تتدافع الأيام، وتتزاحم الشهور، وتتلاحق الساعات، وها هي نسمات الشهر الكريم تفوح بشذاها في ربوع الكون، وهو ما يتطلب من المسلم ضرورة الاستعداد لشهر رمضان المبارك، الذي تنبت فيه أوراق المحبة والتسامح، وتنضج فيه ثمار الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، ويصدع المنادي: “يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ”.
وينزل شهر القرآن ضيفًا بساحة المسلمين المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، لذا يلزمنا أن نُعد العدة لاستقباله حتى نحسن ضيافته ونُكرمه حق الإكرام؛ وحتى لا ندخل في دائرة من أدركه ولم يُغفر له فيه، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم- “خاب وخسر من أدرك رمضان ولم يُغفر له” (رواه البخاري).
الاستعداد لشهر رمضان.. غايات مختلفة
لقد شمّر الكثير من المسلمين عن سواعدهم من أجل الاستعداد لشهر رمضان المبارك، وكلٌّ على طريقته؛ فتعددت الغايات، وتفرقت النيات، واتسعت الأحلام، فمنهم من استعد بصيام أيام من شعبان لتزكية نفسه، وتعويد جسده، وتدريب عقله، وتمهيد طريقه، ومنهم من استعد لها بأيام اللهو والمنكرات، وتجيش المسلسلات والسهرات، ولا غاية له إلا كنز المال والمجوهرات، وفي النهاية يكتشف أنه ترك خزينته خاوية من الحسنات والأعمال الصالحات.
بل هناك مَن جهز العزائم والولائم وأشهى أنواع الطعام، فيقضى رمضان بين طعام هنا وطعام هناك، حتى يثقل جسمه، فلا يستطيع أن يركع لله بضع ركعات، ويظل طول النهار نائمًا من تعب الصيام كما يظن، وتمر عليه الأيام المباركات فلا ينال منها إلا الجوع والعطش، ومنهم من انهمك في تجارته وبيعه وشرائه، ونسى أن رمضان موسمٌ غير عاديٍّ لأهل التجارة مع الله تعالى، حيث تضاعفُ فيه الحسنات، وفرصة جليلة لمحو الذنوب والخطايا.
إن رمضان ليس عصًا سحرية، حينما يأتي ستجد العيون التي لم تدمع طوال العام تنهمر بالدموع، أو أن الكسل الذي ظل معك طوال العام سيتحول إلى اشتعال إيماني في لحظة، فمثله كمثل سائق سيارة ومسرع بها ولا يعلم معوقات ومطبات الطريق فيفاجأ بها أمامه فلا يسعفه الوقت للضغط على المكابح، وذلك بخلاف من استعد جيدًا لعقبات الطريق فكبح جماح سيارته ومر من فوقه بسهولة، وهكذا الفرق من استعد لرمضان ومن تفاجأ أن غدًا أول أيام الشهر المبارك.
ونريد أن نقول: “ولو أرادوا رمضانَ لأعَدُّوا لَهُ عُدّة”، ولذلك فقد قال أحد السلف: “رجب شهرُ البَذر، وشعبان شهرُ السُقيَا، ورمضان شهرُ الحَصاد”، بمعنى أن كل الذي تريد أنْ تحصده في رمضان يجب أنْ تزرعه أولًا في رجب وشعبان.
كيفية الاستعداد لشهر رمضان
إن الاستعداد لشهر رمضان الكريم بغية كل متسابق يُريد أن يفوز في هذا السباق الإيماني، فيجهد نفسه، ويستفرغ عزيمته؛ ليجد نهاية الشهر نفسه ممن فازوا بالخيرات، فيُوفى الأجر قبل أن يفرح بفرحة الأعياد، ويمكن أن نستعد لهذا الشهر بالآتي:
أولًا: التوبة النصوح وكثرة الاستغفار، فالذنوب سبب الحرمان من كل خير، والتوبة تلك الرحمة التي امتنَّ الله بها على عبادِه المذنبين، فلا يقنَط المذنب ولا ييأس من رحمة الله التي عمَّتِ السمواتِ والأرض.
ثانيًا: أصلح غايتك وجدد نيتك، فلا تبدأ أي عمل إلا وقد أصلحت نيتك، فلن يقبل عملك إلا إن كان خالصًا صوابًا موافقًا للشرع، قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّه} (النساء: 100).
ثالثًا: أصلح قلبك، واحرص أن تكون مخموم القلب من الآن، وادخل رمضان وقد فرّغت قلبك للانشغال به دون سواه. قيل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- : أي الناس أفضل؟ قال: “كل مخموم القلب صدوق اللسان”، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟، قال: “هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد” (صحيح ابن ماجه).
