إنّ فن التعامل مع الخصوم والدعوة إلى الله – عز وجل- بحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ، شرف يمنحه الله لبعض عباده ليُميزهم به، وليجعلهُم خلفًا لمسيرة الأنبياء الذين توقف نزلوهم بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
والدين الإسلامي مُنذ خَلَقَ الله الأرض ومن عليها وله خصوم وأعداء، وقد أوجب الله – سبحانه وتعالى- على المسلمين حسن التعامل معهم لربما تتألف القلوب ويقبل على الدين والدعوة مَن كان عدوا لها.
والنماذج كثيرة حيث مارسها أنبياء الله ومِن بعدهم كل مصلح فَهم دينه فهمًا شاملا قويمًا وسطيًّا، وهو ما يجب على الدعاة في كل مكان وزمان الفطنة له، حتى لا يزيدوا أعداء الدعوة بل يجب أن يكونوا سفراء لكسب القلوب إلى الدين.
أهمية فن التعامل مع الخصوم
لقد خلق الله – تبارك وتعالى- الناس ليعبدوه وليعمروا الأرض، وأمرهم بالتدافع في سبيل إصلاح الكون، وجعل منهم أنبياء ورُسل وعلماء ومصلحين يهتمون بهداية الناس ودعوتهم وتعريفهم حق الله سبحانه على العباد.
ثم أمر الله المسلمين بالدعوة إلى الله كلا على قدر استطاعته حيث لا تقتصر الدعوة على فرد دون آخر، فقال تعالى:{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ }[فصلت:33]، ومع هذا التكليف بأن يكون كل مسلم داعية في محيطه – حتى ولو بالعمل أو الكلمة البسيطة- أمرهم بحسن الدعوة، فقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125].
وتزداد أهمية الدعوة بالحسنى في هذا الزمن الذي صار فيه الإسلام غريبًا لقلة العلم والعلماء ولغلبة أهل الجهل، ما أوجب على الدعاة تعلم فن التعامل مع الخصوم ووسائل الدعوة إلى الله وكيفية التعامل مع أعداء الإسلام (1).
كيف تعامل أنبياء الله مع خصومهم؟
لقد أرسل الله الرسل والأنبياء لإخراج الناس من عبادة الناس إلى عبادة رب الناس، فمنهم من أُرسل إلى قومه خاصّة ومنهم من أُرسل إلى العالمين، وبطبيعة الصراع الدائر بين الحق والباطل جعل الله لكل نبي عدو (بل أعداء) ليوقفوا مسيرة دعوته وليضلوا الناس عن الحق، بل ويعملون جاهدين على تزيين الباطل أمامهم.
ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تعرضوا للأذى ووقف المفسدين في طريق دعوتهم، يصدونهم، ويشوهون دعوتهم، ويؤذونهم بصنوف الأذى والابتلاء، ومع ذلك أمرهم الله بالصبر قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}[الانعام:34].
وكان كل نبي يستشعر ما عليه من مسؤولية هداية من أُرسل إليهم، فتعامل معهم معاملة الأب الرحيم المشفق عليهم، فتارة ينصحهم بالحب، وتارة بالزجر، وأخرى بتصوير النعيم بالإيمان بالله، وهذا هو فن التعامل مع الخصوم في أبهى صوره، وقد كان لسان حال كل منهم: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:118]، و{عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}[الأعراف:89](2).
فن التعامل مع الخصوم في حياة النبي
لقد كان اصطفاء ربانيا أن جعل الله – تبارك وتعالى- نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – آخر الرسل والأنبياء، وأن أرسله للناس كافة ولم يرسله لقومه خاصة، قال – جل وعلا – {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[سبأ:28]، فكانت قاعدة ارتكز عليها النبي – صلى الله عليه وسلم- في دعوته وتعامله مع الناس جميعا، وهو ما يجعل الدعاة يقتفون أثر نبيهم في هذا المنهج.
