السؤال
التقينا في إجازة الصيف بأقارب لنا وسافرنا معهم، وبالمعايشة لاحظت أن أبناء أقاربنا- بارك الله لهم فيهم- متعاونون ويعرفون معنى العمل الجماعي، وأن الأم لا تقوم بالمهام وحدها مثلي، حاولت أن أراقب إدارة الأم لأبنائها حتى أتعلم كيف ربتهم على التعاون والعمل الجماعي ولكن يبدو أن الأوان قد فات، شعرت باليأس في إصلاح ما قصرت فيه مع أبنائي، فهل ما زالت لدي فرصة لغرس قيم التعاون والعمل الجماعي لديهم، من أين أبدأ وكيف؟!
الرد
الحمد لله أنكِ تتسابقين في الخير، والحمد له أن هداكِ وأرشدكِ إلى ذلك: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الٌمَتَنافِسُونَ}، والحمد لله على أن محراب التنافس في إحسانك لتربية الأبناء، وليس في الاهتمام بكل ما له علاقة بالمظهر على حساب الجوهر.
نقول في التربية: “ما لا يدرك كله لا يترك كله”، لمهم ونحن نعوض ما فاتنا ألا نحمل أبنائنا عاقبة عدم توجيهنا إياهم مرتين، مرة بالتراخي في السابق، ومرة أخرى بضغطهم في اللاحق حتى يكونوا على خطى أبناء أقاربكم، ففي النهاية كل له اجتهاده وظروفه، فلا نحمل الأبناء نتيجة اختياراتنا السابقة.
يحتاج الأبناء للشعور عمليا بقيمة التعاون والعمل الجماعي ويمارسون ذلك في جو من البهجة تحببهم في العمل وتحثهم عليه، يقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، كرري تلك الآية على مسامعهم وأنت تطلبين منهم رفع المائدة على سبيل المثال، أخبريهم بقول الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- كما جاء في حديث ابن عباس: (يد الله مع الجماعة)،
وكان من نهج الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- كما جاء في حديث أبي هريرة: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)، وهذا غالبا ما رصدتيه في صحبتكم لأقاربكم في السفر.
مع الأسف تستسهل كثير من الأمهات القيام بالمهام بمفردها، حتى تضمن جودة العمل من ناحية، وحتى لا تتعب نفسها في إقناع الأبناء بضرورة ترك الملهيات والتعاون في قضاء المهام المختلفة، نذكر أمهاتنا هؤلاء بالحكمة القائلة: [المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه].
فالغرس يبدأ من البيت، وتمتد ثمرته للمجتمع، فإن ضحت الأم براحتها ظانة أن في اختيارها هذا سعادة للأبناء، فهي لا تدرك باختيارها هذا أنها تخرج للمجتمع أشخاصًا أنانيين اعتماديين، فيتعدى الضرر إلى حيث لا تدرك الأم.
تمتلئ الحياة اليومية بتفاصيل لا تتم إلا بالمشاركة، فمفهوم الأسرة هو مفهوم مبني على العمل الجماعي بالأساس، ففي صورته التقليدية، الأب يذهب إلى العمل، يأتي بالمال، والأم تصنع الطعام، والأبناء حسب سنهم يساهمون في نظافة المنزل وترتيبه وشراء الطلبات؛ فمن غير المنطقي أن نساهم في خلق أطفال اعتماديين ثم نشكو عدم جودة تواصلهم في المدرسة، أو عدم اندماجهم في التدريبات الرياضية؛ التي تعتمد بالأساس على مفهوم عمل الفريق والتعاون والانسجام بين أفراده، إذاً دور الأسرة يتعدى جدران المنزل، وذلك بـ:
- تشجيع أبنائنا على الاندماج في الألعاب الجماعية.
- تعلم احترام قوانين المؤسسة، وحسن الاستماع لتعليمات القائد.
- إدراك أن حب الظهور أو التفرد والأنانية لا يصب في مصلحة الفريق أبدًا، فكم رأينا لاعبًا يتفرد بالكرة لإظهار مهاراته الفردية حتى يضيع على الفريق الهدف، متناسيًا أنه حلقة في سلسلة لن يكون ولن ينجح إلا بحسن التواصل مع من قبله ومن بعده.
