بقلم: م. أحمد شوشة
إن المستقرئ لتطور الفكر التربوي في منطقتنا يجد أننا نمتلك رؤى ومفاهيم تربوية خصبة سادت في فترات ليست بقصيرة من عمر الإنسانية، وكان مصدرها هو الدين الإسلامي الحنيف، حتى إن أوروبا في فترة العصور الوسطى رأت في الفكر التربوي الإسلامي مصدرًا للاعتماد عليه والنهل منه.
غير أن عالمنا العربي والإسلامي المعاصر قد خضع في العصر الحديث لهيمنة الاستعمار الغربي، وحينما توارى هذا الاستعمار خلّف وراءه تبعية من نوع آخر أخطر وأشد، وهي “التبعية الفكرية التربوية”، ويزيد الأمر خطورة أنّ نفرًا لا يُستهان بهم من المثقفين في مجتمعاتنا يرون في هذه “التبعية الفكرية” نوعًا من “التقدم الحضاري” ويأتي هذا بالطبع في غير مصلحة الهوية الذاتية الثقافية العربية الإسلامية.
ولعلنا لا نبالغ عندما نقول إن السبب الأساسي في أزمة الفكر التربوي العربي المعاصر ترجع إلى تبعيته للفكر الغربي، وإلى أنه لا يكاد يوجد فكر تربوي عربي أصيل، بل توجد نظريات وآراء تربوية غربية (أوروبية وأمريكية) نقلت من أوطانها الأصلية وغرست في البلدان العربية رغم الاختلاف الكبير بين البيئات العربية والغربية.
ويشير الدكتور مصطفي عبد القادر زيادة، أستاذ أصول التربية بجامعة عين شمس بمصر في كتابه “تجديد الفكر التربوي العربي ومتطلباته في القرن الحادي والعشرين” إلى أنه يضاعف من خطورة أزمة الفكر التربوي العربي المعاصر، وأن العالم العربي اضطر إلى استيراد علماء من الغرب يعملون في جامعاته ومعاهده ومدارسه، كما أرسل البعوث إلى البلدان الغربية، وهذه الأجيال نقلت “الفكر الغربي” على أنه البديل الوحيد تقريبًا للتربية الحديثة، وليس على اعتبار أن الفكر الغربي مجرد وجهات نظر واجتهادات ونظريات لها أطرها الاجتماعية التي ناسبت ظروف المجتمعات الغربية.
وتتأكد أهمية الاستقلالية الفكرية لعالمنا العربي والإسلامي في اللحظة الحاضرة مع تفاقم تلك النزعات التي تعادي الإسلام وترى فيه خطرًا عليها، وترغب في طمس الهوية العربية والإسلامية تحت ستار “عولمة الفكر والثقافة”، بل والأكثر من ذلك أن هناك من يطالبنا بإعادة النظر في مناهجنا وأنظمتنا الدراسية لكي توافق رغبات ونزعات العولمة.. فماذا نحن فاعلون؟
بداية ينبغي أن يستقر لدينا أننا لا نرفض الاطلاع على فكر وتجارب الآخرين في المجال التربوي، ولكن من الضروري أن يستقر لدينا- أيضًا- أن “التربية وليدة مجتمع معين”، وأنه لا يمكنا استعارة فكر تربوي لاقى نجاحًا في مجتمع ما، فهذا الفكر نمى في تربة وبيئة مغايرة لتربة الثقافة العربية الإسلامية.
والتمسك بهذا الموقف يعود إلى الأسباب الآتية:
- أن الفكر التربوي الغربي والأمريكي نتاج حضارة صناعية (مادية).
- أن هذا الفكر يخدم أهداف المجتمعات التي نشأ فيها.
- أن هذا الفكر يوافق الأوضاع الطبقية الراهنة في العالم الغربي.
نقد أهم مدارس الفكر التربوي الغربي المعاصر
1- الفكر البراجماتي:
استند المذهب البراجماتي في نشأته على الفلسفات والنظريات والمذاهب والحركات الفلسفية السابقة له كنظرية دارون “للنشوء والارتقاء” والمذهب النفعي “قيمة الأشياء باستخدامها ومنافعها”، وينكرون الجانب الروحي تماما.
ويعد المذهب البراجماتي في الفلسفة المعاصرة أمريكي النشأة والتطوير والتطبيق، ولا يوجد مذهب آخر من مذاهب فلسفية أو تربوية يزاحمه في القوة أو التأثير أو الانتشار.
وينتقد المذهب في تأكيده المبالغ فيه على “الخبرة الذاتية” في عملية التعلم، فكل مادة التعليم سواء كانت حسابية أو تاريخية أو جغرافية أو علوم طبيعية.. يجب أن تستخرج من خبرة الحياة اليومية، وهذا المبدأ يؤدي إلى سيادة اتجاه “تجريبي” ضيق، كذلك يضع المتعلم كمحور للعملية التربوية، ويرفض التحديد المسبق للعملية التعليمية والتخطيط لها.
