يعتلي القضاء في الإسلام مرتبة من أعلى المراتب، لأنه يفصل بين الناس في الخصومات حسمًا للتداعي وقطعًا للتنازع، بالأحكام الشرعية المتلقَّاة من الكتاب والسُّنَّة، والقاضي يقوم ببعض مسؤوليات الأنبياء والرسل، قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (ص: 26).
والقضاء أمر لازم لقيام الأمم ولسعادتها وحياتها حياة طيبة ولنصرة المظلوم، وقمع الظالم، وقطع الخصومات، وأداء الحقوق إلى مستحقيها، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللضرب على أيدي العابثين وأهل الفساد، كي يسود النظام في المجتمع، فيأمن كل فرد على نفسه وماله، وعلى عرضه وحريته، فتنهض البلدان ويتحقق العمران ويتفرغ الناس لما يصلح دينهم، ودنياهم فإن الظلم من شيم النفوس، ولو أنصف الناس استراح قضاتهم ولم يحتج إليهم.
القاضي والقضاء في الإسلام
القضاء فرض كفاية إذا قام به بعض الأمة سقط الوجوب عن الباقين وإذا لم يقم به أحد منها أثمت الأمة جميعًا، أما كونه فرضا فلقوله تعالى: ﴿ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ﴾ [النساء: 135]، وأما كونه على الكفاية، فلأنه أمر، بمعروف أو نهي عن منكر وهما على الكفاية، ولأن أمر الناس لا يستقيم بدون القضاء، فكان واجبا عليهم كالجهاد والإقامة، قال الإمام أحمد: (لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس).
ويتميز التشريع الإسلامي عن غيره من التشريعات الوضعية الأخرى؛ بإرساء نظام قضائي فريد من نوعه، اتصف بمجموعة خصائص جعلته أكثر قدرة على تحقيق غاياته وأهدافه، وأقدر على تحقيق العدل وإحقاق الحق؛ ليتميز بتلك الخصائص عن غيره، فلا فرق بين كبير أو صغير، أو بين أمير أو مأمور، ومن ثم ربى الإسلام في القضاة ضرورة مراقبة الله تعالى في كل الأفعال والأقوال؛ لأن الابتعاد عن الحق في إنزال الأحكام القضائية جريمة في حق المتخاصمين، وابتعاد عن نهج الله السوي.
ومن الأحاديث الواردة في الوعيد على الجور في القضاء، ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن وُلِّيَ القضاءَ، أو جُعلَ قاضيًا بين النَّاسِ، فقد ذُبحَ بغيرِ سكِّينٍ)، ففي هذا الحديث تمثيل القاضي- إذ يلاقي جزاءه في الآخرة- بأشد الناس عذابًا في هذه الحياة، وهو المذبوح بغير سكين، وهذا حال من يكون حظه من علم القضاء بخسًا، أو يكون خلق العفاف في نفسه واهيًا.
ومما جمع بين الوعد والوعيد ما رواه بريدة بن الحصيب الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (القُضاةُ ثلاثةٌ، اثنانِ في النَّارِ، وواحدٌ في الجنَّةِ، رجلٌ علِمَ الحقَّ فقضَى بهِ فَهوَ في الجنَّةِ، ورجلٌ قضَى للنَّاسِ علَى جَهْلٍ فَهوَ في النَّارِ، ورجلٌ جارَ في الحُكْمِ فَهوَ في النَّارِ، لقُلنا: إنَّ القاضيَ إذا اجتَهَدَ فَهوَ في الجنَّةِ) (صحيح ابن ماجه)، وهذا الحديث يصف عاقبة من يقضي بالحق على بينةٍ منه، وهي المصير إلى الجنة، وآذن بعاقبة من يقضي على جهلٍ أو جور، وهي المصير إلى النار.
خصائص القضاء في الإسلام
ويشمل القضاء في الإسلام عددًا من الخصائص التي تميزه عن غيره من النُّظم القضائية المعاصرة، ومنها:
- الشريعة مصدر القانون: فالله- سبحانه وتعالى- هو المشرع للقانون وليس للإنسان سوى تطبيقه عن طوع واختيار لا عن جبر وإكراه، والقاضي ليس إلا مبينًا وكاشفًا عن حكم الله.
- الشمول: فهو يشتمل على شؤون الأموال والأعراض والدماء وشؤون الأسر، وشؤون الحكم، والحرب والسلام، والعقود والتحكيم وغيرها، وهذا الشّمول مستمد من شمول الشريعة ذاتها.
