حضّ الإسلام على طلب الرزق ببذل الأسباب المشروعة، ثمّ بالتوكلّ على الله بعد ذلك، وهذا هو الأصل العام الذي شرعه الله لعباده، أن يطلبوا الشيء بأسبابه الشرعية والحسية، وقد حثّت الشريعة الإسلامية على العمل والجدّ، وأوصت بالابتعاد عن الذُّل والمسألة.
ورِزق الله يشمل كل ما يُنتفع به، سواء حسّي أو معنوي، والله- سبحانه وتعالى- هو الرّازق ولا رازق سواه، وقد تكفّل سبحانه بذلك وقدّر أرزاق الخلق جميعا، ولا شك أنّ السعي في طلب رزق الله أمر مطلوب شرعا وعبادة يُثاب عليها المسلم، كما أنّ توسيع الرّزق له أسباب تُؤدّي إليه، والتّفاضل في الرّزق مراد من الله- عز وجل- لحِكَم سامية وغايات مُهمّة.
مفهوم الرزق لغة واصطلاحًا
ويُعرف الرزق في اللغة، بأنه اسم الشيء المرزوق، وهو كل ما ينتفع به، وجمعه أرزاق، والرازق والرزّاق: صفة الله تعالى، فعّال من أبنية المبالغة، لا يقال إلا لله تعالى، ولأنه يرزق الخلق أجمعين، وهو الذي خلق الأرزاق، وأعطى الخلائق أرزاقها وأوصلها إليهم، قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [هود: ٦].
وفي الاصطلاح، يعرف الرّزق بأنه كل ما ينتفع به، سواءً كان ماديًّا كالأموال من ذهب وفضة وحيوان وزروع وثمار وعقار، وكل ما هو مأكول ومطعوم وملبوس ومشروب ومسكون ونحو ذلك، أو كان معنويًّا كالمعارف والعلوم والمنزلة والجاه والسلطان والعقل والذكاء وحُسن الخلق ونحو ذلك، وسواءً كان ما ينتفع به في الدنيا وهو ما ذكرناه، أو ينتفع به في الآخرة وهو رضوان الله تعالى وثوابه ونعيم الجنة، ونحو ذلك مما أخبرنا الله تعالى به.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “الرّزق يراد به شيئان: أحدهما: ما ينتفع به العبد. والثاني: ما يملكه العبد فهذا الثاني هو المذكور في قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وقوله: {وَأَنْفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} وهذا هو الحلال الذي ملكه الله إياه. وأما الأول: فهو المذكور في قوله: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وقوله- صلى الله عليه وسلم- {إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها} ونحو ذلك.
الرزق في القرآن والسنة
وأشار القرآن الكريم إلى الرزق في العديد من الآيات، منها قول الله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10-12].
وقال جل وعلا: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات: 22، 23].
وذكر الله تعالى قائلا: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ) [إبراهيم: 32]، وقوله سبحانه (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه: 132].
وهناك أحاديث نبوية كثيرة عن الرّزق. يقول النبي- صلى الله عليه وسلم- “لا تَستبطِئُوا الرِّزقَ، فإنَّهُ لمْ يكنْ عبدٌ لِيموتَ حتى يَبلُغَهُ آخِرُ رِزقٍ هوَ لهُ، فاتَّقُوا اللهَ، وأجْملُوا في الطَّلَبِ، أخذُ الحلالِ، وتركُ الحرامِ” (رواه الألباني، في صحيح الجامع).
وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “وكَّلَ اللَّهُ بالرَّحِمِ مَلَكًا، فيَقولُ: أيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أيْ رَبِّ مُضْغَةٌ، فإذا أرادَ اللَّهُ أنْ يَقْضِيَ خَلْقَها، قالَ: أيْ رَبِّ، أذَكَرٌ أمْ أُنْثَى، أشَقِيٌّ أمْ سَعِيدٌ، فَما الرِّزْقُ، فَما الأجَلُ، فيُكْتَبُ كَذلكَ في بَطْنِ أُمِّهِ” (البخاري).
وعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنه-: “أنَّ النَّبيَّ- صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ- رأى تمرةً عائرةً فأخذها فناوَلها سائلًا فقال: أما إنَّك لَو لَم تأتِها لأتَتْكَ” (الألباني في صحيح الترغيب)، وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، أوْ يُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ” (البخاري).
