علّمنا الإسلام أنّ تربية الأبناء على حب الحلال وكراهية الحرام تبدأ من لحظة اختيار شريكة الحياة وشريك العمر، لأنّ تقوى الله والعمل على التمسك بالحلال والابتعاد عن كل حرام يحتاج إلى عون وتعاون من كلا الطرفين.
إن الأم والأب معًا، وبشراكة حقيقة بينهما في المبادئ والأفكار والرؤى والطموحات يُمكنهم تنشئة الأبناء على حب كل ما أحلّه وبُغض كل حرام، وهو ما يُخرج للمجتمع أروع النماذج التي تتقي الله وتفلح في دنياها وآخرتها.
تربية الأبناء على حب الحلال من منظور إسلامي
لا يخفى أننا في زمن فُتحت فيه الدنيا على الناس، وكثرت تجاراتهم، وتعددت مكاسبهم، وكثرت صور البيوع التي تحير فيها الناس وكثر فيها التحايل، وفي ظل هذا التحدي يرغب الآباء والأمهات في تربية الأبناء على حب الحلال وبغض الحرام للنجاة في الدنيا والآخرة.
وقد جاء النداء الرباني للرسل والمؤمنين بأكل الطيب، فقال- جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (المؤمنون: 51)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة: 172).
وأخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه يأتي على الناس زمان ما يُبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “يَأْتي علَى النَّاسِ زَمانٌ لا يُبالِي المَرْءُ ما أخَذَ منه؛ أمِنَ الحَلالِ أمْ مِنَ الحَرامِ” (البخاري).
والعبد إذا اطمأنّ قلبه بربه؛ وثق في تدبير الله لأمر رزقه، بين بسطه وقبضه، فهو راضٍ عن ربه، غير متطلع لما في يد غيره، واثق في حسن اختيار الله له؛ لا يتطلع للكسب الحرام، مؤمن ومصدق بقول الحبيب محمد- صلى الله عليه وسلم-: “أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ” (صحيح ابن ماجه).
وفي هذا الحديث يرشد النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمَّتَه إلى الرِّفقِ في كلِّ الأمورِ، والسَّعيِ في الدُّنيا، مع التَّوكُّلِ على اللهِ وعدَمِ التَّكالُبِ عليها؛ فالرزقَ مقدَّرٌ مِن اللهِ وسوفَ يصلُ لكلِّ واحدٍ منهم ما قُدِّر له مِنَ الرِّزقِ وإن تأخَّرَ فيما يراه العبدُ، ولكنَّ قَدْرَ الرِّزقِ وموعدَه مُقدَّرٌ عند اللهِ فخُذُوا ما حلَّ ودعوا ما حرم.
وهذا لا يُنافي الأمْرَ بالعَملِ والسَّعيِ في الأرضِ لابتغاءِ الرِّزقِ، ولكنَّه تهذيبٌ للسَّعيِ، وإرشادٌ لعدمِ التَّكالُبِ على الدُّنيا وعدَمِ الحُزنِ على ما فات منها؛ فإنَّه تعالى قد قدَّرَ الرِّزقَ وكتَبَه، وقدَّرَ له سببًا هو الطَّلبُ بالإجمالِ.
لذا، حذّر النبي- صلى الله عليه وسلم- العبد من أكل الحرام، مبينًا آثاره الضارة على دين العبد وسلامة عبادته، فقال- صلى الله عليه وسلم-: ” أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!” (مسلم).
قال ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: “وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل، ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله”.
وأوضح ابن رجب أنّ المراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، وبالعمل الصالح، فما دام الأكل حلالًا فالعمل صالح مقبول، فإذا كان الأكل غير حلال فكيف يكون العمل مقبولًا؟! وما ذكره بعد ذلك من الدعاء، وأنه كيف يتقبل مع الحرام، فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع التغذية بالحرام.
كيفية تربية الأبناء على حب الحلال
يجب الاتفاق بين الزوجين على تربية الأبناء على حب الحلال والبعد عن الحرام، في بداية الحياة الزوجية، مهما كانت الظروف وضغوط الحياة ومتطلبات الأسرة، ولا بد من التنشئة على كراهية الكذب لأي سبب، والإقبال على قول الحق وعدم الخوف من النتائج، والتوكل على الله تعالى فهو كفيل بعوننا على النجاة إن اتقيناه، ويمكن اتباع هذه الوسائل لتنشئة الأطفال على الحلال:
- غرس محبة الله وتقواه تعالى: فذلك مما يعين على طلب الحلال والبعد عن الحرام، فلا نقبل أخذ شيء لا يحق لنا وإن وجدناه في الطريق، ولا نأكل طعامًا لا يحل لنا، ولا نسرق شيئًا ليس من حقنا.
