الاستشارة
لدي مشكلة مع نفسي في انفعالاتي وقت الغضب، وللأسف انتقلت لأبنائي.
أُستثار من الفوضى وأنزعج بشدة فأبدأ بالصراخ في وجه الأبناء، وانتبهت أنهم يتصرفون مع إخوتهم بنفس الطريقة، وأخشى أن تتطور انفعالاتهم للضرب والتكسير، فكيف أتعامل مع غضب الأبناء، وأوجههم بشكل إيجابي؟
الرد
يحضرنا قول الله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلۡغَضَبُ أَخَذَ ٱلأَلوَاحَ وَفِی نُسۡخَتِهَا هُدى وَرَحۡمَة لِّلَّذِینَ هُمۡ لِرَبِّهِمۡ یَرۡهَبُونَ} (الأعراف:154).
نسترشد بالآية أن الغضب شعور فطري إنساني، لا يجب أن ننكره على أنفسنا أو على غيرنا، فقد غضب نبي الله موسى- نعم لم يغضب لنفسه- بل غضب لله، ولكن رأينا غضبا جعله يلقي بالألواح، وهو ما يقودنا إلى تعريف الغضب، فهو جماع كل شر، وتركه جماع كل خير.
كما نفهم أن وقت الغضب الهيمنة تكون على العضلات، ولا سلطان للعقل حينها، لأن الدم يذهب من الدماغ إلى العضلات يستنفرها لعمل رد فعل غاضب، لذا لا تكون التصرفات وقت الغضب تصرفات محمودة أو محسوبة.
نعرف أن سيدنا آدم عليه السلام خلق من قبضة من الطين شملت جميع أصناف البشر، فكانت وصايا الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- تختلف باختلاف حاجة الشخص الذي أمامه، فلما سأله أحد صحابته رضوان الله عليهم وقال: أوصني، وقد رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قوة في بدنه، فقال صلى الله عليه وسلم: “لا تغضب”، فقد رأى منه وفرة في قوة جسده، فكان بحاجة إلى مثل هذه الوصية، فلنا أن نتخيل شخصًا موفور العضلات قوي البنيان في حال غضبه إذا لم يستمع لوصايا الحبيب، ماذا يترتب على غضبه؟!
الأمر الآخر في قصة موسى- عليه السلام- في قول الله جل وعلا :”ولما سكت عن موسى الغضب”، وكأن الغضب يتكلم ثم سكت، نعم الغضب يحدث جلبة وأصداء غير محببة، لذا علينا أن نتعلم كيف نديره.
ملمح آخر في قصة موسى عليه السلام نتعلم منه التصرف الرشيد من أخيه هارون، وهو ما ينبهنا إلى كيفية توجيه أبنائنا حال غضبهم بعضهم على بعض، قال سيدنا هارون لأخيه موسى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلَا بِرَأْسِىٓ إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} (طه: 94).
ناداه برابطة الأخوة حتى يجعله يلين ويخف غضبه، كما أتبع نداءه بالسبب والتوضيح، فالتوضيح يخفف من وطأة الغضب، والنداء بأحب الأسماء يهديء من الروع، فاحرصي على أن يكون تدخلك بين الإخوة تدخلًا يقوي الروابط ولا يفككها، كرري على مسامعهم كلمة (إني أنا أخوك فلا تبتأس) أخوك لم يقصد إهانتك، أخوك حريص عليك حرصه على نفسه، فحتى وإن نزغ الشيطان بينهما، لم يجد سبيلًا سهلًا للتمادي في الغي.
إذًا، الإقرار بحقنا وحق أبنائنا في مشاعر الغضب، هو الطريق لتعلم كيفية إدارة الغضب، وإلا كيف ننكر وجوده أو حصوله، ونتعلم كيفية إدارته؟
<<<هناك ثلاث مرجعيات في تعلم إدارة الغضب>>> على رأسها المرجعية الإسلامية، التي بلا شك اتباعها فيه الخير كله، كما أن هناك مرجعية علم النفس، وهناك المرجعية التربوية الحديثة.
أولًا: المرجعية الإسلامية:
1- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: لقول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (فصلت: 36). فلندرب أنفسنا وليسمع أبناؤنا الاستعاذة منا حينما تبدأ مقدمات الغضب،
2- تغيير الهيئة: لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع) رواه أبو داود. وهو ما أقره العلم بأهمية التحرك من مكانك وقت الغضب، حيث يكثر الأكسجين المندفع للعضلات، فالحركة وتغيير الوضع يبدد طاقة الغضب المخزونة في العضلات.
3- تذكر الأجر لقول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، وهو أمر يتم التدريب عليه في المواقف البسيطة حتى يتحول لمنهج حياة، ولا ننصح في ثورة الغضب الجامحة أن نطلب من الطفل كظم الغيظ، وهو لم يتعود عليه في المواقف الأقل حدة وشدة، فهي مرحلة من الترقي متبوعة بالعفو والإحسان لمن ظلمنا، فمن الظلم أن نطالب الصغار بذلك دون تعريفهم الثواب مسبقا من خلال الحوار والحكايات.
4- نعلم أبناءنا أن يلتمسوا العذر، فالتماس العذر يطفئ جمرة الغضب، ويهدئ من الروع، وينفي عن المخطيء فكرة الإغاظة لأجل إثارة حفيظة الآخر، كما في المثل السائر: التمس لأخيك المسلم سبعين عذرا”، وفي الحديث أن رجلًا جاء إلى النبيِّ- صلى الله عليه وسلم،- فقال: يا رسولَ اللهِ، كم نعفو عن الخادمِ؟ فصمَتَ، ثم أعادَ عليه الكلامَ، فصَمَتَ، فلما كان في الثالثةِ قال: اعفُوا عنه في كل يومٍ سبعين مرةً.