رابعًا: عليك بكثرة الدعاء، فقد كان حبيبك لا يفتر لسانه عن الدعاء لله سبحانه بقوله: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان. وإذا دخل رمضان كان كثير الدعاء أن يوفقه الله فيه لحسن الطاعات، وترك المنكرات وإقالة العثرات، وأن يتقبل الله منه الصلوات والقيام والصيام وسائر الأعمال، وأن يكون من عتقاء النار.
خامسًا: طهر سريرتك، فلا يكن شغلك الشاغل هو كيف ستصوم رمضان، لكن اجعل همك كيف تصلح فيه نفسك فتعمرها بالإيمان، وتنجي لسانك من الآثام وبذيء الكلام، وتصلح ما بينك وبين الآخرين فتصل رحمك، وتعفو عمن ظلمك، وتبحث عن المساكين والضعفاء فينالوا منك أفضل الصدقات.
سادسًا: الصلاة.. الصلاة، إن المساجد تبكي فراق الأحباب، فأصبحت مهجورة إلا قليلًا من كبار السن؛ فسارع بعمارة المساجد، وأنر جنباتها بلوعة الشوق، وأحسن خشوع الصلاة، فالفريضة في رمضان بسبعين فريضة فيما سواه، والسُّنة في رمضان بفريضة فيما سواه، فلماذا تخسر هذا الفضل، عود نفسك وألزمها الصلاة حتى تكون خفيفة عليك في رمضان.
سابعًا: أنِر قلبك بالقرآن، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (اّلم) حرف، ولكن ألِفٌ حرف، ولامٌ حرف، ومِيمٌ حرف” (الترمذي).
ثامنًا: العزيمة الصادقة، إن كثيرًا من الناس يدعي أنه سيغتنم الشهر وأنه سيفعل كذا وكذا من الطاعات، حتى إذا ما بلغه انفرط عقد تلك العزائم، وتهاوت تلك القوى، ولكن من علم عظيم الأجر، وكثرة الثواب للطائعين؛ لا تضعف عنده تلك القوى؛ لأن الثواب جليل القدر، عظيم الرفعة، يكفيه أن الله تعالى هو المُكرم المنعم المتفضل، وأيام رمضان قليلة سرعان ما تنقضي.
خطة رمضان
وإذا أراد المسلم الاستعداد لشهر رمضان الكريم واستثماره في العبادة والتقرب إلى الله-تبارك وتعالى -، فلا يفوته وضع خطة تتضمن ما يلي:
- تلاوة يومية لوردٍ من القرآن الكريم، ليختم القرآن مرة على الأقل في الشهر الكريم.
- قيام الليل يوميًا في المسجد، والحرص على صلاة التراويح جماعة قدر الإمكان.
- بر الوالدين، فلا بد من التخطيط لإرضاء الوالدين وإسعادهم في رمضان بشتى الطرق ففي ذلك الثواب العظيم.
- زيارة الأهل والأقارب؛ ووضع مخططٍ لذلك، ولتكن نيتك صلة الرحم وتحسين العلاقات وزيادة المودة.
- الصدقة على الفقراء والمحتاجين، والمساهمة في إفطار صائم أو توزيع سلات غذائية.
- تخصيص أوقات لكل أنواع الذكر (التسبيح والتهليل.. إلخ)، فله متعة خاصة في رمضان.
- ممارسة أنشطة رياضية، كالمشي أو السباحة، فهي تعين على هضم الطعام وتحفز على العبادة.
- التخطيط للقيام بعمرة في رمضان إن أمكن، فهي تعدل حجة مع رسول الله ﷺ.
- إغاثة الملهوف أو المحتاج.
عقد العزم على إصلاح النفس
ومن أبواب الاستعداد لشهر رمضان الكريم، عقد العزم على إصلاح النفس من الأخطاء والعادات السيئة، وهي:
- الإقلاع عن التدخين.
- ترك الغيبة: فليكن رمضان فرصة لمحاولة تهذيب النفس بالتخلص من عادة التكلم عن الآخرين، وأكل لحومهم.
- هجر النميمة: قال- صلى الله عليه وسلم-: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”.
- ترك سماع الأغاني: حاول أن تضع في مخططك أن تمنع نفسك عن الاستماع إلى الأغاني الماجنة والمضيعة للوقت والفؤاد، وأن تستبدل بها القرآن الكريم، ثم الأناشيد الإسلامية والبرامج المفيدة.
- مقاطعة المسلسلات والأفلام.
- ترك قطعية الرحم: حاول أن تتخذ من رمضان نقطة إصلاح ما انقطع من رحمك وقم بزيارة من قطعته، فإن الرحم معلقة بين السماء والأرض يصل بها الله من وصلها ويقطع من قطعها.
- عدم تضييع الصلوات والتهاون بها، فرمضان فرصة عظيمة لتثبيت الصلوات، وحاول تعويد أبنائك ذلك بتشجيعهم عليها.