ويتجلى فن التعامل مع الخصوم في حكمة النبي الكريم خلال تعامله مع أعدائه في أثناء رحلته إلى الطائف حينما ذهب إليهم داعيا وناصحا وعرض عليهم الإسلام، لكنهم أغروا سفهاءهم وغلمانهم ليقذفوا النبي – صلى الله عليه وسلم- بالحجارة حتى أدميت قدماه وألجأوه إلى حائط عتبة وشيبة ابنى ربيعة، وفي هذا الموضع المؤلم رفع يديه إلى السماء شاكيا “اللهُمَّ إليكَ أشكو ضعفَ قوَّتي وقلةَ حيلتي وهواني على الناسِ”.
وصورت السيدة عائشة – رضي الله عنها- المشهد كاملًا بسؤالها للنبي – صلى الله عليه وسلم-: “هلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ قالَ: لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ ما لَقِيتُ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عبدِ كُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أرَدْتُ، فانْطَلَقْتُ وأنا مَهْمُومٌ علَى وجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إلَّا وأنا بقَرْنِ الثَّعالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فإذا أنا بسَحابَةٍ قدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فإذا فيها جِبْرِيلُ، فَنادانِي فقالَ: إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وما رَدُّوا عَلَيْكَ، وقدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، فَنادانِي مَلَكُ الجِبالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، فقالَ ذلكَ فِيما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا” (البخاري).
وهذه غزوة أحد قد “كُسرت رباعيتُه، وجُرحَ وجهُه، وَهُشِّمتِ البَيضةُ علَى رأسَه”، ومع ذلك رفع يديه إلى السماء داعيا “اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمونَ”، والنماذج والأمثلة كثيرة (3).
حسن البنا وخصومه
وإذا أردنا البحث عن نماذج في العصر الحديث، اتبعت أسس فن التعامل مع الخصوم والحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى الله – تبارك وتعالى، سنجد أنّ الإمام حسن البنا أحد هذه النماذج باقتدار، فهو مَن احترمه خصومه قبل أعداؤه، وكان من وصاياه لإخوانه في هذا الصدد: “أن تكون عادلاً صحيح الحكم فى جميع الأحوال، لا ينسيك الغضب الحسنات، ولا تغضى عين الرضا عن السيئات، ولا تحملك الخصومة على نسيان الجميل، وتقول الحق ولو كان على نفسك أو على أقرب الناس إليك وإن كان مرًّا” (4).
ويقول في موضع آخر: “وستسمعون أن هيئة من الهيئات تتحدث عنكم، فإن كان الحديث خيرًا فاشكروا لها في أنفسكم، ولا يخدعنكم ذلك عن حقيقتكم، وإن كان غير ذلك فالتمسوا لها المعاذير، وانتظروا حتى يكشف الزمن الحقائق، ولا تقابلوا هذا الذنب بذنب مثله، ولا يشغلنكم الرّد عليه عن الجد فيما أخذتم أنفسكم بسبيله” (5).
ومن مواقفه التي تدل على حلمه وقدرته على فن التعامل مع الخصوم، أنه حينما ذهب إلى بورسعيد للاحتفال مع إخوانه، وتربص أعضاء من حزب الوفد به وهاجموا مكان الاحتفال وأحرقوا شعبة الإخوان في عام 1946م وكان شباب الجماعة على استعداد لرد العدوان، أمرهم بعدم الصدام.
وفي العام التالي كان مقرر للكتيبة المتجهة لسوريا أن تسافر من الإسكندرية لكنه أصرّ على أن تسافر من بورسعيد، حيث تم استعراضها في الشارع أمام الجميع، وقال: كان بإمكاننا الرّد على عدوان الوفد بالقوة في العام الماضي لكننا كنا وهم الخاسرون والمستفيد هو المستعمر البريطاني ولذا آثرنا الأخوة بيننا، ووقف خطيبا وسط الجميع قائلا: “إن “الإخوان المسلمون” أبعد نظرًا من أن تستفزهم هذه المعارك الجانبية، لأنهم أحرص على دماء بني دينهم ووطنهم أن تذهب في سبيل المطامع والأهواء.. وقد كان بوسع الإخوان أن يردوا على هذا الاعتداء بمثله، ولكن الخسارة ستكون علينا جميعًا فنحن مهما اختلفنا في الرأي فإننا بنو دين واحد نعيش في مجتمع واحد وفي وطن واحد، لهذا آثر الإخوان المسلمون الحكمة وادخروا جهودهم وجهادهم لقتال أعداء الإسلام (6).
