إنّ كتاب ربانية التعليم هو أحد كتب سلسلة العين لمؤلفها الدكتور عبد الله يوسف الحسن، التي تُركز على كشف الآفاق الرّحبة لفقه الدعوة، وتَجَارب العمل الإسلامي، وأنماط معاناة المربيين، وتعمل على معالجة المشكلات التربوية علاجًا عمليًّا وواقعيًّا.
وتضع هذه السلسلة يدها على الدّاء وتتدرج في الوصول إلى العلاج حتى نهايته رغم ما تواجهه هذه الأنماط التربوية من متغيرات ومواجهات مع غزو حضارات مغايرة بثقافتها التي قد لا تتناسب كلية مع ثقافة حضارتنا الإسلامية، وهو ما يتطلب من الدّاعية المسلم أن يتسلح بأسلحة العلم التي وصفها الله سبحانه وتعالى في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
حول كتاب ربانية التعليم
ويعد كتاب ربانية التعليم هو الرسالة الثانية من رسائل العين لهذا المؤلِّف المهتم بالشأن التربوي، كما له كتب أخرى مثل: الإيجابية في حياة الداعية، وهو يركز على مفهوم الإيجابية الذاتية التي شجع عليها الدين الحنيف، وكتاب الوجيز في التربية الذي يتعرض فيه إلى أسس التقويم في العلاجات.
وقد نُشر الكتاب الذي نحن بصدده – أول ما نشر- في دار المنطق قبل أن تتولى دار البشير للطباعة والنشر والتوزيع بمدينة طنطا الواقعة بوسط الدلتا في شمال مصر بطباعته، حيث أصدرت الطبعة الثالثة منه عام 1417- 1997م، وعقب عليه الأستاذ محمد أحمد الراشد.
وربانية التعليم من الرسائل الصغيرة التي تضع يدها على الداء وتقدم العلاج في ورقيات بسيطة (ككل رسائل العين) حتى لا يمل القارئ، حيث جاءت الرسالة في 92 صفحة من القطع المتوسطة.
رؤية عامة حول كتاب ربانية التعليم
إنّ مُقدمة أي كتاب هي واجهة لما يحتويه والطريقة التي سيسير عليها المؤلِّف في عرض وبسط رؤيته فيه، ومقدمة كتاب ربانية التعليم تميزت بأنها أوضحت خلاصة الفكرة التي يُريد الدكتور عبد الله يوسف الحسن أن يغرسها في وجدان القارئ، حيث جاء فيها:
- التدريج، فبدأ بالقضايا الصغيرة للعلم ووصل إلى المنتهى والقضايا الكبرى.
- التكامل، فهو يُمثل الحقيقة المتممة كتكامُل ألوان الطيف لتنتج اللون الأبيض.
يقول المؤلف: إن ربانية التعليم أحد أهم المفاهيم التربوية في عملية التدريس عموما، وفي مجال التعليم والتربية الدعوية بشكل خاص. ويعني هذا المفهوم أن عملية التعليم يجب أن تكون بحكمة، وتتضمن التدرج في تدريس صلب العلم قبل فروعه، ولا يقوم بهذا العمل إلا الفقهاء الحكماء، والمربون الوعاة.
وسعى المؤلف إلى ربط العلم بآفاق ربانية، والاهتمام بالجزئيات قبل الكليات، والأصول قبل الفروع، والعِناية بالعلوم الشرعية أولا، والعلوم المهمة قبل غيرها من العلوم، والعلوم الواضحة قبل الغامضة، والأساليب السهلة والمرنة، والبعد عن الخوض في المسائل الخلافية، لإيجاد قاعدة راسخة لا تهتز مع المستجدات والمتغيرات.
كما حاول المؤلف أن يُوضّح ضوابط الانفتاح في التعليم، مثل: التواضع والمنهجية والتركيز وعدم الشرود بأبنائنا الطلاب الصغار.
