خَلَقَ الله – سبحانه وتعالى- الإنسان وتكفّل برزقه، لكنه في الوقت نفسه أمره بالسعي إلى العمل واكتساب قوت يومه، فقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} [الملك:15]، وقال – عز وجل- :{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ..} [التوبة: 105]، وهي دعوة صريحة للإنتاج والتطور وتعمير الأرض، للحصول على الرزق الذي لا يأتي إلى الراكنين للدعة.
والأبناء خلفاء لآبائهم في الأرض، لذا لا بُد من أن نغرس مفاهيم تحمل المسؤولية وتعمير الأرض في نفوس أبنائنا منذ الصغر، فنعلّمهم أساسات ومتطلبات السوق وتحمل المسؤولية دون أن نحملهم فوق طاقتهم، لأن الهدف هو السعي، والرزق من الله.
أهمية العمل للإنسان
إنّ العمل في شرع الله – تبارك وتعالى- عبادة، وهو واجب على كل فرد في المجتمع، من أجل ديمومة الحياة وإصلاح الكون، فقال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } [هود:61]، كما حثّ النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم- عباد الله على تعمير الأرض حتى ولو وقعت القيامة، فقال: “إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها” ( صحيح على شرط مسلم).
والعَمَل يُشعر الإنسان بقيمته في الحياة وأهميته في الإصلاح والتغيير، وهو أيضا أحد أسرار الأمل الذي يدفع للسعي والجد، لأن بدونه تفسد الأرض والحياة معًا، بل يؤدي إلى الاقتتال والصراع بين الجميع على مصادر الحياة، فقال تعالى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60]، وقال جل وعلا :{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56].
فالعمل ليس ترفيهًا للإنسان لكنه ضرورة من ضروريات هذه الحياة التي لا يمكن العيش بدونها، وسبب من أسباب ترابط وتماسك المجتمعات (1).
القرآن والسنة يحثان على العمل
ولقد جاء القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، متممان لشرع الله – عز وجل- فيما أنزله على أنبيائه السابقين من شرائع، فحثّ الجميع منذ آدم – عليه السلام- على قيمة العمل وإصلاح الأرض، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة:276].
وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الجمعة:10].
وقال تبارك وتعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ* وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ* لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس:33- 35].
وقال جل شأنه: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:11].
وروى عبد الله بن عمر – رضي الله عنه- عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: “عملُ الرَّجلِ بيدِهِ، وكلُّ بَيعٍ مَبرورٍ” (صحيح الترغيب والترهيب).
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه-، عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: “والذي نَفْسِي بيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ علَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ له مِن أنْ يَأْتِيَ رَجُلًا، فَيَسْأَلَهُ أعْطَاهُ أوْ مَنَعَهُ” (البخاري).
كما روى المقدام بن معدي كرب عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قوله: “ما أكَلَ أحَدٌ طَعامًا قَطُّ، خَيْرًا مِن أنْ يَأْكُلَ مِن عَمَلِ يَدِهِ، وإنَّ نَبِيَّ اللَّهِ داوُدَ عليه السَّلامُ، كانَ يَأْكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ “(البخاري).
صور من حياة النبي وصحابته
وضرب الرسول – صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في ترسيخ قيم الحق في نفوس أمته، بل وحثّ عليها بالتشجيع بالأجر الوفير في الدنيا والآخرة، حتى إنه صلوات الله عليه كان يحب العمل منذ صغره، فاشتغل برعي الغنم: “كُنتُ أرعاها لأَهْلِ مَكَّةَ بالقَراريط”.
وحينما انتقل رسول الله إلى المدينة المنورة كان من أوائل ما اتخذه أن حث أمته على استصلاح الأرض وتعميرها وقال لهم: “من أحيا أرضًا مَيتةً لم تكنْ لأحدٍ قبلَه فهي له” (أبو داود)، وهو ما حمل الصحابة على للاجتهاد والإنتاج، وتربية أبنائهم على التجارة وامتهان المهن، فلم تذكر كتب السير أن أحدًا منهم أو أبنائهم كانوا لا يعملون.