5- التريث مع من نحب، فيجب أن نفرق في ردود الأفعال الغاضبة بين ذي رحم وبين شخص عابر، فالشخص العابر قد لا تراه مرة ثانية فإن امتطيت سلم الغضب لآخره وأتيت بما لا تحمد عقباه سيمر الموقف بالتوبة والإنابة، أما إذا لم تمسك جماح غضبك مع أهلك، فستقع في مهالك وربما قطع الأرحام، فالتريث التريث مع من نحب والتزام الصمت معهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا غَضِبَ أحدُكم فلْيسكتْ).
6- الوضوء والصلاة والدعاء: فالماء يطفئ الغضب وله سبب علمي نوضحه في جزئية العلاج النفسي، كما أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، لا نعني هنا بالصلاة الهروب من الموقف، بل هي وسيلة لحصول السكينة، يستتبعها لجم جماح الغضب خصوصا إذا سبقها تجديد للوضوء، وضمنها دعاء بين يدي الخالق في السجود بالصبر على ما لم نحط به خبرًا ولا يمكننا تغييره.
ثانيًا: مرجعية علم النفس:
يصنف العلماء الغضب من حيث الحدة والشدة إلى مستويين:
- غضب نعطيه درجة أقل من 8/10.
- وغضب شديد 8/10 فأكثر.
في حالة الغضب غير الشديد، نتبع استراتيجية التشتيت، وهي شغل العقل بموضوع آخر، كما تنفع استراتيجية البحث عن أسباب الغضب، وفيها إعمال للعقل- الذي سبق وأن وضحنا توقفه بالكامل وقت الغضب- فحينما نطرح على الطفل أسئلة وقت الغضب، تساعده على الرجوع لحالة الهدوء، مثل:
- ماذا تحتاج كي تهدأ؟
- فكر في أسباب غضبك؟
- ما نوع المساعدة التي تريدها الآن؟
- ماذا في أيدينا يمكن تغييره ليتحسن الموقف؟
أما في حالة الغضب الشديد، فهناك أربع وسائل للتعامل:
1- تقليل درجة حرارة الجسم:
بأخذ دش لمدة ثلث ساعة، أو عمل كمادات، أو الإمساك بثلج، هذه الوسيلة تساعد في إعادة ضبط كيميا المخ وبالتالي ضبط المشاعر فالمشاعر أيضًا كيميا، فإذا ما عدلنا درجة حرارة الجسم، هدأت الانفعالات، فعوِّدي طفلكِ على هذا الحل الفعال، كما أنه ينطوي أيضًا على التفكير في المشكلة ولكن بشكل أهدأ، يبدأ معها برؤية زوايا جديدة للموقف، توضحه وتهونه، المهم أن يتعلم ألا يترك نفسه لكيد الشيطان.
2- الرياضة المتصلة:
من 30- 40 دقيقة كالمشي أول 5 دقائق يظل المخ يفكر في المشكلة ثم يبدأ في الهدوء، فإذا ما تعود الطفل على رؤية الكبار يتصرفون بهذه الطريقة تنتقل إليهم الوسيلة تلقائيًا، فإذا ما تعرضت لموقف غاضب اتركيهم قائلة: سأتمشى كي أهدأ.
3- تمارين النفس الواعي: يفضل أن نعتاد عليها كبارًا وصغارًا وتكون جزءًا من الروتين اليومي بعيدًا عن وقت الغضب، وصورته:- شهيق ونعد ثلاث عدات مثلًا، نمسك النفس لوقت ثابت ثلاث عدات، ثم زفير لوقت أطول من وقت الشهيق. يساعد يعد هذا التمرين في التقليل من الضغوط التي تسببها الأحداث من حولنا فبالتالي لا نكون مستثارين أغلب الوقت.
4- تمارين العضلات المزدوجة في الانقباض والانبساط: عن طريق قبض وبسط عضلات الكتف، اليدين، الكفوف، الرجلين، القدمين بالتدريج حتى نستشعر وكأن الدم يمر في العضو المنقبض بعد انبساطه. أيضًا التدريب على هذا التمرين في الأوقات العادية يحسن من المزاج العام كما يستخدم كأحد الاستراتيجيات التي ندرب عليها الأبناء لتقليل الضغط الواقع عليهم في المواقف المختلفة.
وأخيرًا: رؤية التربية الحديثة:
تختصر في تقبل مشاعرنا، وتوفير أدوات في حجرة الطفل للتنفيس عن الغضب، أو عمل ركن بالمنزل يتعلم فيه الطفل استجماع النفس بالتعبير بالرسم أو الكتابة أو التلوين، كما يساعد احتضان الطفل في تهدئته إذا أراد ذلك.
ونوصي بما يعرف بأجندة النِّعم، نكتب فيها بشكل يومي الأشياء الإيجابية التي حدثت في يومنا فالتفكير الإيجابي يدفع بالأفكار السلبية بعيدًا.
ولا يخفى علينا بأن نيتنا لتعلم شيء تفتح لنا أبواب خير كثيرة، فحينما نخلص النوايا نرشد الحيل، ولا نألوا جهدًا في الدعاء لأبنائنا، بأن تكون غضبتهم لله، وقوتهم في رد الحقوق لأصحابها، وأن يتعلموا العفو بعد أن يتعلموا المقدرة على أخذ الحق، حتى يكونوا من الأشداء الذين يملكون أنفسهم عند الغضب.