إنّ الفهم الصحيح للدين أهم ما يجب أن يتحلّى بها المربِّي أو الداعية إلى الله- تبارك وتعالى-، فبدونه يُمكن أن يُصبح المربِّي أداة هدمٍ وليس أداة بناء، وبه يستطيع أن يُنتج أجيالًا صالحة تسعى إلى الخير وتُؤمِن به، وتعرف الشر وتجتنبه.
وهذا الفهم الذي نقصده يُعين على سلامة العمل، وحُسن التطبيق، ويَقي صاحبه العثرات، لذا فقد صنع هذا الفهم من الرّعيل الأول رجالًا بارعين، يعرفون كيف ينصرون الإسلام، انطلاقًا من قاعدة الفَهم العميق لفلسفة هذا الدين، فهم تمثيل حيٌّ وواقعيٌّ لدعوة الإسلام، بالقدوة قبل الكلمة.
مفهوم الفهم الصحيح للدين وأهميته
ويُعرّف الفهم في لسان العرب بأنه العلم بالشيء ومعرفته، ومعرفة الشيء بالقلب، وفي مختار الصحاح، هو فهم الشيء أي علمه، والمراد بالفهم عن الله ورسوله أي العلم والمعرفة بمعاني كلام الله وكلام رسوله- صلى الله عليه وسلم-.
وفي الاصطلاح، يعرف بأنه التعامل الصحيح مع النصوص الشرعية، انطلاقًا من المنهجيات والقواعد، بناء على دراسة النّص في منطلقاته الدلالية، وأبعاده المقاصدية.
والمقصود من هذا الفهم إدراك حقيقة شمول الإسلام لجميع مناحي الحياة، ومعرفة مصادر الأحكام الشرعية ومراتبها، وفقه الأولويات وكيفية الموازنة والترجيح بين المصالح والمفاسد إذا تعارضت، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين”.
وذكر القرآن كلمة الفهم في قول الله تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) [الأنبياء : 79]، والفهم أساسا هو “العلم بمعاني الكلام عند سماعه خاصّة”، وأما الفقه فقد ورد استعماله في القرآن أكثر من 15 مرّة على صيغة فعل، قال تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } [التوبة : 122]. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) [الأنعام : 98].
وقد أوضح النَّبي- صلَّى الله عليه وسلّم- أهمية الفهم في حديثه “نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمِعَ مقالتي، فبلَّغَها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ، غيرُ فَقيهٍ، وربَّ حاملِ فِقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منهُ، ثلاثٌ لا يُغلُّ علَيهِنَّ قلبُ مؤمنٍ: إخلاصُ العملِ للَّهِ، والنَّصيحةُ لوُلاةِ المسلمينَ، ولزومُ جماعتِهِم، فإنَّ دَعوتَهُم، تُحيطُ مِن ورائِهِم”.
ويقول ابن القيم- رحمه الله-: “صحة الفهم، وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المُنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم ومقاصدهم، وهم أهل الصراط المستقيم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميّز به بين الصَّحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد”.
كيفية تحقيق الفهم الصحيح للدين
ومن أهم وسائل تحقيق الفهم الصحيح للدين، القرآن الكريم، فهو كتاب يخاطب العقل، ويرسم فيه خريطة الإسلام بنِسَبِها الصحيحة، ويعطي لصاحبه تصورًا عامًا لكل ما هو مطلوب منه وعلاقته بكل شيء حوله، ولا يكتفي بذلك بل يضع كل أمر في حجمه المناسب له في شجرة الإسلام، فهو يرتب الأولويات، ويكوِّن العقلية المعتدلة المتوزانة، والتي تعطي كل ذي حق حقه، قال تعالى: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].
ومع القرآن فهناك دراسات للعلماء بشأن أصول الفهم، ولعل من أبرزها ما كتبه الشاطبي في كتابه [الموافقات]، والإمام الشهيد حسن البنا في [رسالة التعاليم]، حيث وضع فيها أصولًا للفهم، وهذه الأصول شرحها العديد من العلماء، وتشكل بصورة عامة الشخصية العلمية المتوازنة للمسلم.
ويحسُن كذلك دراسة فقه الأولويات والمقاصد، وفقه الخلاف، مع الأخذ في الاعتبار بأن تأصيل الفهم الصحيح للإسلام، وتعلم الحكمة في التعامل مع أحداث الحياة يحتاج- مع الوسائل السابقة- إلى معلم ومربّ يسقي هذا العلم إلى تلامذته ويتابعهم في تعاملاتهم مع مجريات الأحداث ليتأكد من حُسن تطبيقهم لصفة الاعتدال والتوازن.