مبررات ربانية التعليم
لقد حاول مؤلف كتاب ربانية التعليم أن يقف على مبررات ربانية التعليم التي دعا إليها، كما حاول أن يُوضّح من خلالها المفهوم العام للربّانية في التعليم، ومنها:
المبرر الأول: من أجل عدم الوقوع في المفسدة لقصر الفهم، حيث ساق نموذج النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- حينما امتنع عن هدم الكعبة ثم بنائها حتى لا تظن قريش أنه بنَاها لينفرد بالفخر عليهم، واستنبط الإمام البخاري منها مفهوم ربانية التعليم، ولا بُد من ضرورة منع بعض العلم خوفا من الوقوع بما هو أشد لقصور الفهم عن ذلك.
المبرر الثاني: عدم إضاعة العلم في أخذ الفروع قبل الأصول التي وصفها الماوردي بقوله: “لأن البناء على غير أسس لا يبنى، والثمر من غير غرس لا يجنى”.
المبرر الثالث: عدم التنفير من العلم والتخبط، حيث اعتبرها الإمام الغزالي من وظائف المربي والمعلم فيقول: “أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره”، حيث إن طالب العلم إذا ما أخذ علما لا يستوعبه، يؤدي به إلى عدم توازنه.
المبرر الرابع: عدم الوقوع في الترف الفكري، حيث تحول المتعلم إلى شخص نظري لا يستطيع أن يترجم ما قرأه أو تعلمه إلى سلوك عملي، وهو المعنى الذي قصدته السيدة عائشة – رضي الله عنها- حينما سألت عن أخلاق النبي – صلى الله عليه وسلم- فقالت: “كان خُلُقُه القُرآنَ” (صحيح أحمد).
المبرر الخامس: الأمان من الخطأ، لأن كثرة الحديث تُورد كثرة الخطأ والالتباس، وصدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم- “كَفَى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ” (صحيح مسلم).
المبرر السادس: عدم التوازن بين العلم والعمل، لأن الاثنين لا يفترقان كجناحي طائر لا يستطيع الطائر أن يستغني عن أحدهما.
آفاق الربانية
وحاول مؤلف كتاب ربانية التعليم التعرض إلى قضية أخرى وهي آفاق الربانية وتضمن عدة آفاق تناولنا بعضها في الرؤية العامة للكتاب منها:
الجزئيات قبل الكليات: وهي الأمور التي امتلأت بها كتب الفقه، حيث سعى العلماء والفقهاء إلى الاستنباط من هذه الجزئيات مجموعة قواعد كلية قد تتخلف آحاد الجزئيات عنه.
الأصول قبل الفروع: وهذا مبدأ واضح ضروري، فتعلم أصول الشريعة لا بد منه قبل فروعها، وأرفع الأصول أصل العقيدة. ففي الفقه مثلاً معرفة ما تصح به العبادة أولى بالمعرفة من سنن العبادات وزوائدها.
وتطبيقا لهذا المبدأ فإن تعلم العقيدة قبل الفقه لا بد منه، وأصول الشريعة كالقرآن والحديث، قبل الفروع والتوسع الفقهي، كما أن القاعدة تنطبق في الفن الواحد، فقراءة القرآن وتلاوته قبل معرفة تفسيره، وهكذا في بقية العلوم.
ويؤكد المؤلف معنى مهم وهو أنه يتبقى على الداعية معرفة أن ما تسلم به العقيدة، وتصح به العبادة، وقواعد الدعوة إلى الله تعالى، مقدم على الثقافة العامة وحديث السياسة، ولا بُد كذلك من التذكير أن بعض هذه العلوم قد تتغير أفضليتها من شخص إلى آخر، أو في زمان دون غيره.
الواضح قبل الغامض: ومن معاني الربانية أن الواضح من المسائل المقدمة على الغامض منها، وهو معنى استقاه المؤلف من بعض كلمات ابن حجر العسقلاني التي قال فيها: “صغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها”.