- العدالة والمساواة: إذ لا يُميّز القضاء الإسلامي بين الناس حسب المكانة الاجتماعية أو الجنس أو العرق أو الشرف وغيرها من أنواع التمييز، فالجميع في ساحة القضاء سواء، مهما تباينت منازلهم أو ألوانهم أو أجناسهم.
- وحدة القضاء: وهي واحدة من أهم مميزات القَضَاء الإسلامي؛ إذ إن الإنسان أمامه ليس أمام قضاء متعدد الاختصاصات والجهات ومتباين المصادر، لكنه أمام قضاء واحد تندمج فيه جميع الاختصاصات وتتوحد فيه طرائق الدعوى والإثبات.
- اقتصاره على الأمور الحياتية دون الأمور العبادية: إذ رغم أن مصدر القانون مصدر متجاوز وعلوي فالقانون لا يحكم إلا في الأمور الحياتية.
- تثبت الجرائم الخلقية بشهادة أربعة شهود: لنص القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: 4]، وقال تعالى: ﴿لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء…﴾ [النور: 13].
- علاج المنحرفين يجب أن يبدأ قبل وقوع الجناية: بمعنى أن نشر العدالة الاجتماعية بين جميع الأفراد وتهذيبهم على أساس مفاهيم الدين والأخلاق يمنع وقوع الانحراف، لأن الأصل في وقوع الجنايات هو الحاجة والجهل. فإذا أشبعت الحاجة الإنسانية، وعلم الإنسان حكم الشريعة، أصبح الفرد عنصرًا نظيفًا مساهمًا في بناء مجتمعه الآمن الجديد.
- ينظم الإسلام نظام العقوبات على أساس الحقوق: فيقسمها إلى حقوق لله وحقوق للناس، ففي حقوق الله ينزل القصاص والتعزير والدية، ويلزم المخالف بالدفع، وفي حقوق الناس يلزم المعتدي بالدفع أو السجن، حيث لا يجعل السجن، العامل الأصيل في العقوبة، لأن الأصل في العقوبة إنزال الأذى المماثل بالجاني أو دفع التعويض للضحية، على خلاف القضاء الغربي الذي يقسم العقوبات ضد الجاني إلى أربعة أقسام وهي: الغرامة المالية، وتعليق العقوبة، وإطلاق سراح الجاني مع مراقبته بشروط، والسجن.
- تلعب شخصية الحاكم العلمية دورًا كبيرًا في الحكم بين المتخاصمين في النظرية الإسلامية؛ لأن القاضي المجتهد مُسلط على الأصول العقلية والشرعية، وعالم بأصول القضاء وموارده، وباني قضائه على أساس العلم والقرائن الموضوعية، وأنّ عليه أن يكون شاهدًا على الواقعة أولًا، يقول تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59].
- اليمين الشرعية على المنكر وسيلة مهمة من وسائل القَضَاء الإسلامي، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” البينةُ على المُدَّعي واليمينُ على من أنكرَ”. ويشترط فيها صيغة اليمين المقتصرة على اسم الجلالة، وإذن الحاكم، وموضوع اليمين وهو الحق المحلوف من أجله. ويشترط في الحالف: العقل، والبلوغ، والاختيار، وحق الإسقاط، والتبرع.
ضمانات العدالة في الإسلام
ولقد وضع رجال الشريعة ضمانات لتحقيق القضاء في الإسلام والعدالة بين الناس، وضمن هذا الإطار يُمكن التّحدث عن بعض القواعد الفقهية التي ضُمّنت في البِنْية القانونية لتضمن تحقيق العدالة للمتقاضين دون محاباة، ومن هذه القواعد قاعدة:
- اختيار القاضي الكفء: وهو من أهم الضمانات في ساحة القضاء الإسلامي، لأن القاضي هو الذي يمسك بيده مميزاتها، فيجب أن تتوافر فيه المواصفات التي اشترطها الفقهاء التي على رأسها: الشجاعة في الحق، والورع، والفطنة، والعلم باللغة وعلوم الشريعة، وخاصة ما يتعلق منها بالأحكام.
- التوسيع على القاضي في الرزق: فإذا كان من الواجب على الإمام أن يختار من يكون متصفًا بصفات معينة ليكون أهلًا لتولي هذا المنصب الخطير، فإنه من الواجب عليه- أيضًا- أن يرتب لهذا القاضي في بيت مال المسلمين رزقًا يكفيه حتى لا يتطلع إلى ما عند الناس، وحتى يتفرغ لعمله القضائي، وهو هادئ البال، مكفي المؤونة هو ومن يعول.