أسباب زيادة الرّزق
وتتعدد أسباب زياد الرزق وفقًا لما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، من ذلك ما يلي:
- الإيمان بالله تعالى: فهو رأس الأسباب لقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96]. وذكر القرطبي أن الآية نص في أنّ الشكر سبب المزيد في الرّزق، وأن الكفر عمومًا بعدم الإيمان وعدم رد النعمة إلى الله تعالى سبب في العذاب، لأنّ الكفر بالنعمة كفر ببارئها.
- التوكل: وحقيقة التوكل على الله هي الاعتماد عليه سبحانه، وإسناد الأمر إليه، والتفويض الكامل له، واستسلام القلب له؛ حيث لا خالق ولا فاعل إلا هو، وهو تام العلم والقدرة والرحمة، فعن عمر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا” (الترمذي).
- الاستغفار: فمن مِنن الله الكبرى، والفضائل العظمى، ما رُتّب على الاستغفار من عظيم الجزاء، يقول تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10-12].
- الدعاء: وأمر الله تعالى عباده بأن يدعوه وحضهم على الدعاء وسماه عبادة، ووعدهم بأن يستجيب لهم، وأخبرهم بأنه قريب يجيب دعوة من دعاه، ويستحي أن يرد يدي عبده خاليتين، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]. وعن سلمان الفارسي- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “إنَّ اللَّهَ حيِىٌّ كريمٌ يستحي إذا رفعَ الرَّجلُ إليْهِ يديْهِ أن يردَّهما صفرًا خائبتينِ” (البخاري).
- الإنفاق: يقول تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39]، وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- قال: “قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك” (مسلم).
- السعي في الأرض: لقد أعلن القرآن الكريم دعوته الأكيدة على ضرورة العمل، وعلى الكسب، وبذل الجهد، قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة: 10].
- التبكير في طلب الرّزق: فعن صخرٍ الغامديّ- رضي الله عنه- عن النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- قال: “اللّهمّ بارك لأمّتي في بكورها” (صحيح أبي داود)، وكان إذا بعث سريّةً أو جيشًا بعثهم من أوّل النّهار، وكان صخرٌ رجلًا تاجرًا، وكان يبعث تجارته من أوّل النّهار، فأثرى وكثر ماله حتى كان لا يدري أين يضع ماله. وقال الإمام الشوكاني: “وحديث صخر المذكور فيه مشروعية التبكير من غير تقييد بيوم مخصوص سواءً كان ذلك في سفر جهاد أو حج أو تجارة أو في الخروج إلى عمل من الأعمال ولو في الحضر”.
- صلة الرحم: ومن أعظم الطاعات التي تزيد في الرّزق هي صلة الرحم؛ رُوي عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “مَن سرّه أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه” (البخاري).
- شكر الله على النعم الموجودة: قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7]، فالشكر يُقيّد النعم الموجودة، ويجلب النعم المفقودة، وفي ذلك يقول عمر بن عبد العزيز: “قيَّدوا نعم الله بشكر الله، فالشكر قيد النعم، وسبب المزيد”.
- الزواج: يقول الله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النور:32]، ويقول عمر بن الخطاب: عجبًا لمن لم يلتمس الغنى في النكاح، والله يقول: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
- المتابعة بين الحج والعمرة: وهذا من الأشياء التي جعلها الإسلام سببًا لنفي الفقر وسعة الرزق، ففي الحديث عن ابن عباس مرفوعا: “تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة” (رواه الترمذي والنسائي، وصححه الألباني).
- الإحسان إلى الضعفاء: فهي من الأسباب التي يرزق الله بها العباد وينصرهم، وهذا ما بينه النبي- صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “ابغوني في ضعفائكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم” (رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني).
- استحضار القلب في العبادات: ومن الأسباب التي يستجلب بها الرّزق، تفريغ القلب للعبادة عند أدائها، ففي الحديث عن أبي هريرة- رضي الله عنه-، عن النبي- صلى الله عليه وسلم-، قال: “إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملأت يدك شغلًا، ولم أسد فقرك”، (الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني).
- الأخذ بأسباب الكسب: ولا يكفي ما سبق دون الأخذ بأسباب الكسب، فقد جرت سنة الله ألا ينال رزقه إلا بكدح وسعي، فمن جد وجد، ومن زرع حصد. يقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15].
مضامين تربوية
وقضية الرزق تشتمل على مضامين تربوية في غاية الأهمية، ومنها:
- تفاوت الأرزاق ضرورة: فلا بد أن يكون في الأرض أغنياء وفقراء، لأن الله لو جعل عباده كلهم أغنياءَ، أو جعلهم كلهم فقراءَ، فلا يكون هناك تناسق وتوازن على الأرض، ولاهتزتْ مصالح العباد، وتخلخلت موازين عمارة الأرض، لذا قال سبحانه: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) [الزخرف: 32].