فمن مميزات العمل الجماعي ما يلي:-
- توظف من خلاله طاقات الفرد، ويشعر كل فرد بقيمته ودوره ويؤدي كل واحد أفضل ما لديه وذلك من باب التسابق النافع، أما في العمل الفردي فقد يتراخى الفرد في أداء ما عليه، ولا يجد الدافع لبذل أفضل ما لديه.
- اختيار كل فرد في الفريق يكون بعناية مما يؤسس لعمل ناجح بالمقارنة إذا كانت جهود هؤلاء الأفراد مبعثرة، الاستثناء أن يكون هناك فرد بأمة، وما يصلحه هو العمل الفردي، هناك أشخاص كانوا بالفعل كذلك، لكن في النهاية يعدون على أصابع اليد الواحدة.
- في الفريق تولد أفكار ما كانت تأتي وكل واحد يفكر لوحده، خصوصًا عند وضع الخطط والأهداف والإستراتيجيات، أصبح القادة يعتمدون على العصف الذهني، فكلما طرح أحدهم فكرة، أثار وهجا من الأفكار لدى الآخر.
- نظرًا لاختلاف الشخصيات والخلفيات والطباع، يضيف كل فرد للفريق زاوية مختلفة من الأفكار، لذا أصبح رؤساء الشركات يضعون لهم عدة مستشارين حتى يصبغوا الأمر بوجهات نظر مختلفة، فتصير النتائج أرجى وأنفع، ولنا في هدي المصطفى- صلى الله عليه وسلم- حينما استشار أصحابه في غزوة الأحزاب فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، وكانت العرب لم تعرف حفر الخندق كفكرة للدفاع عن النفس، فكانت بركة المشورة والعمل الجماعي ضحد الأحزاب.
- يتعلم الأبناء معاني الجندية والقيادة والتنقل ما بينهما من خلال العمل الجماعي فمرة يكون قائدًا يضع الخطط ويأمر وينهي ويحافظ على معنويات أفراد فريقه، ومرة ثانية يقف في صفوف الجندية فيشعر بمشاعر من هم تحت القيادة، فيتدرب على حسن التواصل معهم، ولا يعني الجندية السمع والطاعة العمياء، فإعمال العقل فيما يفيد يعود بالنفع على الجميع، نذكر في هذا المقام موقف الحباب بن المنذر في غزوة بدر، حينما تكلم الجندي وسأل القائد نبي الأمة: (أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللّهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ ولا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ قَالَ: ” بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ”، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرَ [ أي ندفن ] مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – مشجعًا – :” لَقَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ”؛ ولن نرى أبناءنا بهذه القوة إلا حينما نثق في قدراتهم، ونسمع لآرائهم، وننفذ الجيد منها وإن خالفت ما ذهبنا إليه، ولا نفعل مثل من يقول: “شاوروهم وخالفوهم!” صناعة الجندي والقائد تبدأ من المنزل.
- يكون للفريق قدرة على حساب المخاطر وذلك أيضا لاختلاف خبرات وخلفيات أفراده، دربوا أبناءكم على هذه النوعية من النقاشات، ستجدون أن لديهم أبعادًا ورؤًى للأمور مختلفة.
- يتيح العمل الجماعي فرصًا عظيمة في فهم البشر، والتعلم عن أنماطهم المختلفة والتكيف مع طباع الآخر وتعلم الاستماع والإنصات واحترام الدور، يتعلم الأبناء أن العمل في فريق لا يعني الانصهار بل يعني التكامل، وهو عكس ما تفعله أكثر الأمهات مع أبنائهم، تنصهر في احتياجات الأبناء بالكلية، وتنسى أنها كيان والأبناء كيان آخر، يكمل بعضهم البعض في أدوار العطاء.
- يتعلم من خلال العمل الجماعي أن الإنسان عاطفي بطبعه، فالكلمة تؤثر فيه بالسلب أو الإيجاب، فيتعلم ضبط لسانه حتى لا يؤذي الآخر، كما لا يحب أن يؤذى، فيتعلم أن الكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وللأهل هنا دور مهم في توجيه الأبناء أن خيركم خيركم لأهله، فمما عمت به البلوى أننا نرى كل صفات الشهامة واللطف مع الصاحب، ولا يتحمل الأخ أخاه!