- النهي عن القضاء حالة الغضب: فقد حرصت الشريعة الإسلامية على التوازن العقلي للقاضي، وهذا التوازن يجعل العقل يدرك أبعاد الحقيقة في سهولة ويسر دون ساتر من ضباب الغضب يحجبها.
- الأصل في المدعى عليه البراءة: وبمقتضى هذه القاعدة يقع عبء الإثبات على المدعي أو على سلطة الادعاء العام، فعليها أن تقيم الدليل على ارتكاب المدعى عليه الجريمة، فإذا دافع المدعي عليه بأوجه دفاعه، يصبح مدعيًا ويلزم بإثبات دفاعه، فالأصل في المدعى عليه البراءة حتى يصدر حكم مبرم بإدانته.
- بطلان حكم القاضي لنفسه أو لأحد أصوله أو فروعه: فلا يجوز للقاضي أن يحكم لنفسه، ضمانًا للعدالة وابتعادًا عن التهمة، فإن حكم لنفسه كان حكمه باطلًا، ووجب على الحاكم نقضه. فإذا حدث نزاع بينه وبين أحد من الناس، كان المختص بالفصل في النزاع أي قاضٍ آخر غيره.
- تقرير حق المدعي عليه في الدفاع عن نفسه: فمن أهم المبادئ المقررة لضمان تحقيق العدالة بين الخصوم هو تخويل المدعي عليه الحق في الدفاع عن نفسه إما بنفسه أو بواسطة وكيله.
- واجب إصدار الأحكام وتنفيذها: فالأصل في القضاء الإسلامي أنه متى أصبحت الدعوى جاهزة للحكم، وجب على القاضي أن يحكم فورًا دون تأخير، وإلا فإنه يكون آثمًا، بل يستحق العزل، لما يترتب على تأخير الحكم من الإضرار بالناس، وتعطيل مصالحهم، وضياع حقوقهم.
- استقلال القضاء: فالقضاء المستقل في الدساتير والأنظمة الحديثة أوى ضمان لتحقيق العدالة، وأقدر وسيلة لحماية مؤسسات الدولة، وأعظم قوة لصد الظلم والاستبداد ورفع المظالم، وحماية الحريات العامة وحقوق الأفراد. وقد أكدت الشريعة الإسلامية استقلال القاضي عن أي سلطة أخرى، خصوصًا سلطة الحكام، كما أكدت استقلاله عن أي مؤثر آخر.
- تحريم الرشوة والهدايا: فمن أخطر الآفات على العدالة تسرب آفة الرشوة والهدايا إلى جهاز القضاء، لأنه من المعلوم أن سلطان المال له بريق مدمر للمبادئ والقيم عند ضعاف النفوس، وتبعًا لذلك إذا ما أتيح له أن ينفذ إلى جهاز القضاء عن طريق هذين السبيلين أدى إلى الإتيان على العدالة من قواعدها ثم القضاء عليها.
- نقض الحكم المخالف للنص أو الإجماع أو القياس أو القواعد: فإذا كان القاضي في الإسلام وظيفته رفع الظلم وقطع الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه وهو يُمارس وظيفته ليس معصومًا، فقد يقع في ظلم المتخاصمين خطأ.
صفات القاضي في الإسلام
واتفق العلماء على صفات للقاضي المسلم الذي يعتلي منصة القضاء، حتى لا تهفو إليها النفوس الضعيفة لتحوز الشرف والمكانة في الدنيا، متغافلة عن عبء القيام بواجبات العدل، والفصل بين الناس في المنازعات، ومن هذه الصفات:
- العدالة: وهي شرط من شروط تولي القضاء، فيلزم أن يكون منصفًا بصفة العدالة ابتداءً عند تعيينه وأن تظل هذه الصفة ملازمة له أثناء أدائه لعمله.
- الحياد: وهو أمر أساسي لتطبيق العدالة، فالقاضي المحايد هو العادل، لأن أصحاب السرائر الملوثة بالخطيئة والمعصية يتهمون الناس بما في نفوسهم، فلا بد من أن ينظر القاضي في القضية دون تحيز لمصلحة أحد الطرفين أو ضد مصلحته، أي ينظر في الدعوى متجردًا من الميل والهوى.
- القوة بلا عنف: وذلك حتى لا يهابه المحق.