ولا بد من الإكثار من القراءة في سير السلف، وأخبار الصحابة والتابعين، والإكثار من ذكر الله تعالى، والاجتهاد في دعائه، وبصحبة أهل الخير، فإن صحبتهم من أعظم ما يعينك على سلوك طريق الاستقامة.
ويمكن قراءة الكتب التي تتحدث عن أضرار الذنوب وآثارها السيئة على الفرد والمجتمع، مثل كتاب [الداء والدواء] لابن القيم- رحمه الله-، والإكثار من التفكر في أسماء الله تعالى وصفاته، وآلائه ونعمه؛ لتستقر محبته سبحانه في القلب، فيجد الإنسان نفسك مقبلًا على طاعته، حريصًا على مرضاته.
ومن منطلقات فهم الدين صحيحًا أن يكون الإنسان مخلصًا لله تعالى، طالبًا لرضاه، فإذا كان كذلك حرص كل الحرص على فهم الأمور على حقيقتها حتى يعبد الله وحده على بصيرة، ولا بد عليه كذلك من أن يكون من أهل المراقبة الصادقة لله عز وجل، فهي النور الكاشف الذي يريه ما يصلح تصوره، والعمل به، وما لا يصلح، فإن كان مراقبًا لربه فسيبحث عن الحق ليعمل به.
وُيبنى الفَهم الصّحيح- أيضًا- على حب الله تعالى وصدق العبودية له؛ فإن من كان محبًا لله صادقًا في عبوديته فسيبني فهمه على الحقائق الثابتة والتصورات التي لا يخالطها غبش ولا حيرة.
ويبنى أيضًا بالعلم النافع، وتتبع المعلومات الصادقة عن الشيء الذي يراد بناء تصور صحيح عنه، والرجوع إلى الموثوق بهم علمًا وديانة. فيكون عند المرء وعي جمعي نتج عن تراكم معلومات وحقائق، وليس وعيًا لحظيًا جاء نتيجة موقف معين فحسب.
خطورة الفهم الخاطئ للإسلام
وكثيرٌ من الناس يفهم الإسلام خاطئًا، بل يراه البعض من الزاوية التي يراه منها المنافقون، فلا نجده منتميًا إليه تمام الانتماء، ولا نجده يشعر بمسئوليته عنه، ولا نجده ساعيًا في إعزازه وإعلائه، ولا نجده باذلًا في سبيل ظهوره على الدين كله ولو كره المشركون، وسبب ذلك نقص إيمانهم وجهالتهم بهذا الدين، وأنهم أخذوه تراثًا ولم يأخذوه تطبيقًا، ولم يأخذوه علاقة بالله، ولم يأخذوه صلة به، وهذا خطأ في التصور.
ووقع كثير من المسلمين في الخذلان القاتل والعذاب المهين والاحتقار من الأمم، عندما اتخذوا النبي- صلى الله عليه وسلم- ودينه وشريعته مجرد تمتمات وشعارات وطقوس، يرجعون إليها في أوقات متباعدة قليلة، ورضُوا بأن تلصق التهم بالدين.
ولا شك أن ما يعيشه العالم من الأحداث المضطربة التي تهدد الأمن والسلم العالميين سببها الفهم السقيم للدّين ومقاصده، وتأويل نصوصه تأويلاتٍ بعيدة عن مرادها، وما يستدرجه من عوامل الشقاق والنزاع وسوء التصرّف في المجالات المتعلّقة بحسن التعامل بين الناس.
وقال الدكتور يوسف القرضاوي، رحمه الله، إن الفهم الخاطئ للدين والتطبيق الخاطئ له هو سبب تأخر المسلمين، وأن السياسات الاستبدادية التي حكمت المسلمين منذ قرون أفقدتهم القدرة على الإبداع والعطاء، وبرّأ الإسلام من المشكلات الحضارية التي يمر بها العرب.
وأوضح القرضاوي في محاضرة ألقاها بجامعة قطر عام 2008م، أن الحضارة الإسلامية سادت العالم لعدة قرون وخرّجت عباقرة لا تزال البشرية إلى اليوم تنهل من معين عطائهم من أمثال الخوارزمي، وابن رشد، وابن النفيس، وابن خلدون، وغيرهم.
وقد تسبب الفهم الخاطئ للإسلام في ظهور فرق ضلت الطريق، فالقدرية الذين أنكروا القدر قوم متصفون بالصلاح والتقى، لكنهم وقعوا في أزمة فَهم جعلتهم ينفون القدر ويتصورون أنّ علم الله تعالى ليس أزليًّا بل هو علم حادث يكون بعد حدوث الأشياء.
