العلماء والمصلحون هم ورثة الأنبياء في العلم والدعوة إلى الإصلاح، وتحمل الغالي والنفيس لإرضاء الله – عز وجل- ومنهم المهندس محمد الصروي ابن محافظة الدقهلية الذي نشأ في بيئة إسلامية وترعرع في كنف دعوة الإخوان المسلمين منذ الصغر، وواجه التعذيب في سجون عبد الناصر والسادات ومبارك، حتى لقي ربه منذ أكثر من 15 عامًا.
والرجال في كل عصر لهم علامات وآثار، والمخلصون منهم يتركون أثرًا واضحًا في عموم الناس، ويسير حبُّهم في الوجدان. يقول الإمام أحمد بن حنبل عن هذا الصنف من الرجال: “يدعون مَن ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم مِن قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم مِن ضال تائه قد هدوه”.
والمهندس الصروي كان واحدا من هؤلاء المصلحين الذين عرفوا طريق الحق منذ صغره، وضَحى من أجله بفترة شبابه، وظل بقية حياته يبذر بذور التربية في نفس كل مَن تعامل معه حتى ترك آثارًا وبصمات يظل يتذكرها كل مَن عرفه.
نشأة المهندس محمد الصروي
وُلد المهندس محمد الصروي في شهر أبريل من عام 1943م، في قرية ميت يعيش التابعة لمركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، لأسرة ميسورة الحال حيث كان والده “عبد العزيز” يملك متجرًا للأسمدة، وقد اتسمت هذه الأسرة بالأصالة وحب التّديّن والحرص على الصلوات في المسجد.
التحق الصروي بكتّاب الشيخ “يوسف” – رحمه الله- الذي حفظ على يديه الأجزاء الأولى من القرآن الكريم قبل أن يلتحق بالمدرسة، ويقول في ذلك: “حفظت جزء عم وقليلا من جزء تبارك وكان بيتنا يطل على مسجد الشيخ أبو رويفع وكنت أذهب مع أبي – رحمه الله- للصلاة في المسجد، ولعل وجود البيت في مقابلة المسجد ثمّ الجو الديني في البيت كانا عاملين أساسيين في التوجيه الديني منذ نعومة أظفاري ولقد ساعد تعلمي في كتاب القرية على سرعة تعلّمي القراءة والكتابة ثم التحَقت بالمدرسة”.
وبعد أن درس “الصروي” مبادئ الكتابة والقراءة في الكُتّاب ألحقه والده بالتعليم الابتدائي في القرية عام 1949م، ونشأ مولعًا بالقراءة بسبب جيرته للثري عمر دحروج الذي كانت تصله الجرائد كل يوم، فكان يحرص الصروي على مطالعتها، فتفتّحت مداركه وعرف الأحزاب السياسية والجماعات الدينية ونشاطهم على الساحة حتى اندلعت ثورة 23 يوليو وغيّرت الواقع المصري.
رغم أنه لم ينشغل بالتناحر السياسي الذي وقع بعد الثورة، واهتم بدراسته، تابع نشاط جماعة الإخوان المسلمين والمحنة التي حدثت لها بعد حادثة المنشية في أكتوبر 1954م.
ثمّ التحق بكلية الهندسة جامعة القاهرة عام 1959م وتخرج فيها أول يوليو 1965م، وصدر القرار الجمهوري بتعيينه مهندسًا في وزارة الصناعة في 16 أكتوبر 1965م.
محمد الصروي وسط صفوف الإخوان
عرف محمد الصروي جماعة الإخوان المسلمين مُنذ صغره، حيث تكونت شعبة للإخوان المسلمين في قريته، ومن عجيب الصدف أنها كانت في بيته خلال الفترة من 1951 حتى 1954م، وكان يلعب ويستمع لما يُقال من دروس.
وقد زاد من معرفة “الصروي” بدعوة الإخوان أنّ أحد المربين من الإخوان كان مدرسًا لمادة اللغة العربية له في المدرسة وهو الأستاذ عبد الحميد البرديني، إلا أن محنة 1954م أوقفت ذلك. وفي 1957م كان يحرص على زيارة الأستاذ سيد البرديني (أخو الأستاذ عبدالحميد وواحد من الإخوان) وتعرف على كثير من فكر ومبادئ الإخوان على يديه.
لكن التحول الأكبر كان في مسجد كلية الهندسة جامعة القاهرة، حيث تعرّف على عدد من الشباب المتدين أمثال الشهيد فاروق أحمد على المنشاوي وغيره من شباب الإخوان في الكلية، واستطاع الأستاذ عبد العظيم مبارك عياد – بعد خروجه من السجن عام 1960م- أن يجمع هؤلاء الشباب على دعوة الإخوان من جديد، غير أن أجهزة عبد الناصر بسبب هوسها وخوفها من وقوع أي انقلاب كانت بين الحين والآخر تختلق قضية ضد المدنيين أو العسكريين.
ظل الصروي محافظًا على حضور الدروس وسط إخوانه حتى كان إعلان عبد الناصر عن اكتشاف تنظيم للإخوان يسعى للانقلاب على الحكم يقوده الشهيد سيد قطب، في أغسطس 1965م، حيث بدأت حُمّى وهستيريا الاعتقالات، فقبض على الصروي وزُج به في آتون التعذيب بالسجن، حيث حمزة البسيوني وشمس بدران وآلة التعذيب الرهيبة التي لم يشهد مثلها العصر الحديث.