- يتعلم من خلال العمل في فريق خلق التواضع فالمتكبر يرى الناس صغارًا وهم يرونه صغيرًا، بينما من تواضع لله رفعه، هناك فرق بين الفرح بتوفيق الله أن كان الفرد سببًا في طرح فكرة مختلفة وفرق أن يتعالى على أفراد الفريق بأنه أفضلهم، وأتى بما لم يأت به أحد!
- قد نجد صعوبة ومقاومة شديدة من الأبناء في نقد تصرفاتهم الخاطئة، بينما يتعلم الطفل ضرورة النقد للحصول على التحسين، بل ويتعلم آدابه، فالنقد وسيلة وليس غاية، والنقد يكون للفكرة أو للأداء وليس للشخص، وإذا كان التقييم في غياب أحد الأفراد، نعلم أبناءنا رد غيبة الغائب إذا قيل في حقه كلامٌ مجحفٌ؛ فغاية بعض الوصوليين إظهار ضعف بعض الأفراد حتى ينال مكانًا مقربًا من القائد لذا كان من المروؤة والشهامة أن نعلم أبناءنا رد غيبة الغائب، وهذا سيمارسونه عمليًا حينما يرونكم تفعلون ذلك في مجالسكم، قال الله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}.
هذا غيض من فيض في فوائد العمل الجماعي، فالحرص كل الحرص على أن تشركوا الأبناء في أعمال تطوعية، والاشتراك مع فرق الكشافة فهي من خير وسائل التربية على الجندية والقيادة، كذلك السفر مثل ما تفضلتم وتأثرتم بنموذج أقاربكم، فحتى يسعد الجميع يجب أن يشارك الجميع.
فهذا مسئول السقيا، ونثيبه على الإحسان في مهمته، وهذا مسئول وجبة الفطور يعين من يراه مناسبا لمساعدته، وهذا مسئول الترفيه، عليه إعداد برنامج في نهاية اليوم يجمع بين التسلية والتثقيف، و نحرص على متابعة تقسيم المهام وأدائها أولا بأول والتذكير بأن كدر الجماعة خير من صفو الفرد.
وبعد التعرض لمزايا العمل الجماعي، نقول في عجالة: (السمات التي يجب أن يكون عليها الفريق) حتى يحقق أفضل نتائج ممكنة:-
- أن يشعر الأفراد (بانتمائهم للفريق)، ويقاس الانتماء هذا بالأعمال التطوعية التي يفعلها الفرد من أجل الفريق، على سبيل المثال يتقاضى الموظف نظير عمله أجرًا، لكن إذا كان يشعر بعدم الانتماء تجده ينظر في الساعة ينتظر ساعة المغادرة، بينما يمكث البعض طواعية أكثر من وقت العمل من فرط حبه وانتمائه للمكان. وعلى صعيد الأسرة نواة العمل الجماعي، يجب أن نتأكد من مشاعر الانتماء لدى أبنائنا ونعززها بثقتنا فيهم واحترام آرائهم وتوجهاتهم طالما ليس فيها مخالفة شرعية.
- (الثقة) في القيادة وفي الأفراد و(الاحترام المتبادل)، وبداية الثقة تكون بإفشاء السلام وصناعة جو من البهجة كالاجتماع على الطعام، وتقديم الهدايا البسيطة في المناسبات كقدوم رمضان والعيد. نحتاج لبناء الثقة، ووقتًا على وقت، وجهدًا على جهد، لذا إذا اختبرت الثقة في مواقف كثيرة وبدت لنا أنها خلق أصيل، نتذكر ضرورة التغافل أحيانا فما زال التغافل من شيم الكرام.