يعني هذا أن الخبرة الذاتية والنجاح الفردي هما المعياران الأساسيان للأخلاق وليس الخبرة التاريخية للإنسانية، وترى أن ما يحقق صالح الفرد يحقق صالح المجتمع كله، وتهدف من ذلك إلى إعداد الفرد للحياة في مجتمع رأسمالي يؤكد علي الفردية والتنافس إلى حد التطاحن والتقاتل في ظل رأسمالية “قطع الرقاب” وفي ظل مبدأ “البقاء للأصلح والأقوى” ولا نعتقد أن كل هذه القيم مقبولة في المجتمع المسلم.
2- الفكر الوجودي:
وهي فلسفة أوروبية ومن أشهر مفكريها (سارتر، وكامي، ويونسكو، ونيللر) وقد ذاعت منذ أواسط خمسينات القرن العشرين.
ويرى الوجوديون أن الهدف الأساسي للتربية هو “المحافظة على الفردية” مقابل خطر أكبر يهدد الإنسان وهو “الجماعة” التي تريد أن تحيله إلى حيوان، لذلك يجب أن تكون العملية التربوية فردية تبعد بقدر الإمكان عن العمل الجماعي للتلاميذ.
وينكر الوجوديون القيم الخُلقية المطلقة، ويرون أن الفرد هو الذي يحدد إن كان ما يفعله خيرا أو شرا، فضيلة أو رذيلة، وليس المجتمع، ويعني هذا أنه لا ينبغى تعليم أو فرض قيم أخلاقية معينة علي التلاميذ.. فهل يتلاءم هذا المفهوم الوجودي للأخلاق والتربية (والتناقض بين الفرد والمجتمع) مع المجتمعات الإسلامية؟
إن المجتمعات العربية والإسلامية بصفة عامة يغلب عليها الطابع الديني، والأديان تنص على وجود خُلقية مطلقة وتحض تعاليمها بل وتفرضها على الفرد والمجتمع. والإسلام يُعلي من قيمة الفرد في ضوء معيار الأخلاق.
3- الفكر الفرويدي:
لمدرسة التحليل النفسي التي أسسها سيجموند فرويد (1856- 1939م) وطورها تلاميذه وأتباعه من بعده تأثير كبير على نظريات التربية وعلم النفس المعاصر.
ويرسم الفرويديون صورة بائسة مريرة للنمو النفسي للإنسان، وأن التكوينات النفسية الداخلية هي التي تشكل وتحدد العلاقات الاجتماعية، ويعطون الغرائز البيولوجية والدوافع اللاشعورية أهمية كبرى في تشكيل سلوك الطفل على نحو يتسم بالأنانية، وعلى الرغم من محاولات وضغوط المجتمع فليس من السهل التغلب علي هذه الدوافع والغرائز، وهذا التركيز على تأثير العوامل الغريزية الطاغية في السلوك يدفع المربين الفرويديين إلى اتخاذ موقف يتسم بالسلبية إزاء انحرافات المتعلمين.. فعدوانية الأطفال وأخطاؤهم وتجاوزاتهم يجب- من وجهة نظرهم- أن تعالج بالتسامح، وفهم دوافع السلوك، وتحمله حتى يخف أو يزول، وتجنب استخدام العقاب كوسيلة تربوية.. ويؤدي هذا التصور إلى نتيجة أخرى، إذ تكاد الفرويدية تنفي بشكل عملي “المسؤولية الخُلقية” للإنسان، على أساس أن إرادته يؤثر فيها دوافع لا يعيها ولا يسيطر عليها.
فهل تتناسب هذه الفرويدية مع طبيعة الإنسان وتوجهات التربية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟ بالقطع لا يمكننا أن نستظل بمظلة الفرويدية ونحن متوجهون لبناء الإنسان المسلم.
مطالب تجديد الفكر التربوي في مجتمعنا العربي المسلم
أولًا: اعتماد المرجعية الإسلامية كمصدر رئيس لفكرنا التربوي، وله مقومات ومعالم:
– المقومات (الحقائق الكبرى):
- حقيقة الألوهية والعبودية: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الزمر:62).
- عالم الغيب والشهادة: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (الحشر: 22).
- سنن الحياة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى(1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3)} (الأعلى).
- طبيعة الإنسان: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70).
- العقل والعلم والمعرفة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق).
– المعالم:
- التربية من أجل العبادة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56).
- التربية من أجل تزكية النفس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} (الشمس).
- التربية من أجل تهذيب الأخلاق: {إِنَّ أَكْمَلَ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقاً}.
- التربية من أجل الإتقان: “إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ”.
- التربية من أجل الإحساس بالجمال: “إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ”.
- التربية على الوسطية الإسلامية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143).
- التربية على المسؤولية الاجتماعية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110).