قُدّم “الصروي” للمحاكمة، وحُكِمَ عليه بالسجن لمدة 12 عامًا في 6 سبتمبر 1966م، فتنقّل صابرًا محتسبًا بين العديد من السجون حتى مات عبد الناصر وأُفرج عنه في عهد السادات في 4 أبريل 1974م.
وبعد خروجه من السجن عاد إلى عمله مهندسًا، وسارع للقاء إخوانه وأساتذته الذين يعرفهم في الجيزة والقاهرة للعمل على إعادة نشاط العمل الدعوي بين الناس، فكان أحد الذين استطاعوا العمل وسط طلاب الجامعات والتأثير فيهم، وظل كذلك حتى بدأت تتضح ملامح جماعة الإخوان أكثر على الساحة، فاختِير مسؤولًا عن الإخوان في محافظة الجيزة.
لكن شبح المحاكمات العسكرية لم يختفِ، ولم تكد تمر الأيام حتى تحركت جحافل النظام عام 1995م، تجوب البلاد لتعتَقل قيادات الإخوان الذين زَجّ النظام بهم في محاكمات عسكرية ظالمة حُكم عليه فيها بالسجن ثلاث سنوات.
تربويات في حياة الصروي
اهتم محمد الصروي بالجانب التربوي في فترة كانت الجماعة تعمل على تربية وتغيير المفاهيم الفاسدة التي رسخها عبد الناصر في عقول المصريين وأبعدهم عن معنى الإسلام الحقيقي، حتى خرجت المرأة كاسية عارية.
استطاع الإخوان أن يغيروا الواقع، فكثر الحجاب بين النساء، وكثر رُوّاد المساجد من الشباب، وأصبحت جامعات مصر ساحة ومنبرًا للعمل الإسلامي. وترك الصروي بصمات عظيمة في نفوس مَن تعامل معهم، كما تأثر بمواقف كثيرة في حياته غيرتها للأفضل.
وقد كان البيت عاملًا قويًا في استقامة الصروي على الطريق والتزامه به حتى وفاته، وما يحكيه عن والدته أنه لم يُوفّق في عامه الأول من الجامعة بسبب مرض والده وصعوبة الدراسة، فاضطر للعمل مع مقاول لفترة أثرت عليه بالسلب فترك الصلاة، فما إن علمت والدته – رغم أنها أمية- حتى قطعت عنه المصروف.
وحينما لم يرجع لصلاته أمرت الأولاد بمناداته بأسماء غير المسلمين حيث اعتبرت بفطرتها أن الصلاة من أهم أركان الإسلام، فاستشعر سوء ما أقدم عليه بتركه الصلاة فعاد إليها وعمد إلى تحسين صلته بربه، وتعرف على الشباب الملتزم في الكلية، وحينما اعتقل ضرب أروع المثل في الصبر وتحمل التعذيب وعدم السقوط في فتنة التوقيع لتأييد عبد الناصر.
ومن المواقف التي يذكرها أحد إخوان الجيزة أنهم كانوا في لقاء وجاءهم المهندس الصروي قبل وفاته بفترة، وبعد انتهاء محاضرته غادر المكان، لكنه فوجئ بأن إحدى عجلات السيارة فارغة من الهواء، وبرغم كبر سنه وعِظَم مكانته في قلوب إخوانه، استحيا أن يُخبرهم، فأنزل الأدوات وأخذ يُغيِّر العجلة، حتى رآه أحدهم، فأسرع إليه ليقوم بهذا العمل، لكن المهندس أبى إلا أن يشاركه في تغييرها.
ومن أقواله التي تدل على علوِّ همَّته في نشر دعوته قوله في انتخابات مجلس الشعب عام 2005م: “إننا لم ندخل الانتخابات لنفوز، ولكن شاركنا فيها لندخل كل بيت وكل شقة لنعرفهم بدعوتنا”.
وقال – أيضا-: ويجب علينا انتهاز الفرصة وإبراز حقيقة الدين وحقيقة المؤامرة على الإسلام، وكذلك تذكية روح الأخوَّة العامة بين المسلمين، وأنهم أمة واحدة، فالحرب عليهم ككيان واحد متماسك حتى لا يتفرقوا، كما أنصحهم بدوام الذكر وكثرة السجود؛ لأن السجود هو أقرب الطرق إلى الله.
وفاته
ظل المهندس محمد الصروي يجوب المعسكرات الدعوية والمساجد والشعب محاضرًا ومربيًا حتى شعر ببعض التعب، فاتضح أنه مريض بالقلب، وقرر الأطباء إجراء جراحة قلب مفتوح إلا أن الله توفاه ليلة الإثنين 14 رمضان 1426هـ، الموافق 17 أكتوبر 2005م.
المصادر
- محمد الصروي: الإخوان المسلمون محنة 1965م.. الزلزال والصحوة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1425هـ، 2004م.
- محمد الصروي: الإخوان المسلمون في سجون مصر (من عام 1942م- 1975م)، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
- محمد الصروي.. تضحية بلا حدود: 3 أبريل 2008،
- ياسر هادي: الصروي: رمضان أمل الأمة المتجدد، 21 أكتوبر 2004،