وفي قصة الرّجل الذي جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- يطلب السؤال فأعطاه حبلا وطلب منه أن يحتطب ويأتي له بعد حين، مثال حي على أهمية السعي والاجتهاد لكسب قوت اليوم، حيث جاء الرجل بعد فترة وقد ظهرت عليه آثار النعمة.
ولو نظرنا لوجدنا أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم- عمل تارة في التجارة وتارة في رعي الغنم، بل كان يساعد في بناء الكعبة وحفر الخندق.
وكان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما- يعملان في التجارة، ويَنصحان المسلمين بالسَّعي في طلب الرزق، وعدم الاتِّكال على الغير. وهذا خباب بن الأرت كان حدّادا، وعبد الرحمن بن عوف الذي وصل إلى المدينة ولا يملك من حطام الدنيا شيئًا، وحينما مات قسمت ثروته الذهبية بين زوجاته وأولاده بالفؤوس لكثرتها، وكذا سلمان الفارسي عمل حلاّقا وغيرهم (2).
الخروج من صندوق البطالة
الأب مُطالب بتوفير الحياة الكريمة لأولاده، لكن هذا ليس سببًا أن يتركهم حتى يكبروا أو يتخرجوا في الجامعات دون أن يغرس فيهم حب العمل وتحمل المسؤولية، وتطوير الذات، ليكونوا مستعدين لمرحلة ما بعد التخرج وشق الطريق نحو تحقيق الذات، والهروب من شبح البطالة، وذلك عن طريق:
- إعطاء الطفل مصروفًا مع حثّه على إنفاقه بصورة جيدة، أو ادخاره أو استثماره في حاجات بسيطة أو شراء الأشياء المفيدة.
- تنمية مهارات الطفل الاجتماعية وحثّه على عدم الخجل والتعرف على الأصدقاء ومشاركتهم أعمالهم.
- تشجيع الطفل على التعلم والاستزادة من العلم وتطبيقه على الواقع العملي، لاكتساب المزيد من المهارات والخبرات من كثرة الاحتكاك بمجالات العمل.
- تعليم الطفل أكثر من مهنة بما لا يضره لاكتساب الخبرات، وذلك لمعرفة ما يميل إليه ويحسنه فيزداد التوجيه والتدريب عليه.
- غرس الطموح والهمة العالية والنشاط والثقة في النفس وقوة الشخصية والحسم في القرارات مع التواضع والتعامل مع المواقف بإيجابية.
- التحفيز المعنوي من خلال إقناعهم بفوائد العمل لهم وللآخرين، وتعريفهم بثوابه، والثناء عليهم عندما يستحقون ذلك.
- إشراك الأبناء منذ صغرهم في الأعمال التي يقوم بها الوالدان لتعويدهم على عدم الراحة أو الاتكالية، وتعليمهم مساعدة الكبار والضعفاء.
- البحث لهم عن عمل مناسب لسنهم ومتابعتهم بالتشجيع كونهم صاروا رجالا، والاتفاق مع صاحب العمل بحسن معاملته.
- ربط العمل لديه بخبرة محببة، كاصطحابه إلى نزهة، أو تشجعيه على الذهاب مع أصدقائه في نزهة من ماله الذي اكتسبه (3).
الأبناء ومخاطر البطالة
يسعى رب الأسرة إلى الجد في العمل والسعي للرزق، لتوفير حياة مستقرة لأسرته، وهو سعي محمود مأجور عليه إن أحسن النية وكان ماله من حلال وأنفقه في حلال.
لكن من الأخطاء التي يقع فيها الوالدان الخوف على أبنائهم من دفعهم إلى التدريب والسعي منذ صغرهم بل حتى وهم في الجامعات، وهو خوف مذموم يدمر الفرد بل والمجتمع كله، لأنه يُخرج إنسانًا اتكاليًا وعاطلًا لا يحسن التصرف.
وينتج عن هذه البطالة كثير من المظاهر السلبية، منها: ضعف الاستثمارات الموجهة إلى المشروعات الاستثمارية الجديدة لاستيعاب العاطلين، والكساد الذي يواجه سوق الأعمال.
ومن الآثار المترتبة على بطالة الأبناء:
- عزلتهم عن بقية أفراد المجتمع وفقدان الثقة في أنفسهم كأفراد.
- انتشار الأمراض الصحية، مثل: الاكتئاب، والإدمان، أو الانتحار، بين الشباب العاطل لعدم تقديرهم قيمة الحياة.
- تأثير ذلك على تصرفاتهم التي تتسم بالعنف في المواقف، بل والانجرار للاستماع – ربما- إلى الأفكار الهادمة سواء التطرف أو الإلحاد والوقوع في الجريمة وغيرها، لإشباع حاجاته المادية.
- وقوع الأسرة نفسها تحت ضغوط الحياة والديون لعدم قدرة رب الأسرة على توفير أساسيات الحياة لأسرته في ظل أبنائه العاطلين.
- ضعف الطلب على الأفراد المتعطلين كونهم لا يملكون خبرة جيدة.
- عزوف الشباب عن الزواج وانتشار الانحراف بينهم لضعفهم عن تدبير تكاليف الزواج أو مقدرتهم على تحمل مسؤولية أسرة، وإذا تم الزواج سرعان ما تنهار البيوت التي بُنيت على قواعد رخوة (4).
كيف نغرس في أبنائنا حب العمل؟
البيت هو المحضن التربوي الأول للأولاد، وإذا حسنت البدايات حسنت النهايات، ما يجعلنا نضع الأسرة في بؤرة الاهتمام لإخراج جيل إيجابي، وذلك بالوسائل الآتية:
- دفع الأبناء إلى حسن الأخذ بتعاليم الإسلام والتخلق بأخلاقه، وأيضا بالتفوق الدراسي ليدركوا قيمة وأهمية الحياة وتعميرها، حتى تتولد لديهم الروح الإيجابية للحياة منذ الصغر.
- التدرج في تحبيبهم إلى العمل وتشجيعهم على الأعمال التطوعية منذ الصغر، ليدركوا أهمية مشاركتهم وعملهم.
- من الممكن فتح مشروع بسيط لهم ومشاركته بمصروفه ليُقدروا قيمة ما يقومون به.
- إلحاقهم بمراكز التدريب المهني والحرفي (إن وجدت) تحت رعاية منظمات ومؤسسات الدولة أو المشاركة في الأعمال المدرسية.
- دفعهم إلى المشاركة في الأعمال المنزلية وترتيب غرفهم وتنظيم شؤونهم مع مكافأة الملتزمين ومعاقبة المتكاسلين حتى لا يعتمدوا على الآخرين.
- تنمية المهارات الإبداعية لديهم، مع تفريغ طاقاتهم في مهام إيجابية تُفيدهم.
- ومن الأمور المهمة تنمية قدراتهم على حل المشكلات، واحترام الحقوق والالتزام بالأنظمة والقواعد العامة (5).
أخيرًا
إن على الآباء وأولياء الأمور مهمة ترغيب الأبناء في العمل والسعي إلى الزرق، لتخريج أجيال تفيد المجتمع وقادرة على تحمل المسؤولية، على أن يبدأ ذلك بالتدريج، لتتشكل لديهم القدرات، ومفاهيم التعاون والعمل الجماعي.
المصادر
- أحمد مبشر جالو: قيمة العمل في الإسلام وفي الفكر الوضعي المعاصر، جـ1، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 2008، صـ10.
- أحمد بن أحمد محمد عبد الله الطويل: اتقاء الحرام والشبهات في طلب الرزق، طـ1، دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، الرياض، صـ 63-72.
- هدى عبد الرحيم ميمني: كيف نربي أبناءنا على حب العمل، دار حافظ للطباعة والنشر والإنتاج والتوزيع، جدة، 2001م.
- إخلاص فاضل، فراس بدر، حسن علي: مشكلة البطالة عند الشباب، دراسة ميدانية في جامعة القادسية، صـ25-26.
- نهى السداوي: كيف أثير حبَّ العمل لدى أبنائي؟ 18 أكتوبر 2017، https://bit.ly/3m4iP5a