وسار على درب الإمام البنا، كثير من تلامذته، ومنهم الأستاذ عمر التلمساني الذي بكاه خصومه يوم وفاته، فكتب إبراهيم سعده – رئيس تحرير أخبار اليوم- يوم وفاته: “مات عمر التلمساني، صمام الأمان، لجماعة، وشعب، ووطن” (7).
أسباب الجفاء بين الدعاة والخصوم
ويتحرى الدعاة إلى الله – عز وجل- فن التعامل مع الخصوم والحكمة في إيصال المعاني الطيبة، لكن هناك أسباب تسوق إلى الجفاء بين الطرفين، ومنها:
- غياب فقه الأولويات وواجب الوقت.
- تصدر الجاهل للإفتاء، وخصوصًا في قضايا الأمة المصيرية.
- تغييب فقه الخلاف والأعذار.
- غياب أدب الحوار وتملك مرض العُجب والكِبْر.
- الانتصار للنفس ولو على حساب الحق أو الصواب.
- إساءة الظن بالآخرين، واتخاذ المواقف بناء على ذلك التعصب لرأي أو مذهب أو جماعة (8).
كيف أكون داعية يقبلني الجميع؟
لا يختلف اثنان على أن الدعوة إلى الله – جل وعلا- من أنبل وأشرف المهام، لكن فن التعامل مع الخصوم ضرورة يجب الانتباه إليها، في حال أراد الداعية النجاح في مهمته، ويمكن ذلك من خلال:
- الإيمان العميق بما يدعو إليه: فإنه بقدر إيمان الداعية بدعوته، وتفهمه لضرورتها وحاجة الناس إليها ينجح في دعوته.
- أن يكون على ضوء الكتاب والسنة وبالحكمة والموعظة الحسنة.
- الاتصال الوثيق بمن يدعو إليه: فالداعية أحوج الناس إلى الاتصال الوثيق بالله – عز وجل- ليستمد منه العون والتوفيق.
- الابتعاد عن اختلاف المذاهب، حيث إنها ليست من مهام الداعية فلهذه المهمة علماء، لكن الداعية عليه أن يحبب الناس في أمور دينهم، وبيان عظمة الشريعة وخصائصها.
- تطويع الأدوات المتاحة للدعوة إلى الله، فالداعية الناجح لا يترك فرصة من فرص الحياة إلا واغتنمها للدعوة إلى دين الله، ولا يترك أداةً مشروعة مؤثرة إلا واستعملها.
- العلم والبصيرة بما يدعو إليه، مع العمل بالعلم والاستقامة في السلوك: فلا خير في داعية لا يوافق عمله علمه، ولا يستقيم سلوكه.
- الوعي الكامل وإدراك ما يحيط بالدعوة، فلا يغني العلم عن الوعي.
- أن يستر على الناس عيوبهم، كما عليه أن يتعاون مع غيره من الدعاة ويتشاور ويتناصح معهم (9).
المصادر:
- الإمام ابن باز: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، جـ6، دار القاسم للنشر والتوزيع، السعودية، 1420هـ، ص 515.
- أمين الدميري: تنوع الأساليب في دعوة الأنبياء، مجلة البيان العدد 327 ذو القعدة 1435هـ، سبتمبر 2014م.
- عبدالرحمن البر: كيف تعامل النبي مع خصومه، 15 مارس 2009،
- مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا: رسالة التعاليم، ص ـ314.
- حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2002م.
- عباس السيسي: مواقف في الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1422- 2001، صـ 185- 187
- عمر التلمساني في عيون الأخرين: موقع إخوان ويكي (ويكيبيديا الإخوان المسلمين)،
- وائل البتيري: فرقة الإسلاميين وخصوماتهم.. المظاهر والأسباب والعلاج، 18 مارس 2019،
- كيف يكون الإنسان داعية ؟: 13 يونيو 2001،