لدي طفلان صغيران، أحدهما في السابعة والآخر في الخامسة، ونحن مهاجرون إلى بلد أجنبي غير مسلم من أجل العمل؛ المشكلة أننا غير مندمجين بشكل جيد مع المجتمع الجديد بسبب اختلاف اللغة واختلاف الثقافة، ويعزز إحساس الغربة لدينا عدم وجود أصدقاء من نفس جنسيتنا قريبين لنا في السكن، إذ أن الأصدقاء يقطنون في أماكن بعيدة تحتاج إلى سفر بعيد.
القضية أن الطفلين يحتاجان إلى أنواع من اللعب كثيرة ومتنوعة بشكل يفوق طاقتي كأم، ورغم أنني أقرأ لهم وألعب معهم، إلا أنهم يشعرون بالملل لوجود وقت فراغ كبير، إذ لا أستطيع أن أشغل أكثر من ساعتين من وقتهم، ويجدون أنفسهم مضطرين إلى مشاهدة التليفزيون أو الإنترنت على الجهاز اللوحيّ (التابلت) وأيضًا يشعرون بالملل، ولا أدري ماذا عليّ فعله كي يستثمرون وقتهم على الوجه الأمثل؟!
في السنوات الأخيرة تحرك الكثير من بلدانهم الأم بسبب ظروف الثورات، فأصبحت الغربة حال أكثر الناس، طبيعة البشر يبحثون عن العيش في مجموعات تشبههم، فإما هذه المجموعات متواجدة أو نسعى لإيجادها، لكن الانعزال وعدم الاندماج أمر لا يطيقه صاحب الفطرة السليمة.
يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: 13)، فمن الخطأ أن نغلق الباب علينا ونخشى التآلف والتعارف.
جارك الذي على غير ديانتكم، وزملاء أبنائك في المدرسة وأهليهم، كلهم لديهم نفس الحاجة للتعارف والتآلف، وكلكم يضع الحواجز والمخاوف!
الوقت كفيل لإثبات حاجتكم إلى ترك المخاوف من الاندماج، ومعه تجدين الحيل والأفكار لتيسير التعارف وبناء علاقات جديدة، خذي وقتك في التأقلم أولًا مع ظروف الانتقال الجديدة، واستوعبي آلامك ومشاعرك وتفهميها واسمحي لنفسك بالتعبير عنها مع زوجك والمقربين، حتى تستطيعين تفهم مشاعر أبنائك والتعامل معها ومساعدتهم في الاندماج لاحقًا.
يحكي المغتربون عن أول سنة في تجربة الغربة، كم تكون مؤلمة، فإذا ما مرت على خير فاعلمي أن القادم أفضل إن شاء الله.
التدرج هو سنة كونية، ولا يتصور أن ينتقل أحد من مكان إلى آخر حتى وإن كان الانتقال للأفضل من غير أن تتأثر النفوس وتتقلب الأحوال، فإدراكنا سنة التدرج يجعلنا لا نستعجل الاندماج، سيأتي على أفضل صوره مع التزام الصبر على وضعكم الجديد وتفهمه.
من الطبيعي ألا نعول عليكِ كأم في ملء فراغ أبنائك طول الوقت، فأنت بحاجة إلى وقت لمهامك المنزلية، ووقت لنفسك، ووقت لأبنائك، ووقت لزوجك، فبدلًا من أن تنشئة الأبناء على الاعتماد عليك في كل أمورهم، يمكن تدريبهم على الاعتماد على أنفسهم وحثهم على التواصل مع أصدقائهم القدامى وتشجعيهم على التعرف وإنشاء علاقات جديدة>
يشاع في البلاد الأجنبية احترام الطفل وكثرة الأنشطة الموجهة له، فأغلب الأحياء مصممة على وجود المدرسة بالقرب من المنزل، كما يوجد في كل حي أندية وممرات لركوب الدراجات وغيرها من الأنشطة المختلفة، فابحثي عن الإمكانات المختلفة في البيئة المحيطة وتشجعي وشجعي أبناءك على الاستفادة من تلك الفرص، التي ربما لا يوجد مثلها في بلدهم الأم.
من الأخطاء التي تعطل الاندماج في المجتمعات الأجنبية، سماع خبرات الآخرين السلبية، وتوقع تكرار نفس التجارب مع الجميع، المعرفة قطعًا مفيدة وتختصر علينا الوقوع في أخطاء الآخرين، لكن في نفس الوقت لا تجعلنا نتقوقع ونحجم عن التعامل.
القاعدة الأولى في الاندماج (تعلم اللغة)، يقولون من تعلم لغة قوم أمن مكرهم، فكل من تأخر في قرار اللغة أضر بأبنائه، وكل من تعلمَ كَسَرَ حواجز نفسية وزمنية، أخذ غيره أضعاف الوقت لاجتياز مثلها.
حينما يبدأ الإنسان في تعلم لغة أو مهارة جديدة، يكتشف جميل صنع الخالق في صناعة العقل ومدى قدرته على الاستيعاب، ويدرك أن ما تخيله في السابق أمرًا معجزًا عسيرًا، يراه في الواقع أمرًا ليس بتلك الصعوبة.
