النظام الخاص فألحقه بمجموعة العسكريين أمثال عباس السيسي الذي كان يعمل بورش سلاح الصيانة.
كان عمل شكري يتطلّب منه الانتقال مع يخت الملك أينما ولى، وفي عام 1942م – وهو العام الذي ترشيح فيه الإمام البنا أول مرة في انتخابات مجلس النواب- كان شكري على يخت الملك في الإسماعيلية وشاهد احتفاء الناس بالإمام البنا، وعملهم الدؤوب من أجل إنجاحه في الانتخابات، ما رسخ عنده الاستمرار وسط جماعة الإخوان المسلمين، وفي هذه الرحلة – أيضا- تعرّف على المجاهدَيْن الأستاذ يوسف طلعت والشيخ محمد فرغلي.
ومن مواقفه أنه عندما انتقل مع يخت الملك “المحروسة” إلى مالطا في رحلة صيانة؛ كان له هناك موقفه المشهور بالأذان في ميناء مالطا، من فوق اليخت وهو ما لفت له الأنظار؛ حتى إن الإمام حسن البنا كان يداعبه بين رفاقه ويقول لهم: “هذا محمود الذي أذن في مالطا”.
بعدما انتقل للعمل على يخت المحروسة شارك في العمل الدعوي مع الإخوان بالإسكندرية في شعبة المنشية مع رئيس المكتب الإداري وقتها الأستاذ محمد جميعي.
وبعد انقضاء محنة عبد الناصر كان أحد رجالات الدعوة القليلين الذين حملوا همّها وشارك في تأسيسها الثاني بالإسكندرية وظل أحد رجالاتها المخلصيين حتى أصبح رئيسًا للمكتب الإداري للإخوان بالإسكندرية وعضو مجلس الشورى العام للجماعة.
حرب فلسطين ومحنة 1949
كانت حرب فلسطين إحدى المراحل الفاصلة في تاريخ الإخوان المسلمين، حيث أظهرت قوتهم التي أخافت الغرب والملك وحكومة النقراشي فسعوا جميعًا إلى حل الجماعة والقضاء عليها.
وقد شارك محمود شكري في حرب فلسطين مع كاسحة الألغام المصرية “غزة” تحت قيادة ضابط سوري، وقضى في الخدمة هناك شهرًا ثم عاد إلى مصر ليُعتقل مع مَن اعتقل في سجن أبو قير بالإسكندرية.
وأصيب شكري كما أصيب الكثير من جماعة الإخوان المسلمين بعدما أصدر النقراشي قرارًا بحل الجماعة في 8 ديسمبر 1948م.
ثمّ اعتقل في عام 1949م، في أبي قير بعدما جرى اقتياده من منزله إلى قسم الجمرك، ومن هناك نُقِلَ إلى مقر رئاسة الوزراء الصيفي في بولكلي (أحد أحياء مدينة الإسكندرية)، وعُرض على إبراهيم عبد الهادي – رئيس وزراء مصر بعد اغتيال النقراشي-، الذي سأله عن الإخوان وتعرفه عليهم، وهل كان يبلغ الإخوان بما يحدث في رحلات الملك؟
نُقل بعد التحقيقات إلى معتقل أبي قير الذي كان مُقسّمًا إلى عدة أقسام، فكان هناك قسم للإخوان وقسم للشيوعيين وآخر للشّيوعيات ورابع لليهود.
وفي السجن شارك “شكري” الإخوان في إصدار مجلة خاصة للمعتقل، حيث كان يُحرر قصة العدد، وقد استمر اعتقاله هناك لمدة سبعة أشهر، وبعد خروجه من المعتقل نُقِلَ من بحرية الملك إلى القوات البحرية.
محنة 1954
شارك الإخوانُ العسكرَ ثورة 23 يوليو 1952م التي أطاحت بالملكية، إلا أن تسارع الأحداث ونشوب الصراع بين طوائف العسكر الذين أصبحوا في ليلة وضحاها حكام البلاد، كانت سببا لتصفية الحسابات فيما بينهم، ثم اكتملت الصورة لبلوغ الحكم الفردي المستبد.
وعمل عبد الناصر على تفريغ الساحة من العناصر القوية التي تعيق طموحه نحو السيطرة على البلاد، فأطاح بالكثيرين من مجلس قيادة الثورة الذين شاركوه الانتصارات وعلى رأسهم محمد نجيب وصلاح سالم وجمال سالم وغيرهم.
ثم كانت الضربة التالية لجماعة الإخوان المسلمين الذين شكّلوا التهديد الأكبر لحكم عبد الناصر لقوتهم وتنظيمهم، فكانت أحداث المنشية التي اعتقل على إثرها الأستاذ محمود شكري بعد القبض عليه من بيته في منطقة الورديان، كما اعتقل نجله الأكبر “محمد” الذي قبض عليه في مرسى مطروح.