ثانيًا: الوعي بتوجهات الفكر التربوي المعاصر، فهو:
- فكر عملي ديناميكي: هو الفكر المؤدي إلى إكساب المتعلمين المهارات والاتجاهات والسلوك والعادات التي تعينهم على العيش وتحقيق الإنجاز الذي يرقى بحياتهم ومجتمعهم.
- متعدد الروافد والمصادر: فالنظر إلى التربية اليوم باعتبارها مجموعة من الخبرات التي يمر بها المتعلم جعلت من الضروري الاستفادة من نتائج العلوم الأخرى الاجتماعية والطبيعية والتطبيقية؛ لكي تثري شخصية التلميذ وتكسبه اتجاهات في العمل والتفكير وتعينه على النجاح في المواقف الاجتماعية، وهو يحتاج أيضا إلى مناشط مختلفة تنمي فيه النواحي الجسمية والصحية والمهارية… إلخ.
- ينزع إلى التوظيف الاجتماعي: فالشورى أو الديمقراطية مثلا كمفهوم سياسي اجتماعي اقتصادي تربوي لا يمكن أن تكون مجرد عبارات نظرية ولا مجرد محاضرات تلقى فتحفظ، ولكنها تتضح وتثبت عندما تتحول إلى سلوك ديمقراطي أو شوري في حياة الفرد.
- يعلي مفهوم “المواطن العالمي”: يعتبر الفكر التربوي المعاصر أنه الوسيلة الملائمة للتواصل بين البشر عن طريق إعلاء قيم السلام والتفاهم والحوار، والعدالة والمساواة، واحترام حقوق الإنسان، والعمل معًا على حماية البيئة.. وغير ذلك من مفاهيم وقيم يتربى عليها كل إنسان، ومن ثم يكتسب عضويته داخل الجماعة الإنسانية بأسرها، أو أنه “المواطن العالمي”.
والمتأمل في جميع توجهات الفكر التربوي المعاصر آنفة الذكر لا يجد ثمة تعارض أو تناقض بينها وبين توجهات الفكر التربوي الإسلامي التي عرضنا لها سابقًا، هذا بالطبع مع تفرد الفكر التربوي الإسلامي بخصوصية تعود إلى مصدر اشتقاقه من الكتاب والسنة النبوية المطهرة.
ثالثًا: الوعي بالتحولات التي طرأت على عملية التعلم الإنساني، ومنها:
- استيعاب فروع المعرفة المتجددة: فعلى المؤسسات التعليمية اليوم أن تعيد النظر في أسس اختيار وتخطيط وبناء المناهج بطريقة تسمح للتلميذ بالاختيار من بين صفوف المعرفة، وتَعلُم طرق الوصول إلى مصادر المعرفة والتعامل معها، بدلا من حفظها وتذكرها.
- توظيف تكنولوجيا المعلومات: سوف تزدهر وتتدعم الخبرات التربوية بشكل جذري نتيجة لاستخدام الأجهزة ذات الوسائط المتعددة، ومحاكاة الكمبيوتر، والحقيقة المتخيلة، وغيرها من الأدوات التعليمية الجديدة.
رابعًا: الموازنة بين الخصوصية الثقافية والعولمة الثقافية، عن طريق:
- توسيع نطاق عملية التعلم: فمع تصاعد الدور المهم لتقنيات المعلومات، وتعدد مصادر المعرفة (النت – الإعلام -…)؛ أصبح لزاما على النظم التربوية أن تعد المتعلم للتعامل مع تلك المصادر.
- استجابة النظم التربوية لعولمة الاقتصاد: فبزوغ مبادئ اقتصادية جديدة (الخصخصة – الشركات متعددة الجنسيات – حرية التجارة الدولية …الخ) أدى إلى ظهور بعض التوجهات لتعديل المناهج الدراسية حتى تصبح مساندة للتجديدات في بنية الاقتصاد الحديث، وأضحت كثير من المجتمعات تعنى بما يسمى “الدراسات الدولية” التي تهتم بالثقافة العالمية وتعلم اللغات الأجنبية حتى يتاح للطالب العمل في أي مكان في العالم.
- تعزيز هدف الحفاظ على البيئة وترقية نوعية الحياة: تعنى بتنمية روح المسئولية الاجتماعية إزاء البيئة، وذلك بغرس أنماط سلوكية جديدة في المتعلمين، وأضحت البيئة تخصصًا رئيسًا في كافة المناهج والمراحل التعليمية.
ولا ينبغي أن ينطلي علينا ما يروجه بعض مفكري الغرب، ومن سبقهم من المستشرقين، من أن الفكر الإسلامي لا يصلح لتوجيه تربية الإنسان في عصر المعلوماتية، فالأصح لدينا أن عصر المعلوماتية في أمس الحاجة لتوجيهات الإسلام الحنيف حتى يتخلص من ماديته ويتغلب على أنانيته وغروره.. وصدق الحق تبارك وتعالي في كتابه العزيز: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143).