انتشرت في الآونة الأخيرة بفضل الله أنشطة الجاليات العربية في معظم البلاد الأجنبية، فإما تجدين مجتمعًا تنضمون إليه، وإما يجعلك الله سببًا في التيسير على غيرك بإنشاء هذا المجتمع، فقط أخلصوا النوايا ترشدوا الحيل؛ فكل جالية عربية أنشأت مسجدًا أو جمعية أو مدرسة تضم أصحاب نفس الهموم والرؤى والأفكار، بدأت بشخص أو مجموعة صغيرة، ثم كبرت بتوفيق الله وتضافر الجهود، فلا تألي جهدًا أن تكوني مبادرة، يقولون: الحاجة أم الاختراع، والحاجة للاندماج تجعلك تفكرين في إنشاء مكان تجمعي فيه المغتربات مثلك، وتكونون عونًا لبعضكم البعض على تنشئة الأبناء، وملء أوقات فراغهم بالمفيد، وستجدين من الأمهات أصحاب خبرات مختلفة إذا ما تضافرت الجهود، تجدون نتيجة مذهلة.
إذًا:
- اعترافنا كأهل بحاجتنا لبعض الوقت في أول تجربة الغربة لهضم فكرة مفارقة الأهل والبلد، يجعلنا نقدر نفسية الأبناء ومن ثم نسمح لأنفسنا ولهم بالتعبير عن الألم، لا دفنه وتجاوزه، ونتأكد أن هذه المشاعر مسألة وقت وستمر بإذن الله.
- الاندماج ضرورة وقرار، وأول خطواته تعلم اللغة:
- البحث عن مجتمع شبيه ضرورة لا رفاهية، ، فهو إما موجود أو نشارك في إنشائه، يعينك الله ويجزيك خيرًا.
- الاستفادة من الفرص المتاحة للاندماج بإدخال الأبناء مدرسة الحي، والاشتراك في الأندية الرياضية المجاورة.
- الحفاظ على صداقتهم القديمة من خلال التواصل عبر الإنترنت وتشجيعهم على فتح مسارات تعارف جديدة مع الصحبة الصالحة.
- استثمار وقت الأطفال في القراءة والأنشطة الهادفة، فأكثر الدول الأجنبية تعلي من قيمة القراءة، فمشهد حمل الكتب، مشهد متكرر في المحافل والطرقات، فحسن بنا أن نغرس ذلك في عقول أبنائنا وندربهم عليه بدلًا من تضييع أوقاتهم على الألعاب الإلكترونية، فتكوين عادة جديدة في وسط مجتمع يمارس هذه العادة ملء السمع والبصر أسهل من تكوينها في مجتمع قلما وجدنا فيه مشهد القارئ المتنقل.
- من المهم المحافظة على جلسة العائلة الأسبوعية التي نوصي بها دائما، ونوصي بها المغتربين أكثر وأكثر، فطبيعة الحياة أصبحت سريعة، وربما تطرأ مشكلات لا يجد الأطفال وقتًا للتعبير عنها وسط الأسبوع، فهذه الجلسة ترمم كل نقص حدث أثناء الأسبوع، فأعدي لها بشكل يجعلها وقتًا محببًا ينتظره الأبناء. نوِّعي في تلك الجلسة بين فقرات عن أخبار الأسبوع، ولعب لعبة جماعية، واطلبي منهم ما يحبون عمله من فقرات للأسبوع القادم.
- من المفيد متابعة أصحاب تجارب سابقة جيدة في الاندماج، وما أكثر تواجدهم على صفحات التواصل الاجتماعي، تقول إحداهن وهي تعيش في حي فيه أقلية مسلمة، أنها أرسلت إلى مدرسة ابنتها قبل رمضان كتيب تعريفي بالشهر الفضيل وطلبت من المدرسة أن يشاركوا ابنتها الاحتفال بالشهر الكريم كما يشاهد أطفال المسلمين احتفالات أصحاب الثقافات المختلفة، فاستجابت مدرسة ابنتها لهذا الطلب وكان له بالغ الأثر على ابنتها. الشاهد من تلك الحكاية، أن المسلم لديه رزق في التآلف فطبيعة تعاليم الإسلام، من أول تحية الإسلام، حتى طقوس ومظاهر ديننا المبهجة تساعد على التآلف والتعارف، فالمسلمون لهم سطوة وتمكين بما يتميز به الإسلام من شعائر أخاذة. الأذان وصلاة الجماعة والحجاب وقراءة القرآن، كلها مفردات عباداتنا المتميزة الواضحة، تدعو من يشاهدها للفضول لمعرفة ما وراءها.
فإذا ما شاهد أبناؤنا لتلك المواقف (الانبهار بشعائرنا) يقل حينها الشعور بالاغتراب، فيجد أبناؤنا أن غير المسلمين يودون التعرف على شعائر ديننا، وكم أنتج مؤثرون فيديوهات لتأثر الأجانب لسماع الآذان، وتجربة بعض الفتيات للحجاب، وغيرها من محاولات التعارف والتقارب.
الغربة لا شك مؤلمة، لكن الاغتراب أشد ألمًا، فإذا قدرت علينا الغربة، فبمقدورنا أن نقلل مشاعر الاغتراب هذه بأن نعين أبناءنا على الاندماج ونيسر لهم أدواته، حتى وإن سافرتم كل فترة إلى تلك الأماكن البعيدة عنكم والتي يتركز فيها الجاليات المسلمة، فمشهد اجتماع المسلمين، وشعور الأطفال بالأكثرية، مشهد يستحق أن نبذل من أجله ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.
أعانكم الله على تهيئة مناخ بديل، يجد الأطفال فيه العوض عن غياب الأهل وغربة البلد، وتذكروا: “أخلصوا النوايا ترشدوا الحيل”، وما أكثرها وذلك لا يكون إلا بعون الله وتوفيقه.