وقد زُجّ به في السجن الحربي وتعرّض لأشد أنواع التعذيب، بل حُكِمَ عليه الإعدام، وهو الخبر الذي أثّر على زوجته الأولى فماتت من توها، قبل أن يُخفف حكم الإعدام عنه، ثم أفرج عنه عام 1958م.
محنة الستينات وما بعدها
وبعد أن خرج الأستاذ محمود شكري من السجن ظلّت حياته مراقبة حتى اعتقل عام 1961م على خلفية زيارته وعدد من الإخوة للأستاذ عباس السيسي في رشيد بعد زيارة عبد الناصر لها في 19 سبتمبر 1959م وزُج بهم جميعا في أتون العذاب، لمعرفة أسباب الزيارة، حيث حكم عليه بالسجن وظل فيه حتى عام 1970م.
وبعد سنوات اعتقل في أبريل من عام 2003 ضمن حملة شملت أعضاء المكتب الإداري للإخوان المسلمين بالإسكندرية وأفرج عنه بعدها بشهرين.
ومن العجيب أنه بعد مرور سنوات على وفاة الأستاذ شكري وبعد وقوع الانقلاب العسكري في مصر يوم 3 يوليو 2013، تحركت ما يقرب من 18 مدرعة شرطة و12 سيارة جيش و4 ميكروباص، بمشاركة عشرات من ضباط سلاح المظلات والبحرية ومئات من عساكر الأمن المركزي الذين حاصروا منطقة الورديان بأكملها للقبض على الأستاذ شكري وذلك عام 2014م رغم أنّه قد توفاه الله عام 2010، لكن يبدو أن سلطات الانقلاب لم تكن لديها المعلومات الكافية عنه.
قالوا عنه
كان الحاج محمود شكري مدرسة تربوية عملية واقعية تركت بصمات كثيرة فيمن عرفه أو تعامل معه، فيتذكره الدكتور عصام العريان (عليه رحمة الله) بقوله: عرفنا في الإسكندرية خلال عقد السبعينيات ثلاثة رجال، كان لهم أكبر الأثر في حياتنا، وبخاصةً شباب الإسكندرية، العاصمة الثانية لمصر وثغرها على البحر المتوسط، التي شهدت خلال تلك الفترة وحتى الآن صحوةً إسلاميةً كبيرة.
والثلاثة هم: الحاج عباس السيسي رحمه الله وغفر له، والحاج محمود شكري الذي ودَّعته الإسكندرية بعد مرض طويل، والأستاذ محمد حسين حفظه الله تعالى.
كان الحاج محمود قليل الكلام، لكنه باسِمَ الثغر دائمًا، كان مربيًا من الطراز الأول، يربِّي الإخوان عن طريق القدوة العملية والأسوة الحسنة، وهذا ما نحتاجه اليوم بعد أن تحوَّلت التربية إلى تثقيف، ويا ليته يُثمر فكرًا منيرًا أو علمًا نافعًا، بل نحن في أمسِّ الحاجةِ إلى مراجعته كله.
كان رحمه الله متواضعًا، يأسرك بمبادرته إلى خدمتك وأنت في سنِّ أولاده، وعاش في السجون طويلاً، فكان صابرًا محتسبًا صامدًا، ودخل السجن كذلك وسط الشباب بعد ذلك، وهو في سنِّ آبائهم أو حتى أجدادهم، فيسارع في خدمتهم، ويعمل من أجل راحتهم، ويخفِّف عنهم ألم فراق الأسرة والآباء والإخوة، فكان لهم الأب والجد والصدر الحنون.
وقال عنه الأستاذ جمعة أمين عبدالعزيز (عليه رحمة الله): 55 عاما عاشها الراحل دعوةً وجهادًا وثباتًا بعد أن حكم عليه الظالمون في عهد عبد الناصر بالإعدام.
وقال عنه الدكتور إبراهيم الزعفراني: عرفته رجلا ربانيا عابدًا مخلصا فى محبته لإخوانه قويا في نبرات صوته رقيقا في عباراته قسمات وجهه وبسمته تفصح عن سماحة طويته تقرأ من خلالها ما في قلبه من حب وعزم وحزم.
لقد اعتقل الحاج محمود عام 1954 مع باقي الإخوان وبعد ثلاث سنوات من حبسه توفيت زوجته رحمها الله وأم أولاده، وأبناؤه هم:( محمد عصام، أحمد خالد، رقية، معتز) من زوجته تلك، ثم (هدى) من زوجته الثانية. وبعد وفاة زوجته الأولى انتقل أولادهم إلى كفالة صهره وخالاتهم الذين كانوا يقيمون في القاهرة وعلم بذلك الحاج محمود وهو في محبسه فاحتَسبها عند الله وسلم أمر أولاده لله وحده وظل صامدًا صابرًا في سجنه حتى خرج بعد قضاء ستة سنوات كاملة مرفوع الرأس ثابتا على دعوته ودينه وطريقه الذي اختاره الله له.
مواقف عملية
لم يكن الحاج محمود شكري من الذين يجيدون إلقاء الدروس الدينية لكنه كان يجيد الحديث عن المواقف والمعاني والسلوكيات التي ترتقي بالشباب والتى كان هو شخصيًّا يعيشها في حياته عملا وسلوكا وخلقا.