- ترك التسكع في الأسواق ومراكز التسوق الكبيرة: فهناك من يقضي الكثير من وقته- وقد يكون يوميا- يتسكع في المولات، يطلق نظره إلى النساء، ويحضر الأفلام في السينما في ليالي رمضان المباركة، أو يجلس على المقاهي بدلًا من الذهاب إلى صلاة القيام أو صلة الأرحام.
- محاربة الإسراف في الطعام والشراب في رمضان.
- هجر السباب والشتائم: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد، أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم” (البخاري ومسلم).
- مقاومة الكسل في رمضان: فهو ليس شهر النوم والكسل وقضاء الأوقات على الفراش دون إنجاز.
تعلم سنن وآداب الصيام
ويمكن للمسلم الاستعداد لشهر رمضان المبارك، من خلال تعلم سنن وآداب الصيام قبل قدوم الشهر، وأهمها:
- السحور: والمقصود به تناول الطعام والشراب في آخر الليل بنية الصوم، فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “تسحروا فإن في السحور بركة” (النسائي وأحمد).
- ويتحقق السحور بشربة ماء، فعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “السَّحورُ أُكْلةُ بَرَكةٍ، فلا تَدَعوه، ولو أنْ يَجرَعَ أَحَدُكم جُرْعةً من ماءٍ؛ فإنَّ اللهَ وملائكتَه يُصلُّونَ على المُتَسَحِّرينَ” (أحمد والطبراني).
- وفي حديث رواه الشيخان عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت- رضي الله عنه- قال: تسحرنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم قام إلى الصلاة قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية.
- تعجيل الفطر: يُستحب للصائم أن يُعجل بالفطر قبل أن يصلي المغرب، فعن سهل بن سعد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر” (البخاري).
- الفطر على رطبات أو تمرات أو شربة ماء: روى أبو داود عن أنس بن مالك قال: “كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات فإن لم تكن حسا حسوات من ماء”. وهذا من كمال شفقته على أمته ونصحهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به.
- الدعاء عند الفطر وأثناء الصيام: فعن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم ودعوة المظلوم ودعوة المسافر” (صحيح الجامع)، وعن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: “ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله” (صحيح أبي داود).
شهر شعبان دورة تأهيلية لرمضان
ومن يريد الاستعداد لشهر رمضان الكريم، يجب أن يدرك أولا شعبان الذي يعد شهر التدريب والتأهيل التربوي والرباني؛ فلا بد من أن يقبل عليه المسلم ليكون مؤهلًا للطاعة في رمضان، فيقرأ في شعبان كل ما يخص شهر رمضان ووسائل اغتنامه.
وعلى المسلم أن يجهِّز في شعبان برنامجه في رمضان ويجدول مهامه الخيرية، فيجعل من شعبان دورة تأهيلية لرمضان، ويحرص فيها على الإكثار من قراءة القرآن والصوم وسائر العبادات، حتى لا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرّن على الصيام واعتاده.
ويمكن تهيئة العزيمة بالعزم على:
- فتح صفحة جديدة مع الله.
- جعل أيام رمضان غير أيامنا العادية.
- عمارة بيوت الله وشهود الصلوات كلها في جماعة، وإحياء ما مات من سنن العبادات، مثل: المكث في المسجد بعد الفجر حتى شروق الشمس، المبادرة إلى الصفوف الأولى وقبل الأذان بنية الاعتكاف.. إلخ.
- نظافة الصوم مما يمكن أن يلحق به من اللغو.
- سلامة الصدر.
- العمل الصالح في رمضان، واستحضار أكثر من نية من الآن.
أخيرًا
فإن الاستعداد لشهر رمضان المبارك يتطلب من المسلم الاهتمام بهذه النفحة الربانية وإدراك أهميتها أولا، فهو شهر ليس كباقي الشهور، وقد أخطأ من لا يفرق بين رمضان وغيره، ومن يجعل يوم صومه كيوم فطره، فهناك مَن يعرف للشهر فضله ومكانته، لكنه لا يستقبله بتوبة نصوح، وعزم أكيد على الاستقامة في أيامه ولياليه، بل يستقبله بفتور وعدم جدية وقلة نشاط.
وإن مما يجب على العبد المسلم أن يبحث عن الزاد الذي يقرّبه إلى الله تعالى؛ فالطريق موحش وطويل، ولا بُد فيه من زاد، وقد جعل الله تعالى شهر رمضان لتطهير القلوب من الخطايا والعيوب وغفران الذنوب، فعلينا جميعًا استقبال هذا الشهر الكريم بتوبة تغسل عنا الذنوب، ومن ثم يُزال الران من القلوب فنحسن اغتنام أيامه، لنخرج منه بلا ذنوب.