- الأسرة هي المسؤول الأول عن التربية: ومن الضروري عدم ترك قضية تربية أطفالنا وَفق مبادئ الحلال والحرام على عاتق المدرسة والرفاق ووسائل الإعلام وحدها، لأنّ الأهل هم الأولى في التربية والمتابعة والحرص على التنشئة السليمة، فهي الطريق الموصل إلى الجنة، والبعد عن النار، وليس الانشغال لكسب المال وتوفير احتياجات الأسرة كافة.
- استخدام وسائل الإقناع، وتعزيز مبدأي الثواب والعقاب: فتعليم الأبناء حب الحلال، والابتعاد عن الحرام يحتاج إلى وسائل في التربية والإقناع كتذكير الأبناء بأن لكل شخص ملكين يسجلان ما يقول وما يفعل: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (سورة ق: 18). فلم لا يكون كلامنا ذكرًا وشكرًا وخيرًا وعونًا وإبداعًا وإسعادًا للنفس وللآخرين، بدلًا من أن يكون كلام سوء وشر وإيذاء!
- استخدام المعززات المادية والمعنوية: وذلك كلما تلفظوا بكلمات يحبها الله تعالى، أو مارسوا شيئا من ذكر الله تعالى كالاستغفار والتسبيح، ويمكن معاقبتهم أو حرمانهم من بعض ما يحبون إن تلفظوا بما حرم الله تعالى أو ارتكبوا المحرمات، فإن تربى الأبناء على ذلك لن يقلق الآباء عليهم أينما حلوا أو ارتحلوا.
- دوائر الحلال: ومن رحمة الله بعباده أن جعل دائرة الحلال كبيرة، ودائرة الحرام ضيقة قليلة، فمثلًا: أحل الله جميع المال عدا الربا أو الرشوة أو السرقة، وجميعها إما بها إيذاء للآخرين، أو إيذاء للنفس، وحلل الله جميع أنواع اللحوم إلا لحم الخنزير، والذي ثبتت مضاره الكثيرة على صحة الإنسان، وأحل الله جميع المشروبات وحرم الخمر، وأحل جميع المأكوت إلا ما به مضرة للإنسان، وأحل الكلام إلا ما كان به أذى للآخرين كالغيبة أو النميمة أو الكذب أو قذف المحصنات.
- التربية على غض البصر: وعلى الوالدين تقع مسؤولية تنشئة الأبناء على غض البصر عن المحرمات: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾ (النور: 30). فالنظرة سهم من سهام إبليس، وما ينفذ للعين ينفذ للقلب، فعلينا تعليم الأبناء أنّ هذا الأمر الإلهي جاء لينقذ الإنسان من الوصول إلى تبعاته التي تُوقع فيما حرم الله.
- التربية بالقدوة والمثل الأعلى: مما لا شك فيها أن الحديث عن المثل الأعلى والقدوة الطيبة شيء ضروري في هذه الأيام؛ حتى ينشأ الأطفال والشباب مقتدين بسير العلماء وأهل الفضل والخير من هذه الأمة، ممن جمعوا بين العمل الصالح وفعل الخير ونفع الخلق، وحتى يتطلع الجميع إلى مُثُل عُليا حقيقية أثرت في حياة الناس، وغيرت الاهتمامات والطموحات.
الكسب الطيب من أسباب صلاح الأولاد
إن تربية الأبناء على حب الحلال وبُغض الحرام يتطلب من الآباء والأمهات بدء حياتهم بالمال الطيب، والكسب الطيب ثم الطعام الطيب، فها هو عمر بن عبد العزيز كان غرسًا طيبًا لأسرة كريمة طاهرة، فوالده هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، من خيار أمراء بني أمية، شجاعًا كريمًا.
لقد كان من تمام ورعه وصلاحه أنه لمّا أراد الزواج قال لخازنه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي؛ فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح، فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمر الخطاب- رضي الله عنهم جميعًا- وهي حفيدة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
إن زواجه من آل الخطاب ما كان ليتم لولا علمهم بحاله وحُسن سيرته وخُلُقه، فقد كان حسن السيرة في شبابه، فضلًا عن التزامه بدينه وحرصه على تحصيل العلم واهتمامه بالحديث النبوي الشريف، فقد جَلَسَ إلى أبي هريرة وغيره من الصحابة وسمع منهم، وواصل اهتمامه بالحديث بعد ولايته مصر، فطلب من كثير بن مرة في الشام أن يبعث إليه ما يسمعه من حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا ما كان من طريق أبي هريرة فإنه عنده.
إن تربية الآباء والأمهات أبناءهم على حب الحلال وبغض الحرام مسؤولية وأمانة، وإنّ لهذا الصلاح بعد توفيق الله تبارك وتعالى سببين ظاهرين: أولهما الحرص على الحلال الطيب في المطعم والمنكح، وثانيهما البحث عن الأسر الصالحة الطيبة عند الزواج، ليخرج الله لنا أبناء بررة غُذوا بالحلال، ونشأوا عليه وعلى تعظيم الشرع الحنيف، وهذا النبت هو أساس الشجر الوارف الظلال الذي ينتج للأمة ثمارًا نافعة، وأطفال اليوم هم قادة الغد.