- (بيئة العمل الجماعي) كلما كانت صالحة ماديا ومعنويا كان لذلك مردوده الجيد في آداء الأفراد، والمقصود بالبيئة المادية جمال المكان الذي يدار فيه العمل الجماعي، فكلما كانت ألوان حوائطه هادئه وأثاثه مريح، أضفى ذلك على الأفراد راحة وهمة في الإنتاج، وتطبيق ذلك عمليًا مع الأبناء يكون بتهيئة حجراتهم وتنسيقها حتى إذا ما طلبتم منهم ترتيبها كان لديهم الدافع للحفاظ على المكان الجميل نظيفًا، أحيانا لا نعطي أولويات لهذه الأمور غير مدركين أثرها. يقول المؤرخ الكبير جمال حمدان رائد مصطلح (عبقرية المكان) “نعم جمال المكان وحسن تهيئته له أثر في روح الفريق”، والصلاح المعنوي، المقصود به مجموعة القيم التي تحكم الفريق فالبيئة المعنوية (روح الفريق) لا تحتاج إلى مال كالبيئة المادية لكن تأثيرها على الفريق كبير.
- وضع قواعد للعمل واضحة، خطة العمل، كيفية متابعتها، ما هو مفهوم النجاح، وكيف يقاس، ما نوع العمل الجماعي، هل هو شراكة أم تعاون أم توظيف، كلما كانت تلك الأمور واضحة قللنا المشكلات في بيئة العمل، وكانت أقرب لتحقيق الهدف، كذلك وضع القوانين بالبيت والمدرسة والنادي، كل مؤسسة يتعلم فيها الطفل العمل الجماعي يجب أن تكون القواعد واضحة، حتى إذا جاءت لحظة الحساب كان الجميع على بينة.
- الحفاظ على أسرار الفريق، يتدرب الأبناء على ذلك في البيت أولًا، فيتعلمون معنى الخصوصية، وأنه ليس كل ما يعرف يقال، يقول الإمام ابن الجوزي : (اكتم عن الناس ذهبك، وذهابك، ومذهبك)، نصيحة تكتب بماء الذهب، ذهبك يعني مالك، وذهابك يعني خططك ووجهتك ومذهبك توجهك، الذي قد يكون صيدًا لأذى يلحق بك، فلا تصرح للناس بهذه الثلاث، وإذا اعتمد الأبناء هذا الفهم نجحوا في التعامل مع بيئات العمل الجادة التي تقدر تلك المعادن من البشر.
- أن يكون لدى أفراد العمل رقابة ذاتية، هذا منهج نزرعه في الصغر حينما نردد على مسامع أبنائنا: (الله شاهدي/ الله ناظري/ الله مطلع علي)، فكيف نخاف من مدير يمر أو قائد يتابع العمل، فقد تعلم الطفل منذ صغره أن الله رقيبه، فيحسن لأن الله شاهده، وليس مديره أو مدرسه.
- كلما كان عدد أفراد الفريق صغيرا كانت مقومات نجاح العمل أفضل، حيث يستطيع الأفراد القليلون فهم بعضهم وتحديد مهارة كل فرد وبالتالي توزيع تلك الأدوار وفقا لما يتقنون، فشجعي الأبناء على الاشتراك في مجلة الفصل، أو عمل المجلة الشهرية المدرسية، أو نشاط عملي على درس معين، أحيانا مع ضغوطات الحياة يقصر الأهل في المشاركة في مثل هذه الأمور طالما ليس عليه درجات، مفوتين على أبنائهم فرصا كبيرة للتعلم.
وفي الختام لا يسعنا إلا أن نذكر أن الصلاة عماد الدين، هي مسؤولية فردية، ولكن أداءها جماعة لها عظيم المثوبة والأجر، كما أن لها ثمارًا في التدريب على معنى العمل الجماعي ومشاهدة أثره يوميًا بشكل متكرر.
فلنحرص على أداء أبناؤنا للصلاة جماعة بالبيت أو المسجد، فمنها يتعلمون أحكام وقواعد تمهد لهم الطريق نحو فكرة العمل ضمن مجموعة، فالإمام ذو التلاوة الخاشعة لا تستقيم صلاته جماعة ويثاب عليها سبعًا وعشرين درجة إلا بمأموم خلفه، يعلي بعضهم درجة بعض في الدنيا والآخرة، فالصلاة مفتاح لكل خير، وإذا ما سألنا عن التدريب على العمل الجماعي فلن نجد خيرًا من محراب الصلاة به نبدأ التعلم عمليًا ونظريًا.
أقر الله عينك بصلاح أبنائك وبارك للأهل الذين يعملون على توجيه أبنائهم ليكونوا منارات لمن حولهم.