والأمر كما ينطبق على المعاني، فهو – أيضا- ينطبق على الألفاظ، واختبار الواضح منها أولى من اختيار الغامض، والأجدى اختيار أقصر الطرق، وأسهل الأساليب التي يفهمها المخاطب. كما المرونة في الأخذ والعطاء بالإضافة إلى التدرج من أهم الأمور في ربانية التعليم حتى لا ينفر المتعلم مما يأخذه من علوم.
المتفق قبل المفترق: بأن يكون التعليم للمسائل المتفق عليها ولا يخوض في مسائل الاختلاف، لأن ذلك مفسدة للمتعلم، وإضاعة لأصل مقاصد التعليم، وما ينطبق على الفقه، ينطبق على العمل التربوي.
وما أحوج جمهور المربين والدعاة لهذا المعنى، وأن يقتصر حديثهم على ما ينفع، وترك الخوض في ما يقود إلى الخلاف أو قسوة القلب، من حديث الوجاهات، وأقاويل الفتن، وحوار القادة، وخلافات الأقران، وأخبار السوء. يقول الماوردي: “وينبغي أن يكون للعالِم فراسة يتوسم بها المتعلم، ليعرف مبلغ طاقته، وقدر استحقاقه، فإنه أروح للعالِم وأنجح للمتعلم”.
سهولة العبارة مقدمة على صعوبتها: فالأصل في العلم توصيله للسامع بأقرب طريق دون التواء، لأنه ليس بحاجة لإثبات فصاحته، ولا لإظهار علمه.
ومن المسالك الوعرة في تصعيب الألفاظ، وإضاعة المعاني، ما قد يلجأ إليه البعض من استعمال المجاز المبالغ فيه، والرموز الشاذة المعقدة. لكن إذا وقع من السامع موقعًا جيدًا جاز استعماله في حدود ما دام لا يقود إلى مفسدة، لكن مع مراعاة شرط عدم المبالغة والإكثار منه، وأن يكون السامعون ممن تدرك عقولهم مثل هذه العبارات والرموز.
الأساليب الجميلة: حيث يرى المؤلف أنها من الأساليب الجميلة المؤدية للمعنى، والعبارات الجميلة دليل على شفافية المسلم، وحسن انتقائه، التي وردت في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم بقوله- :”لا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، ولَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي” (البخاري).
ويؤكد المؤلف أن ربما كلمات تضعف الحق وربما تقويه فيقول: “للتعبير أثر في إبراز الحق وكم من حق يخرجه إلى الباطل سوء التعبير”.
المزج بالرقائق: حيث يرى المؤلف أنها من ضروريات ربانية التعليم حتى لا يتحول التعليم إلى فلسفسات عقيمة ترتكز على أمور مادية بعيدة عن الأمور الروحانية، لكن لا بُد من المزج بما لا يخل من التعليم. وهو ما ذكره في قوله “ومن الربانية في التعليم مزج كل علم بالرقائق كي تتحقق السكينة الإيمانية، ولا يسيطر العقل وحده على القلب، والفكر على الروح، فتتحول المعاني الإيمانية إلى فلسفة عقيمة، وتضيع المقاصد الأصلية لعملية التعليم التربوي، إذ أن أصل المقاصد في التعليم ربط المخلوق بربه، وتذكيره بالآخرة”.
ويضيف: “وعدم الأخذ بالأساليب الغربية الباردة حيث الاكتفاء بجوهر الموضوع فقط، فإنما تصلح هذه الطريقة للمباحث الطبيعية لاختلاف أهدافها ومقاصدها، أمّا التعليم الدعوي فلا بُد له من حديث القلب، وأسلوب القرآن الكريم أكبر دليل على هذا الأمر”.
تحذير المحدث من اللجاج: ويقصد به التزود بما لا طائل بعده وكذلك التكلف، وهو أمر مكروه في ربانية التعليم التي يحاول المؤلف بسط فكرتها.
