لم أستطع أن أتمالك أعصابي حين أتت ابنتي الصغيرة لتُريَني رسمتها وهي سعيدة، وعندما رأيت ما رسمت لم أستطع تمالك أعصابي، وسألتها وأنا غاضبة، هل رسمت خنزيرًا؟! وكيف عرفتِ شكله بكل هذه التفاصيل الدقيقة؟! فهذا الحيوان ليس موجودًا بأي من تفاصيله تلك في ثقافتنا أو أحاديثنا أو الألعاب التي نشتريها لكم، وليس- أيضًا- في الكتب التي نشتريها لكم باختيار دقيق؟! مِن أين إذن قد أتيت بكل تلك التفاصيل عنه؟!
بدت ابنتي خائفة ولم تجبني، تدخّل أخوها الذي يكبرها وقال لى إنها تعرفه من الكرتون، وقال ابني البالغ السّابعة من عمره إنّ الخنزير في الكرتون ليس قذرًا ولا نجسًا بل شخصية حيوانية جميلة وحكيمة، أبنائي لم يصدقوا ما نقوله وصدقوا الكرتون وقلبه الحقائق! لكن لنكن واقعيين.. هل أخطأ صانع الكارتون حقًّا أم نحن المخطئون؟ هل كان متطفلا ففرض نفسه علينا وعلى أولادنا أم نحن من جلبناه؟ وإذا كانت تلك صناعة يقدمها لأولادنا فأين صناعتنا؟ وبصرف النظر سواء كان قاصدًا الإفساد أم لا، ما الذي ألجأنا إليه لنرمي له فلذات أكبادنا يُشكل عقولهم ونفسياتهم ويُحدد لهم فى اللاوعي ماذا يُحبون وماذا يتقبلون مهما كان شاذًّا أو مرفوضًا فطريًّا؟!
الإجابة:
نعلم أنّ الغيرة على الأبناء والحرص على دينهم والخوف على عقيدتهم من الأمور التي تسبب لنا جميعًا قلقًا نحن الآباء، لكن هذا الخوف لا يتناسب معه الغضب والانفعال، لأنّ هذا مع الأسف ما قد يسبب خسارة الأبناء الحقيقية، إذا خسروا الرحمة والود في معاملة أول وأقرب مَن يعلمهم أمور دينهم. قد تؤدي طريقتنا الخاطئة معهم إلى تمسكهم بالخطأ، لا قناعة به، وإنما مخالفة للأسلوب المنفر المتبع في تنبيههم له.
أولًا: يجب أن نتعلم كيف نستوعب أخطاء أبنائنا وكيف نوجههم، حين تأتي إليك الابنة العزيزة مسرورة برسم قامت به، يجب أولًا مجاراتها ومشاركتها الفرحة وعدم مقاطعتها، ثم بعد ذلك توجيهها برفق، لا يجب أن تواجه فرحتها بالغضب، يجب أن يتّسم المربي بالحلم والصبر، والأناة والرّوية قبل إبداء أي رد فعل.
ثانيًا: يجب أن تكون ردود فعل المربّين مناسبة للموقف، بحيث نبتعد تمام البعد عن المبالغة، لأنّ القاعدة التي ننطلق منها- التي بسببها ننكر بشدة أخطاء أبنائنا- ليست هي ذات القاعدة التي ينطلق منها أبناؤنا قبل التصرف، ومن ثمّ لن يتمكنوا من فَهم سر انفعالنا، بل سيعتقدون أننا مبالغون، مما قد يدفعهم إلى رفض ما نقول مع اتساع الفجوة بين منطلقاتنا ومنطلقاتهم حينها.
أود التنويه أن الابنة الغالية لم تقم بأكل لحم الخنزير! بل رسمته، وهو خَلق من مخلوقات الله وصنعه، ويبدو أنها رسمته تأثرًا بمشاهدته كشخصية كرتونية، وليس لتكون أكثر تآلفًا معه بعد ذلك حتى تستطيع أكله لاحقًا!
المحرم يا أختي الفاضلة ليس رسم الخنزير بل أكله، لذا يجب أن تتسائلي عن السبب وراء انفعالك حتى تفهمي الموقف بشكل أفضل، وأنا لا أفضّل النظر في هذا الموضوع على أنه مؤامرة، فوجود الخنزير بقوة في ثقافة صانعي أفلام الكرتون عكسته أفلامهم، وليس شرطًا أن يكون أبناؤنا مستهدفون لتقبل أكله، المؤامرة بالتأكيد لها أبعاد أخرى لكن ليس في هذه الجزئية.