قال إبراهيم الزعفراني: رأيته رحمه الله يوم عيد الفطر عام 1984م بعد اعتقالات سبتمبر سنة 1981م، يزحف إلى مكان صلاة العيد في الإسكندرية ويقود تجمعًا بشريًّا يفوق السبعة آلاف جاءوا سيرًا على الأقدام من الورديان من مسافة عدة كيلو مترات متوجهين إلى ميدان محطة سيدي جابر يُكبرون تكبيرات العيد وصدى أصواتهم يهز المباني والشوارع والساحات فكان مشهدًا مهيبًا وذكرى حبيبة لم تترك مخيلتي حتى الآن.
وأضاف: جعل الحاج محمود من نفسه خادما دائما لإخوانه فكان في المعسكرات الصيفية الإسلامية يندب نفسه ومعه عدد من الرجال والشباب الأشداء للقيام بشأن إطعام الأفواج المشاركين في هذه المعسكرات فقد رأيته في معسكر الشاطئ في أبو يوسف بالإسكندرية وهو يرتدي الفانلة والسروال الطويل ممسكا (كبشة المطبخ) يشارك في تقليب الطعام وتذوقه للتأكد من إتمام طهيه، ويعمل في جدٍ وتفانٍ ويواصل الليل بالنهار في شراء وإعداد الطعام ثمّ نظافة الأواني وأدوات الطهي، وبعدها يجلس مع فريق الطهي يتناولون الطعام بعد أن يكون جميع المشاركين في المعسكر قد تناولوا طعامهم.
ويقول أيضا: لم يفوت الحاج محمود – رحمه الله- مناسبة لإخوانه إلا وشارك فيها، ففي الأفراح تجده حاضرًا مهنئًا، حتى بعد أن طعن به السن تبحث عنه وسط المدعوين فتراه جالسًا على كرسيه في أول الحاضرين، وما من نائبة تقع بأي أخ إلا وكان أول المسارعين إليه واقفًا على قدميه أو متكئًا على عصاه يظل كذلك طوال الوقت حتى يكون آخر المنصرفين بعد الاطمئنان على حال الأخ وأهله وأسرته وقيام باقي إخوانه بأداء الواجب لأخيهم.
كما يضيف: كان إذا اعتقل بعض الإخوة يسارع بشراء مستلزمات الأسرة ويصعد لهم في أعلى الأدوار رغم عدم وجود مصاعد وكان يقول للشباب الذي يصاحبه في نجدة أسر المعتقلين: هيا يا أبنائي نغبر أقدامنا في سبيل الله عسى أن يرضى عنا ويضع المحبة في قلوبنا، فكنا نحقر أنفسنا أمام هذا الرجل المسن بنشاطه وهمته وتفانيه.
ويذكر الزعفراني: كان الحاج محمود رحمه الله يتابع ويراقب إخوانه في السجن، وبخاصة بعد عودتهم من الزيارة فكثيرًا ما قال لي: “يا إبراهيم أخوك فلان رجع من الزيارة متغير شوية تعالى نجالسه ونحادثه لعل ثمة مكروه ألمّ بأولاده أو في شأن من شؤونه ولا يتركه حتى يسري عنه أو يشاركه التفكير في التصرف فيما حل به”.
وفاته
ظل الحاج محمود شكري محافظا على لقاء إخوانه والعمل وسطهم حتى أنهكه المرض، ورحل مساء يوم الجمعة 8 يناير 2010 الموافق 22 المحرم عام 1431م، وقد خرجت جنازته يوم السبت من مسجد المواساة ودفن بمقابر المنارة بمنطقة الحضرة بجوار مستشفى التأمين الصحي وأمام كلية العلوم.
وشارك الأستاذ مهدي عاكف المرشد العام – حينئذ- على رأس المشيعين لجنازته التي حضرها ما يزيد على عشرين ألفا من المحبين له وتلاميذته، لدرجة أن الأمن اعتقل 6 من قيادات الإخوان بالإسكندرية ردًّا على هذه الأعداد التي حضرت الجنازة.
المصادر
- عباس السيسي: في قافلة الإخوان المسلمين، الجزء الثالث، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2002.
- عصام العريان: محمود شكري في رحاب الله، 9 يناير 2010،
- محمد مدني: صفحات من حياة المجاهد محمود شكري، 8 يناير 2020،
- عبدالرحمن فهمي: الحاج محمود شكري.. خادم “الدعوة” بالإسكندرية، 8 يناير 2020،
- محمد مدني: المرشد العام ينعى الحاج محمود شكري، 8 يناير 2010،
- مذكرات الدكتور الزعفراني: صفحة الفيسبوك،
- ياسر حسن: الإسكندرية.. 18 مدرعة و12 سيارة جيش للقبض على الراحل محمود شكري!:
- مصر: اعتقال 6 من قيادات الإخوان: 11 يناير 2010،