سخّر الله – تبارك تعالى- لهذه الأمة مَن يُربي أبناءها ويعلّمهم ويذكرهم بسنن المرسلين، كل فترة من الزمن، ومنهم الإمام محمد بن مفلح شيخ الحنابلة في عصره، والذي كان له فكره التربوي الخاص وآراء في بعض الآداب الشرعية.
لقد كان هذا الرجل من بين الرجال الذين اختصهم الله – عز وجل- ليكونوا على الحق ظاهرين، لا يضرهم مَن خالفهم، يدعون الناس ويُعرفونهم على الله ويدلونهم إليه، ويبذلون كل ما يستطيعون ليعلموهم الخير والهدى، فهم أحسن الناس هديًا وسمتًا، وأقومهم فعلًا وقِيلًا.
وفي بحثٍ أعدّه الدكتور حاتم عبد الله سعد الحصيني، دكتوراة في أصول التربية من جامعة أم القرى بمكة المكرمة، تبحر في فكر هذا الإمام الحنبلي وآرائه التربوية، وطرح تساؤلا مفاده: “كيف نطبق هذه الآراء والأفكار التربوية في حياتنا المعاصرة؟”.
من هو محمد بن مفلح الحنبلي؟
هو الإمام العلامة الفقيه المتفنن أبو عبد الله شمس الدين محمد بن مفلح بن محمد المقدسي ثم الصالحي – نسبة إلى الصالحية من قرى دمشق- الحنبلي (708-763هـ= 1308-1362م)، نشأ في أسرة عريقة اشتهرت بالعلم والفضل، وقد حفظ القرآن وهو صغير، ثم أخذ يتلقى العلم على العلماء العاملين في فنون مختلفة، فنشأ مُحبًّا للعلم بارعًا فيه، سيّما في علم الفقه، وكان مبدعًا فيه، وعَلَمًا من أعلام مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
ولقد أثرت بعض العوامل في فكر شيخ الحنابلة، منها نشأته في بيت دين وعلم؛ فمن أجداده شيخ الإسلام البرهان ابن مفلح، إضافة إلى ملازمته العلماء الكبار أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الذهبي، ثمّ تمكنه من مذهب الإمام أحمد، فقد ذُكر أنه أصبح علامة الشام في المذهب الحنبلي، وألّف فيه كتاب “الفروع”، وقد تأثر بالحالة العلمية في زمانه، لأن الشام أصبحت في عصره مركزًا جيدًا من مراكز الحياة العلمية.
وتفقه ابن مفلح حتى برع في الفروع على مذهب الإمام أحمد، وأصهر إلى العلامة جمال الدين المرداوي قاضي قضاة الحنابلة في الشام، وناب عنه في الحكم، وقد ذكره الذهبي فقال: شابٌّ دَيِّنٌ عالِم، له عمل ونظر في رجال السنن، ناظر وسمع وكتب وتقدم، وذكر قاضي القضاة المرداوي أنه قرأ عليه المقنع وغيره من الكتب في علوم شتى.
ووصفه ابن القيم بقوله: “ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح، وحضر عند شيخ الإسلام ابن تيمية، ونقل عنه كثيرًا، وكان يقول له: ما أنت ابن مفلح، أنت مفلح، وكان أخبرَ الناس بمسائله واختياراته، حتى إن ابن القيم كان يراجعه في ذلك.
وكان ابن مفلح قاضيًا مفتيًا، وقد ناب في الحكم عن قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن محمد المرداوي المقدسي الحنبلي، وتزوَّج ابنته، وله منها سبعة أولاد ذكور وإناث، كما درَّس في المدرسة الصاحبيَّة التي أنشأتها ربيعة خاتون بنت نجم الدين أيوب أخت صلاح الدين الأيوبي والملك العادل، ودرَّس في مدرسة الشيخ أبي عمر “المدرسة العمريَّة”، والسلاميَّة، وأعاد بالصدريَّة ومدرسة دار الحديث العالمة.
آراء محمد بن مفلح التربوية
وفصّل الباحث حاتم الحصيني، آراء محمد بن مفلح التربوية إلى نواحٍ إيمانية، وعلمية، واجتماعية، وأخلاقية، وذلك على النحو التالي:
أولاً: من الناحية الإيمانية:
- إصلاح السريرة وتحقيق الإخلاص والحب لله.
- ذم الاعتراض على الله وعلى قدره.
- التسليم المطلق لله حقيقة العبودية.
- تقديم النية الصالحة والحذر الحذر من الرياء.
- أهمية قيام الليل.
- كراهية الشكوى من المرض والضير.
- الاستماع للقرآن والإنصات له من أعظم الأدب مع الله.
- الخوف من سوء الخاتمة.
- الحذر من الدنيا فإنها تغر الإنسان، وأخذ ما يقرب منها إلى الله.