أبناؤنا يتعرضون في أفلام الكرتون لكثير من أنواع الحيوانات، وكثير منها لا نأكله ليس فقط لأسباب شرعية بل كذلك الأمر تحكمه عادات، ولا نرى نتيجة مشاهدة الأطفال لكرتون عن الكلاب مثلًا أنّ هذا يشجع الابن على أكل لحومها، المقصد أنه لا علاقة بين الأمرين، إلا إذا كان ما تشاهده الابنة له علاقة مباشرة بأكل لحم الخنزير، حينها وَجَب التنويه بأقل الكلمات أننا كمسلمين لا نأكل لحم الخنزير، أمّا أن يتوقف الأمر على مُجرد رسمه فالتجاهل هنا أفضل من صرف نظر الابنة لأمر لم يكن واردًا في الذهن، وقد تؤدي طريقة التنبيه- أيضًا- إلى عدم استقباله بالرفض المطلوب.
ليتنا نتعلم من أسلوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين جاءه مَن يستأذنه في الزنا، وبالرغم من كون الزنا كبيرة من الكبائر، فهذا لم يكن داعيًا لأن ينفعل عليه رسول الله أو يغضب، حتى لو من باب الغيرة على حُرمات الله، ومعهود عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه لم يغضب لنفسه قط، إلا أن تُنتهك حرمة من حرمات الله، بل حاوره بهدوء بعدما أنصت إليه للنهاية.
كذلك حين أتاه عتبة بن ربيعة قاصدًا إثناء رسول الله عن دعوته ومساومًا إياه عليها بالمال والجاه، بالرغم من أن كلامه لا يقبله عاقل، أنصت له رسول الله حتى فرغ، ثم سأله بأدب جم مستخدمًا كنيته- وهي الأقرب للقلب: (أفرغت يا أبا الوليد؟) ثم بدأ في الرّد عليه، ولعل حسن إنصات النبي له كان سببًا في حسن إنصاته للنبي بعدها، وهكذا حسن إنصاتنا لأبنائنا سيكون سببًا لحسن إنصاتهم لنا بعدها ومن ثم ضمان وصول رسالتنا ومقصودنا وحسن استقبالهما بأكمل وجه.
السؤال المطروح الآن، هل سَبَق وبيّنتِ أو قدمتِ توضيحًا بخصوص الخنزير وموقف الإسلام منه للابنة أم أنك غضبتِ عليها قبل أن تُعلّميها؟ وإذا كنا صدمنا برسمها إياه فما الداعي لتركها تشاهده ابتداءً؟! وإن كان هذا الموضوع من الأمور التي لم ترد لأذهاننا مسبقًا فعلينا أن نحفظ القاعدة الذهبية التي تقول: (إن الأخطاء فرص للتعلم)، وحدوث موقف كهذا هو فرصة للبيان والتوضيح.
لكن من جهة أخرى، هل تدس أفلام الرسوم المتحركة السم في العسل أحيانًا؟ الإجابة بلا شك: نعم! هل بعض القائمين عليها لهم أهداف وأجندة خاصة؟ نعم، كذلك، ولا خلاف أننا نفتقد البديل الجذاب الذي يعبر عن ديننا وهويتنا وثقافتنا وينافس ما يقدم لأطفالنا من ثقافات مغايرة.
وهنا يأتي دور التقنين والاختيار والمراقبة، والمناقشة والاستيعاب، تقنين عدد ساعات التعرض لمثل هذه الأفلام الكرتونية يوميًّا، واختيار الأنفع من بينها، والاجتهاد في البحث عن البدائل الجذابة وقد بدأت جهود في هذا الجانب بالظهور وإن لم تكن بالقدر الكافي، ومراقبة ما يجري عرضه ممّا تم اختياره، ومشاركة الأبناء المشاهدة أحيانًا حتى نستطيع الحكم بشكل جيد على المحتوى المُقدّم، ثم مناقشة أي أفكار قد تلتبس أو تخالف ما نُؤمن ونعتقد به، على أن تجرى هذه المناقشة بالهدوء والاستيعاب الكافي والإنصات وبيان الرأي المخالف بأقل الكلمات الممكنة بعيدًا عن إلقاء المحاضرات.