- اللين من غير ضعف: وذلك حتى لا يطمع فيه الظالم، لأن القضاء يحتاج إلى كسب ثقة الخصوم والرفق بهم وبث الطمأنينة فيهم بحيث يذهب عنهم الخوف ويزول عنهم الاضطراب الذي يجعلهم في كثير من الأحيان، غير قادرين على الإفصاح عن دعواهم والاستدلال عليها أو الرد عليها وهذه الحالة تحصل عندما يخاف الخصوم والشهود القاضي الفظ ويحجمون عن الإفصاح عما يريدون الإفصاح عنه خوفًا ومهابة، فتصدر أحكامه معيبة ومشوبة بالنقص ومستوجبة للنقض، فينبغي على القاضي أن يكون شديدًا من غير عنف، ولينًا من غير ضعف.
- التفطن: حتى لا يستغفله الخصوم، فيميل عن الحق، فلا بد أن يكون كثير التحرز من حيل الحصول، بجودة الذهن وحدة العقل وقوة الرأي وصفاء الذهن. ولكن يجب ألا تزيد هذه الفطنة عن الحد المألوف وإلا انقلبت إلى نوع من الدهاء والمكر يدفعه إلى تجنيب الشريعة والحكم بالفراسة وفضل العقل.
- التأني: وذلك حتى لا تدفعه العجلة إلى ما لا ينبغي بالخصوم أو بالحكم.
- العفة والورع: بأن يكف نفسه عن الحرام حتى لا يطمع أحد في حيفه.
- العلم بأحكام من قبله من القضاة: وذلك حتى يسهل عليه الحكم وتتضح له الطريق.
ووضع الفقهاء شروطًا يجب أنّ تتوفّر فيمن يشغل منصب القاضي في الإسلام ليتمكن من أداء مهمته على الوجه الأكمل، ومن هذه الشروط:
- الإسلام: فلا يجوز أن يُولي القضاء كافرًا، ولو كان عالمًا عارفًا بالأحكام؛ لأنه يحكم بين المسلمين، وإن كان- أيضًا- قد يحكم لغيرهم إذا كانوا معهم، فلا يكون إلا من المسلمين.
- سلامة الحواس: والمراد بها السمع والبصر والكلام، وهذا شرط جواز وصحة عند جمهور العلماء فلا تجوز تولية الأصم لأنه لا يسمع كلام الخصمين ولا تجوز تولية الأعمى؛ لأنه لا يعرف المدعي من المدعى عليه ولا المقر من المقر له، ولا الشاهد من المشهود له أو عليه، ولا تجوز تولية الأخرس لأنه لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميع الناس إشارته.
- البلوغ: فلا يجوز تقليد الصبي القضاء، وإذا قلد فلا يصح قضاؤه ولا ينفذ؛ لأن لا ولاية للصبي على نفسه فلا تكون له ولاية على غيره بالقضاء ونحوه. ولأن القضاء ليس في حاجة إلى كمال العقل بكمال البدن فحسب، بل يحتاج كذلك إلى زيادة فطنة وجودة رأي.
- العقل: فلا يجوز تقليد المجنون أو المعتوه أو مختل النظر لكبر السن، قياسا على الصبي، بل أولى وإذا قلد أحد هؤلاء فلا يصح قضاؤه ولا ينفذ، قال الماوردي في هذا الشرط: “وهو مجمع على اعتباره ولا يلتقي فيه العقل الذي يتعلق به التكليف من عمله بالمدركات الضرورية حتى يكون صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيدًا من السهو والغفلة يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعطل”.
- الحرية: فلا يجوز تقليد من فيه شائبة رق كالمكاتب والمدبر فضلًا عن القن (وهو العبد الخالص) وإذا قلد القضاء فلا يصح قضاؤه ولا ينفذ، لأن العبد ناقص عن ولاية نفسه فمن باب أولى أن يكون ناقصًا عن ولاية غيره، كما أن العبد مشغول بحقوق سيده، فمنافعه كلها له، هذا بالإضافة إلى أن القضاء منزلة وحرمة وهيبة لكي يردع أصحاب اللدد وأهل الباطل.
- الذكورة: وهي شرط عند جمهور الفقهاء، فلا يجوز عندهم تولية المرأة القضاء وإذا وليت يأثم المولىّ وتكون ولايتها باطلة وقضاؤها غير نافذ ولو فيما تقبل فيه شهادتها. وحجتهم: الحديث النبوي الشريف: “لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ ولَّوْا أمْرَهُمُ امْرَأَةً” (البخاري).
