قد يغترُّ بعضُ الملتزمين بطاعتهم
أو يُفتنون بما يجدونَه من حُظوةٍ لدى الآخرين
فتراهم ينظرون للناس من عَلٍ
يظنون بأنفسهم خيرًا
يرون أنفسهم أعبدَ الخلق
ويظنون بضاعتَهم خيرًا من بضاعةِ غيرِهم
يغترون بزادِهم ويزدرون زادَ إخوانهم
فآهٍ وألفُ آه
كم اغترَّ داعٍ بجاهِه
ومجاهدٌ بجهادِه
ومعطٍ بعطائِه
وعالمٌ بعلمِه
فكان كل ذلك عليهم وبالًا وخسرانًا
فأُحبط عملُهم
ولم ينالوا من كل فعالِهم إلا الجَهدَ والعنتَ والمشقة
فوالله إنها خسارةٌ ما بعدَها خسارة
وحسرةٌ لا يضاهِيها حسرة
ربما فُتح لك بابُ الطاعة وما فُتح لك بابُ القَبول
وكما قال أسلافنا الصالحون “رُبَّ طاعةٍ أورثت عزًا واستكبارًا”
فأيُّ طاعة تلك التي تورث في النفس عُجبًا!
وأي دعوةٍ تلك التي تجعلُ الداعيةَ يخالطُ الناس شذرًا!
وأي خيرٍ ذاك الذي يغرس في النفس فرحًا وبطرًا!
وأي عطاء ذاك الذي يسوِّغُ لصاحبه المشيَ بين الناس خُيَلا!
ولله دَرُّ القائل:
“انكسارُ العاصي خيرٌ من صولةِ الطائع”
فإياكَ يا أخي من “صولةِ الطائع”
والعُجبُ بالطاعة أشدُّ خطرًا على الإنسانِ من اقترافِ الذنب
ولذا قال الحبيبُ المجتَبى:
“لو لم تُذنبوا لخشيتُ عليكم ما هو أشدُّ من ذلك: وهو العُجب”
بعضُنا قد يقومُ لله ليلة
فيتسللُ العُجب إلى نفسِه
ويتسربُ الفرحُ المذمومُ إلى قلبِه
فيظنُّ بنفسِه خيرًا
ثم يخرجُ للناسِ ينظرُ إليهم بازدراءٍ خفي
قائلًا في نفسِه: كيف يعيشُ هؤلاءِ دونَ قيامِ الليل!
ألا فليحذرْ كلُّ طائعٍ لله قبلَ طاعتِه، وأثناءَها، وبعدَها
وليعملْ على مراقبةِ سَكَناتِه وحركاتِه وخواطرِه
فواللهِ إنها مُحبطاتٌ للعمل
ولنتذكرْ دومًا أنَّ أولَ خلقٍ تُسعَّرُ بهم النارُ يومَ القيامةِ عالمٌ ومنفقٌ وشهيدٌ لم يفعلوا ما فعلوا ابتغاءَ وجهِ الله
ولذلك قيلَ في الأثر:
“احذروا حلاوةَ الطاعات، فإنها سمومٌ قاتلة”.
وقال المحاسِبي: “إنما مرادُ الله سبحانَه من عبادِه قلوبُهم،
فإذا تكبرَ العالمُ أو العابدُ،
وتواضعَ الجاهلُ والعاصي وذلَّ هيبةً للهِ عزَّ وجلَّ وخوفًا منه،
فهو أطوعُ للهِ عزَّ وجلَّ من العالمِ والعابد”
فليتفقدْ كلُّ منا قلبَه
وليراقبْ خلجاتِه وخواطرَه
وليحذرْ من محبطاتِ الأعمال
ومع ذلك
ليس كلُّ الفرحِ محذورًا محظورًا
فالفرحُ بالطاعةِ نوعان
أولهُما محمودٌ
والآخرُ مذموم
أما المحمودُ فهو ما قال عنه النبيُّ- صلى الله عليه وسلم:
“من سرَّتهُ حسنتُه، وساءته سيئتُه، فهو مؤمن”
“قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا”
فلا مُشَاحَّةَ في الفرحِ بأنْ وفَّقَكَ اللهُ لطاعتِه
ولا تظنُّ أنكَ أوتيتَ الخيرَ على شيءٍ عندَك
إنما الفضلُ كلُّه عائدٌ إلى صاحبِ الفضل
“يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”
فما من طاعةٍ إلا وهي محضُ فضلِ ربِّنا
وكلُّنا يدخلُ الجنةَ برحمتِه سبحانَه
ولا يُغني عنا عملُنا -كثُرَ أو قل- منَ اللهِ شيئًا
أما الفرحُ المذموم
فهو استعظامُ العملِ واستكثارِه
والركونُ إليه
مع تجاهلِ نسبته إلى المنعمِ المتفضلِ سبحانَه
فلا تغترَّ -يا صاحبي- بنعمةِ اللهِ وفضلِه عليك
وإن رأيتَ مُذنبًا
فاحتقرِ الذنبَ لا المُذنِب
ولا تظنَّ بنفسِك الخيريةَ
وسَلِ اللهَ العافيةَ والسلامةْ