لقد أرادوا تنزيه الله تعالى عن الظلم، وتضخم هذا الجانب في نفوسهم وبالغوا فيه حتى خرجوا عن قاعدة التنزيه وهم يريدون التنزيه، ونجد هذا في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن ابن عمر عندما جاء يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري فقالا له: “ظَهَرَ قِبَلَنا ناسٌ يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ، ويَتَقَفَّرُونَ (يطلبونه ويجمعونه) العِلْمَ، وذَكَرَ مِن شَأْنِهِمْ، وأنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أنْ لا قَدَرَ، وأنَّ الأمْرَ أُنُفٌ (مستأنف)، قالَ: فإذا لَقِيتَ أُولَئِكَ فأخْبِرْهُمْ أنِّي بَرِيءٌ منهمْ، وأنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، والذي يَحْلِفُ به عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ لو أنَّ لأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فأنْفَقَهُ ما قَبِلَ اللَّهُ منه حتَّى يُؤْمِنَ بالقَدَرِ”.
وكذلك الأمر بالنسبة للشيعة الذين أحبوا عليًّا- رضي الله عنه-، ورثوا لما أصابهم، فأخرجهم هذا الرثاء عن جادة الفهم، حيث تضخم جانب الحب والموالاة، وسيطر على فهمهم ووجه حركتهم عبر التاريخ توجيهاً خاطئًا، وكان ينبغي أن يعلموا أنه لا يلزم من حب إنسان أن نخرجه عن الأطوار البشرية، ونرتب جميع الأوراق التاريخية السابقة واللاحقة تبعاً لهذا الجانب.
ونحن في هذه الأيام نواجه أزمة فكرية عند بعض العاملين للإسلام الذين يظنون أن توافر الأسباب وغزارتها يغني عن توافر الشروط، فهم يريدون القتال على أي حال، وهذه معادلة ذات شق واحد، تؤدي إلى نتيجة عكسية، وقد آن الأوان الذي تُعتمد فيه القيادة الراشدة، صاحبة المنهج والفهم، كما آن الأوان للمتعجلين أن يدركوا ضرورة هذا الرشد، ومعنى بعد النظر، واتباع قاعدة الأولويات، حتى لا يقع العمل الإسلامي في المصيدة التي ينصبها له أعداؤه، وقد تبين بما لا يدع مجالًا للشك أن مثل هذه الممارسات كانت عاملًا في تجريد المجتمع من القوة الإسلامية.
والمتتبع لسنة النبي- صلى الله عليه وسلم- يجد أنه كان باستمرار يُعيد على الصحابة عناصر فهمهم للإسلام، فلو نظرنا في حديث جبريل- عليه السلام- الذي كان في آخر عهد النبوة، حيث ذكرت فيه حقائق إسلامية لم تكن مجهولة عند الصحابة بل كانت معلومة.
وقد يقول قائل ما الداعي إلى إعادتها وترتيبها؟ علمًا بأن الصحابة- رضوان الله عليهم- كانوا قد سمعوا كثيرًا عن الصلاة والزكاة والصيام والحج والإيمان والإحسان والساعة، ولكن منهج هذا الدين يقوم على طريقة تربوية تعتمد على إدخال المعلومة الجديدة في ظل معلومات سابقة مرتبة، لتكون العملية الذهنية متكاملة، وإن أفضل طريقة لمراجعة الفهم هي معرفة أهداف الإسلام الكبرى ومقاصده العظمى، واستحضار هذه الأهداف والمقاصد في حالة وعي لا تعرف الهذيان ولا التجزئه، والمنهج السديد تتركز فيه أهداف الإسلام ومقاصده وهي أركان الفهم.
إن الفهم الصحيح للدين ضرورة لا غنى عنها للداعية والمربي، ويتحقق ذلك بلزوم دراسة الدين والأخذ بأطرافه، جميعًا، لأنّ من أخذ بالرقائق وحدها دون التطبيقات لا بد من أن يضل سواء السبيل؛ فلا يُمكن أن يعرف فرائض الله تعالى والسنن التي شرعها رسوله- صلى الله عليه وسلم-، والنوافل والمندوبات التي أمر بها وحض عليها من تلقاء رقائقه ومن تلقاء عاطفته الجياشة وحماسه المستمر، لكن هذا يُعرف من الفقه بالأحكام والتضلع في معرفة الحلال والحرام، ومن هنا كان لا بد للإنسان من الجمع بين جوانب الإسلام المختلفة، وكل هذا يشمله هذا العنوان الكبير الذي هو الإسلام.
المصادر والمراجع:
- الدكتور همام سعيد: قواعد الدعوة، ص 83-92.
- ابن تيمية: مجموع الفتاوى ٢٠/ ٥٤.
- ابن منظور: لسان العرب 15/357.
- ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين، ص ٦٦.
- موقع تيار الإصلاح: الفهم الخاطئ لمفهوم الشريعة.