ثانيًا، من الناحية العلمية:
- القرآن أولًا يا طالب العلم.
- العلم أعظم مطلوب وأغلى مقصود.
- العلم مواهب من الله يؤتيها من يشاء، يُنال بالتقوى والعمل لا بالحَسَب.
- تقبيل يد العالم ورأسه؛ فلا بد أن يكون للعالم مزية عن غيره.
- كثرة مخالطة العلماء ومصاحبتهم.
- غض الصوت عند المعلم وكل من يُحترم، وقُبح رفعه.
- إن هذا العلم الشرعي دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.
- العلم أصل كل خير، ومعدنه أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا، من الناحية الاجتماعية:
- إحسان الظن بأهل الدين.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أساس حفظ المجتمع.
- تخول الناس بالموعظة خشية الملل.
- آداب اجتماعية: كعيادة المريض، وتشميت العاطس.
- الإحسان إلى الجار ومعرفة حق الجوار.
- مخاطبة الناس على قدر عقولهم.
- الإذن في الأكل من بيوت الأقربين والأصدقاء ولو عُرفًا.
- الكف عن مساوئ الناس واستحباب مودتهم.
رابعًا، من الناحية الأخلاقية:
- العفو عن زلات الناس ومداراتهم صدقة.
- أهمية خُلق الحياء، فهو خلق الإسلام.
- ذم البخل والشح، وفضيلة السخاء.
- مكارم الأخلاق من شيم الرجال: كالأدب، والتواضع، ومكارم الأخلاق.
تطبيقات تربوية
وقد كان لشيخ الحنابلة محمد بن مفلح رؤية في التطبيقات التربوية لآرائه، شملت: الأسرة، والمؤسسات التعليمية، والمجتمع، وهي:
أولًا، في الأسرة:
- تربية الأولاد على حسن العمل، والحذر من سوء الخاتمة.
- تذكيرهم باستحضار الإخلاص في القول والعمل.
- تدريبهم على الصلاة بالليل واستحضار الخشوع في الصلاة.
- تربيتهم على الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم- إذا ذُكر.
- حثهم على بر الوالدين.
- مداعبة الزوجة والأولاد.
- درس أسبوعي للأولاد يتعلمون فيه ما يعود عليهم من خير وفائدة.
- تربية الأولاد على حب العلم والعلماء والتأدب للعلم.
- تربيتهم على القناعة، والرضا بما قسمه الله لهم.
- الحرص على الأمور التي تؤدي إلى محبة الله، من صلاة وقراءة القرآن وذكرٍ لله.
- تعويد الأبناء يوم الجمعة على تقليم الأظافر وحلق الشعر الزائد.
ثانيًا، في المؤسسات التعليمية:
- حث الطلاب على الصلاة، واستشعارهم معاملة الإنسان مع ربه ورقابته له.
- فتح باب إعارة الكتب للطلاب وحثهم على كثرة القراءة.
- غرس الآداب المختلفة: من عفو، وحسن ظن، وإحسان، في نفوس الطلاب.
- تربيتهم على حب العلم واحترام الكتب الدراسية.
- الاهتمام بحصة القرآن والتأدب معه.
ثالثا، في المجتمع:
- فتح حلقات لتحفيظ القرآن الكريم.
- تخول الناس بالموعظة.
- العفو عن زلات الناس ومداراتهم.
- الحذر من الإسراف وأن يقدم الباقي من الطعام للمحتاجين.
- الإحسان إلى الجار.
- اصطحاب الأبناء إلى المسجد.
- إحسان الظن بالناس.
- مساعدة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
- عيادة المريض.
وفاة ابن مفلح
تُوفِّي محمد بن مفلح – رحمه الله- في سكنه بالصالحيَّة ليلة الخميس الثاني من شهر رجب سنة (763هـ=1362م) عن بضعٍ وخمسين سنة، وقال ابن كثير: “وصُلِّي عليه بعد الظهر من يوم الخميس ثاني الشهر (رجب) بالجامع المظفري، ودُفِنَ بمقبرة الشيخ الموفَّق ابن قدامة المقدسي، وكانت له جنازة حافلة حضرها القضاة كلُّهم، وخلقٌ من الأعيان”.
وقال ابن العماد: “ودُفِن بالروضة بالقرب من الشيخ موفَّق الدين، ولم يُدفن بها حاكمٌ قبله، وله بضعٌ وخمسون سنة”.
المصادر:
- ابن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، 14/6.
- الذهبي: المعجم المختص بالمحدثين، 266/1.
- الذهبي: إنباء الغمر بأبناء العمر، تحقيق: د حسن حبشي.
- إبراهيم بن مفلح: المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، 519/2.
- ابن كثير: البداية والنهاية، تحقيق: علي شيري.
- ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناؤوط.