يتحلّى الأطفال بالبراءة والتصرّف بتلقائية وعفوية، وعدم القدرة على التحكم فيما لديهم من معلومات، وبخاصة إذا لم يتدرّبوا على حفظ الأسرار خلال عملية التربية داخل الأسرة، وهو ما قد يُوقع الأمهات والآباء في حرجٍ شديدٍ بذكر أحداث مُعينّة أو مشاعر سلبية نحو ذويهم أو أصدقائهم.
والغريب أن نجد بعض الآباء والأمهات يشجعون أبناءهم على إفشاء الأسرار، بل واستخدامهم كوسيلة لمعرفة أخبار المحيطين من الأقارب والجيران، دون معرفة خطورة هذا الأمر على الطفل والأسرة بأكملها، وهو ما يتنافى مع تعاليم الإسلام التي تؤكد ضرورة تربية الصغار على كتم أسرار البيت.
مفهوم حفظ الأسرار
حفظ الأسرار من الأمانات التي حثّ الإسلام عليها، ورغّب فيها، وتُعد خاصية إنسانية في العلاقات الاجتماعية من حيث تعامل الفرد مع الآخرين، ومع المجتمع الذي يعيش فيه، لذا جاء السّر في اللغة بتشديد السين وكسرها، والجمع أسرار، وهو ما يكتمه الإنسان في نفسه، وتُشير إلى إخفاء الشيء.
ويقول الراغب الأصفهاني: “السِّرٌّ هو الحديث المُكَتَّمُ في النفس”، والسر ضربان: أحدهما: ما يلقي الإنسان من حديث يستكتم وذلك إما: لفظًا كقولك لغيرك: “اكتم ما أقول لك”، وإما: حالًا؛ وهو أن يتحرى القائل حال انفراده فيما يُورده، أو يخفض صوته أو يخفيه عن مجالسيه، ولهذا قيل: “إذا حدَّثك الإنسان بحديث فالتفت فهو أمانة”، والثاني: أن يكون حديثًا في نفسك بما تستقبح إشاعته أو شيئًا تريد فعله.
لذا فالسر هو ذلك المَكْنون الذي تضمُّه بينها الجوانح والصدور، والذي لا يستطيع كتمانه والحفاظ عليه إلا أولوا العزم من الناس، الذين كبّروا على شهوات أنفسهم وتمرّدوا على حُب الشهرة والذات، وعصموا ألسنتهم عن أن تفتق حجاب السر أو تهتك ستاره، حتى يظل في طي الكتمان إلى ما لا نهاية له من الزمان، لأنّ في كتمانه نجاح صاحبه وفلاحه(1).
لماذا لا يستطيع الأطفال حفظ الأسرار؟
الأطفال رمز للبراءة والصدق والعفوية، لأنهم لا يعرفون ما هو الكذب أو كيف يتم، ولا يُدركون ما معنى حفظ الأسرار وكتمانها، سواء الشخصية أو العائلية أو أسرار الآخرين، وهناك بعض السلوكات التي تناقض تكوين مهارة حفظ الأسرار لدى الأطفال، ومنها:
- إهمال الوالدين للطفل، وافتقاره للعطف والثناء والتقدير والاهتمام، حيث يلجأ كثيرًا إلى الفضفضة بما يدور في نفوسه للغرباء إذا لم يجد مَن يستمع له داخل الأسرة.
- عدم وجود القدوة التي تهتم بحفظ السّر، وغياب التعليم والتدريب كون الطفل لا يفهم ما هي الأسرار وأهميتها وضرر إفشائها.
- التصرفات الخاطئة، ففي كثير من الأحيان يقدم أحد الوالدين على تصرف خاطئ يبني سلوكًا سلبيًّا لدى الطفل كأن تطلب الأم من الطفل أن يتلصّص على أخيه أو جدته، ويخبرها بما فَعله أي منهما، هنا تنمي الأم حب الفضول والفتنة لدى صغيرها دون أن تشعر، فيميل الطفل إلى معرفة أسرار الغير وكشفها للعلن.
- مشكلات نفسية ورغبة الطفل في الانتقام مِن والديه أو غيرهما، بسبب القسوة التي يُعانيها أو الضغط بشدة عليه، أو التّنمر أو السّخرية منه.
- الانتهازية والتطفل الذي يدفع البعض لاستدراج الطفل بهدف استخراج المعلومات وأسرار بيته، فقديما قالوا “خذوا أسرارهم من صغارهم”(2).
لذا من المُهم تعليم الأطفال كتمان السر في سنّ مبكرة، وغمرهم بمشاعر الحب والعاطفة، ومن الممكن الاستعانة بالقصص والحكايات في تربيتهم على حفظ السر، ويكون ذلك حتى سن السابعة، لأنّ بعد هذا السن يبدأ الطفل في تمييز الكثير من الأشياء، وتبدأ قدراته على التمييز وإدراك ما يحدث حوله، ويتعلم القدرة على كبت المشاعر، وهنا يكون من السهل تدريبه على التحكم بما يعرف من معلومات(3).
ولا شك أنّ الطفل النّمام يتسبب في إزعاج الأسرة، فتضطر إلى أخذ الحذر الشديد وعدم التحدث في أي أمر قد يُفشيه الطفل للآخرين.
وغالبا ما يتورط الطفل أكثر في كشف المزيد من الخصوصيات والأسرار إذا ما وجد مَن يستدرجه بالأسئلة لمعرفة كل ما يتعلق بالعائلة، وذلك من باب الفضول أو الكره أو الغيرة، ومن ثمّ على الوالدين ملاحظة تصرفات صغارهم، وطبيعة نقلهم أخبار إخوتهم أو أخبار أصدقائهم، ما ينذر أن الطفل نمام وينقل كل ما يسمعه.
ومن الوسائل التي تساعد الوالدين على اكتشاف صفة النميمة في صغارهم، إعطاؤهم سرًّا بسيطا وغير مهم وتتبعه، هل سينقلوه أو يحتفظون به، وإلى مَن سينقلونه(4).
أطفال الصحابة وحفظ السر
ورغم ما انتشر بين العرب في مجتمع الجاهلية من البعد عن دين الله تعالى وارتكاب الفواحش والمنكرات، فقد كان لديهم بقية من أخلاق اتصفوا بها وربّوا عليها أبناءهم، وجاء الإسلام فعضّد مثل هذه الصفات ومنها حفظ الأسرار والمعلومات.
وكان سيد الخلق محمد- صلى الله عليه وسلم- على رأس هؤلاء، حيث حفظ السر مُنذ صغره، حتى لُقّب بالأمين لأمانته في كتمان السر وفي حفظ الأمانات.
وهذا على بن أبي طالب الذي استودعه رسول الله أمانات الناس، وسِر الهجرة فنام في فراشه، حتى تعرّض للتعذيب من رجالات قريش ليعرفوا مكان النبي- صلى الله عليه وسلم- أو لماذا نام مكانه، لكنّه تحمّل التعذيب ولم يفشِ سر النبي وصحبه حتى سئمت منه قريش فتركته.
وهذا أنس بن مالك- خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم- الذي قال: “أسرَّ إليَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- سِرًّا، فما أخبرتُ به أحدًا بعده، ولقد سألتني أم سليم (أمه) فما أخبرتها به” (رواه البخاري).
وفي رواية مسلم عن أنس- رضي الله عنه-: “فبعثني إلى حاجة، فأبطأتُ على أمي، فلما جئتُ قالت: ما حبسك (أخرك)؟ قلتُ: بعثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحاجةٍ، قالت: ما حاجتُه؟ قلتُ: إنها سرٌّ، قالت: لا تُحدثَنَّ بسرِّ رسول الله- صلَى الله عليه وسلم- أحدًا(5).
طرق تدريب الطفل على كتمان الأسرار
يرى بعض الأخصائيين، إنه من المحتمل أن يتحول الطفل البريء إلى رجل “استخباراتي” محنّك، مهمته أن ينقل أخبار وأسرار البيت إلى الغرباء، وذلك بعفوية وحُسن نية، ولهذا يجب تدريب أطفالنا على حفظ الأسرار عن طريق:
- توفير الأجواء التي من شأنها المساعدة على كتمان السر، فلا بد من أن تكون هذه الأجواء مُفعمة بالمحبة والود والاحترام والتقدير والرّفق والتفاهم والانسجام، وبخاصة مع الطفل إلى جانب تربيته على مُراعاة الله في كل ما يقوم به.
- توفير القدوة الصالحة كون أغلب ما يتعلمه الطفل من والديه، فيجب أن يكونا قدوة صالحة أمامه.
- تعزيز الجانب الأخلاقي والديني الخاص بكتمان السر وشرحه للطفل بطريقة مبسطة، وتكراره حتى يترسخ لديه ويصبح من مبادئه الثابتة.
- الإرشاد والمتابعة: فعلى الأم والأب استخدام كلمة الخصوصية لإرشاد الطفل وإعطائه معنى واضحًا للخصوصية.
- على الأب والأم عدم السماح للطفل أن ينقل لهما الكلام عن أصدقائه وزملائه في المدرسة أو الذي يسمعه من الآخرين حتى لو كان هذا الكلام عنهما أو عن أحد أفراد العائلة إلا أن يكون شيئًا يُؤّدي لخطر أو أذى.
- على الوالدين أن يخبرا الطفل بأن النّمام هو الذي ينقل الحديث غير الجيد بين الناس بغرض الإفساد بينهم، وأنّ الله- سبحانه وتعالى- لا يُحب النمام، والقرآن الكريم والأحاديث النبوية تُحرّم النميمة، لأنها تُسبب العداوة والبغضاء بين الناس وتُعكّر صفو القلوب.
- على الوالدين أن يشرحا لطفلهما أهمية الاحتفاظ بالكلام، كما من الضروري مراقبة تصرفاته من وقت إلى آخر.
- إعطاء المسؤولية للأبناء: فهم جزء مهم من العائلة، لذا لا بُد من إشعارهم بأنهم مقدّرون، ولا بُد من الإنصات والاستماع إلى آرائهم والمناقشة دائمًا معهم في الأمور المختلفة.
- عرض سلبيات الأمر: فلا يوجد مانع من كشف سلبيات أسرار المنزل أمام الطفل وما نتج عنها كأن تتحدث الأم أو الأب عن حزنها لأن طفلها أخرج مُشكلة أُسريّة للعلن.
- البحث عن أسباب إفشاء الطفل السر، وتوجيه الأبناء بخطورة التحدث إلى الغرباء عن أسرار المنزل وما قد تتعرض له العائلة من مخاطر بسبب ذلك.
- على الوالدين الحذر من الحديث أمام الأطفال في المواضيع التي قد تسبب مشكلات إذا عُرفت، كما لا بد من تجنب الشجار أمامهم.
- يمكن أن نستغل ممارسة الطفل لبعض الألعاب في شرح مفهوم السر، مثل عدم إخبار أفراد الفريق الآخر بخطة اللعب التي أعدّها المدرب، وأن هذا الأمر قد يسبب لفريقه الخسارة، حتى يستطيع الربط بين إفشاء السر ونتائجه السلبية.
- تعويد الطفل على احترام الآخرين وتقديرهم وعدم التدخل في الخلافات.
- في بعض الأحيان لا بُد من عقاب الطفل عند الخطأ بعدم الحديث معه فترة، وإخباره أنّ هذا بسبب نقله الكلام، لكن مع تقبل الخطأ حتى لا يشعر أنّ خطأه كبيرٌ ويلجأ إلى الآخرين للتحدث معهم.
- على الوالدين أن يتجنّبا العنف في معالجة هذه المشكلة، لأنه يفاقمها، مع ضرورة وقف اللوم المستمر والنقد والأوامر.
- تربية وتدريب الصغار على أنّ هناك بعض الأسرار التي يجب ألا يخفيها أبدا ويجب عليه إخبار والديه أو إخوته الكبار بها، كأن يتنمر عليه أحد أو يتحرش به أحد، أو رأى سرقة وحاول السارق إغراءه بالمال، وغيرها من الأمور التي يترتب عليها ضرر له أو لأسرته أو للآخرين(6).
ينبغي على الوالدين تربية أبنائهم على كتم الأسرار وعدم إفشائها خارج الأسرة ولا حتى داخلها، مستعينين في ذلك بالوسائل التربوية التي أشرنا إليها لترسيخ مبدأ حفظ السر لدى الأطفال في كل الأحوال، عدا ما قد يتسبب في ضرر لهم أو لأسرهم.
المصادر والمراجع:
- الراغب الأصفهاني: الذريعة إلى مكارم الشريعة، دار السلام – القاهرة، 2007م، صـ 212.
- نهى السداوي: علّمي طفلك الحفاظ على أسرار المنزل، 10 نوفمبر 2017.
- هناء محمد: كيف نربي أطفالنا على كتمان اسرار المنزل؟، 28 يناير 2016.
- سمية سعادة: طفلك يفشي أسرارك!.. إليك هذه النصائح، 21 فبراير 2022.
- حنان عتوم: طرق تعليم الأطفال الاحتفاظ بالسر، 22 ديسمبر 2020.
- أمل الكردي: عندما يفشي الطفل أسرار البيت.. كيف يتصرف الأبوان؟