ويراها – أيضا- بعدم اختيار المعاني التي تقود إلى الجدل، أو التي تستثير الفتن والمشكلات، أو أن المحدث يختار الرد على ما انتقد عليه ليريح نفسه، ويُشبع غروره، ويبلغ الانتصار من خصمه، وكذلك عدم المبالغة بمظاهر التقوى، وادعاء الزهد، والتكلف في الوقار.
ربانية الجواب: حيث يذكر المؤلف أن أي داعية أو محدث لا بد من أن يتعرض للأسئلة في نهاية درسه، لذا يُذكّر ببعض خصائص الجواب التي يجب على المحدث أو الداعية أو الكاتب التحلي بها، ومنها:
- يجوز للمتحدث أو المربي أن يجيب السائل بأكثر مما سأله.
- إذا سئل الداعية عن شيء وسيكون جوابه بالمنع فعليه أن يقدم للسائل بديلا مناسبا غير الذي منعه عنه حتى لا يتركه في حيرة.
- التمهيد للحكم أو القول المستغرب بما يوضح ذلك بحيث يقدم الداعية ما يهيئ المستمع للحكم القادم ليتقبله، وهو الأمر الذي يحتاجه أهل الفقه أكثر من غيرهم لتغيير الفتوى مكانا وزمانا وذلك لمصلحة شرعية أو لضرورة، كمثل ابن عباس حينما سئل: هل للقاتل توبة؟ فنظر في وجه السائل وعرف نيته فقال: لا. لدرجة أن الصحابة أنكروا عليه ذلك فوضح لهم أن نية الرجل القتل فعلا.
المعايير النسبية لربّانية التعليم
تناول الجزئيات قبل الكليات، والفروع قبل الأصول، هما من الأمور المنهجية التي يتعدد فيها الصواب، وتختلف فيهما النظرات، وفي كل منها مقدار لا يمكن تجاوزه من وجوب التدرج الذي يتلاءم مع نظرية الربانية التي يحاول مؤلف كتاب ربانية التعليم شرحها للقراء، والتي استخلصها من فكر ابن عباس وابن حجر العسقلاني في ربانية التعليم، ومنها:
- لماذا تربية التقليد إذ الاجتهاد قريب؟، لأن الإسراف في تعليم الفروع وتجريدها، والغلو في عرض المقدمات بدعوى التدرج يؤديان إلى نشوء عقلية تقليدية محضة تستولي على التلميذ وتجعله سلبيا، لا يطمح إلى إعمال التفكير، لكن يجب إنماء العقلية الاجتهادية لدى التلميذ.
- تأثر التربية بعوامل عديدة غير التدرج، وتعد من الأمور المهمة في نسبية ربانية التعليم.
- الحوار سنة السلف المربين: فالحوار بين المربي وتلميذه هو أحد أهم الوسائل الأخرى لتكوين العقلية الاجتهادية الإبداعية.
- كلمات التقوى وصفات المرونة: مصاعد الاجتهاد، بحيث تميل المواعظ بالداعية إلى التواضع والأدب، وفهم الأمور السياسية فهما صحيحا بقواعدها حتى يحسن التخاطب والحوار فيها دون إصدار كلمات تفهم خطأ فتسبب لبسا لدى الناس في فهم السياسة أو خلطها بالمصطلحات الدينية دون تمييز أو ربط واقعي.
خاتمة
حاول مؤلف كتاب ربانية التعليم أن يربط التعليم حول المفهوم الرباني بحيث يكون تعليما لله وحده، نافعا للناس دون ضرر. ويهدف إلى كشف الآفاق الرحبة لفقه الدعوة، وتجارب العمل الإسلامي، وأنماط معاناة المربين، ووضع كل ذلك بين يدي شباب الصحوة الإسلامية، تعليما لهم وتمكينا، مع وضع الأبعاد الحضارية في الحسبان لأننا نعيش حياة الانفتاح، بل نواجه حضارة تسعى لغزونا بفكرها وثقافتها، وهو ما يتطلب من الداعية المسلم أن يسعى نحو الثقافة الشمولية، والأخذ بأنواع العلوم والفنون، ليعلو فوق التيار مسيطرًا مهيمنًا.