- الاجتهاد: وهو الأهلية لاستنباط الأحكام من مصادر التشريع فالمجتهد هو مَن يعرف من القرآن والسُّنة ما يتعلق بالأحكام خاصة وعامة ومجملة ومبنية وناسخة ومنسوخة ومتواتر السنة وغيره، والمتصل والمرسل وحال الرواة قوة وضعفًا ولسان العرب لغة ونحوًا، وأقوال العلماء من الصحابة فمن بعدهم إجماعًا واختلافًا والقياس بأنواعه.
خطورة منصب القضاء
ورغم أنّ منصب القاضي في الإسلام له هيبة وبريق وعلو قدرٍ، فهو في الوقت نفسه عبء كبير وقد يؤدي بصاحبه إلى الهلاك يوم القيامة، لذلك فإن حرص المرء على الشّرف بطلب الولايات أشد إهلاكًا له من حرصه على المال، وفي الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزها.
وقد أشار النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى خطورة هذا المنصب، حينما تحدث إلى عبد الرحمن بن سمرة- رضي الله عنه- فقال: “يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا”(البخاري).
ومن المواقف الناصعة التي تدل على أهمية الحكم بالعدل في الإسلام، ما رُوي أنّ علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- افتقد درعًا له، ثم ما لبث أن وجدها في يد رجل يهودي يبيعها في سوق الكوفة، فلما رآها عرفها، وقال: هذه درعي، فقال اليهودي: بل هذه درعي، وفي يدي يا أمير المؤمنين، وبيني وبينك قاضي المسلمين، فلما صارا عند شريح القاضي في مجلس القضاء، قال شريح لعلي- رضي الله عنه-: لا ريب عندي في أنك صادق فيما تقوله يا أمير المؤمنين، ولكن لا بد لك من شاهدين. فقال عليّ: نعم مولاي قنبر وولدي الحسن يشهدان لي. فقال شريح: ولكن شهادة الابن لأبيه لا تجوز. فقال علي: يا سبحان الله! رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته، أما سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ”.
فقال شريح: بلى يا أمير المؤمنين، غير أني لا أجيز شهادة الولد لوالده، عند ذلك التفت عليّ إلى الذمي، وقال: خذها، فليس عندي شاهد غيرهما. فقال الذمي: ولكني أشهد بأن الدرع درعك يا أمير المؤمنين. ثم أردف قائلاً: يا لله! أمير المؤمنين يقاضيني أمام قاضيه، وقاضيه يقضي لي عليه، أشهد أن الدين الذي يأمر بهذا لحقّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
وحرص كثير من الصحابة والتابعين على تجنّب هذا المنصب وما قد يجرّه عليهم من خسران، فرُوي أن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- عرض على ابن عمر- رضي الله عنهما- القضاء، فأَبَى، ولما ألحّ عليه لقبوله مذكرًا إياه بأن أباه كان يقضي، قال عبد الله: “إن أبي كان يقضي، فإذا أشكل عليه شيء سأل النبي- صلى الله عليه وسلم-، وإذا أشكل على النبي- صلى الله عليه وسلم- سأل جبريل، وإني لا أجد مَن أسأل”.
المصادر والمراجع:
- وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته، 8/ 5934-5936.
- محمد عثمان: النظام القضائي في الفقه الإسلامي ص 6-10.
- عبدالرحمن بن قاسم: الدرر السنية في الأجوبة النجدية، 16/ 180-182.
- العسقلاني: تهذيب التهذيب، 6 / 229.
- علي الطرابلسي: معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، ص 14.
- ابن قدامة: الشرح الكبير على المقنع، 11/ 394.
- عبد الكريم زيدان: نظام القضاء في الشريعة الإسلامية، ص 66-67.
- مصطفى أبو زيد: فن الحكم في الإسلام، ص 509.
- الكاساني: بدائع الصنائع، 7/8.
- عبد المنعم سليمان: أصول الإجراءات الجزائية في التشريع والقضاء، ص 213.
- الكيلاني: استقلال القضاء، ص 16.
- حيدر خواجه أمين أفندي: درر الحكام، 4/ 690.
- الماوردي: الأحكام السلطانية، ص 66.
- حامد الشريف: موانع القضاء، ص 18.
- صلاح سالم جودة: القاضي الطبيعي، ص 327.
- محمد كامل عبيد: استقلال القضاء، ص 75.
- ابن فرحون: تبصرة الحكام، ص 29.
- محمد رأفت عثمان: النظام القضائي، ص 19.
- الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، 11/ 325.
- السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص 142.
- الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معلا اللويحق، القضاء في الإسلام، 3/12/2015.
- محمد الخضر حسين، القضاء العادل في الإٍسلام.