- قد يكون بسط الرزق ابتلاءً: قـال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيم) [الأنعام: 165]، يقول ابن كثير: أي: ليختبركم في الذي أنعم به عليكم، وامتحنكم به؛ ليختبر الغني في غناه، ويسأله عن شكره، والفقير في فقره ويسأله عن صبره.
- المال ليس هدفًا بل وسيلة: فجل هدف المسلم هو تحقيق العبودية لله تعالى وحده، وكسب مرضاته، والفوز بالجنة والنجاة من النار، لذلك كان التركيز في الإسلام على ما حوته القلوب من نيات صادقة، وما كسبته الجوارح من أعمال صالحة، فعن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم” (مسلم).
- لكسب المال في الإسلام طرق ووسائل مشروعة: فلا يكتسب عن طريق الربا، أو عن طريق بيع الخمور والمخدرات، والقمار، والغش والنصب والاحتيال، وخداع الناس وغيره، فكل ذلك من المحرمات التي رتَّب عليها الشارع عقوبات في الدنيا والآخرة.
- السعي الجاد لطلب الرزق مطلوب شرعًا: قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15]، ولكن ينبغي ألا يكون هذا السعي محمومًا يعطِّل معه الكثير من الفرائض والواجبات الشرعية؛ كتأخير الصلاة عن وقتها.
- الإنفاق للمال قصدًا وعدلًا من غير إسراف ولا تقتير: قال تعالى في وصف عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67]. يقول ابن كثير رحمه الله: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصرون فلا يكفونهم، بل عدلًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها.
- الرّزق من عند الله وحده: وقد اختص الله- سبحانه وتعالى- بأمر الرّزق وتيسيره، فالأرْزاق كلها بيد الله وحده، فهو خالق الأرزاق، وموصلها إلى خلقه، وخالق أسباب التمتع بها؛ فالواجب نسبتها إليه وحده وشكره عليها فهو مولاها وواهبها. قال تعالى: (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت: 17].
- الرزق مقسوم محتوم: لأنّ الله تعالى تكفل به، فهو يرزق جميع خلقه القوي منهم والضعيف، فلكلٍّ رزقَه لا يسلبه أحدٌ أو ينازعه إياه؛ لأن الله كفّله، فرزق الله لا يستطيع أن يمنعه ولا يرده أحد، وإذا أرادك الله برَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا. قال تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) [الذاريات: 22 و23].
- قضية الرزق مرتبطة بالخلق: فما دام هناك خلق فلا بد له من رزق، والله تعالى لم يخلق خلقا دون أن يجعل له رزقا، قل أو كثر، وأرزاق الخلق على الخالق وحده، قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود: 6].
- الرزق يبارك فيه بالطاعة ويمحق بالمعصية: فارتكاب الذنوب والآثام من أهم أسباب قلة الرزق، والمعصية تمحق بركة الرّزق، لأن ما عند الله تعالى لا ينال إلا بطاعته؛ قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].
- الرزق ليس بالقوة العضلية ولا [بالشطارة]: فالذكاء والحنكة والهم والحرص لن يزيد في الرّزق، والغِنَى غير آتٍ بذكاء الأذكياء، أو سعة عقول العقلاء؛ فكم من صاحب ذكاء كبير يرافقه الفقر والحاجة، وكم من جاهل غير فطن يتقلب بين أحضان الغنى والترف.
- تأخر الرزق والقلق عليه من الشيطان: قال الله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ)، فهو يقيم لك هذا الهاجس دائمًا منصوبًا أمامك في ذهنك حتى يجعلك تحزن، وربما يفوت عليك بالاكتئاب فرصًا للرزق، فتنبه.
- الرزق ليس مرتبطًا بالإيمان والكفر: فالله تعالى يرزق الكافر ويرزق المؤمن، يرزق جميع الناس من أهل الإيمان، وأهل الضلال. وقد يزيد أهل الضلال والجهل في الرزق، ويوسع عليهم في الدنيا، ويضيق على أهل الإيمان والصلاح. قال الله تعالى: (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 33-35].
- كثرة الرزق لا تدل على محبة الله: قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الزمر: 52]، وبعض الناس لا يعرف هذه الحكمة؛ فيظن إغناءه محبة ونعمة، وفقره كراهية ونقمة.
- الإكثار من الرّزق والمال ليس حراما: فلا عيب في طلب الرّزق في الدنيا، بل قرنه الله بالجهاد في سبيله، قال تعالى: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [المزمل: 20].
- الرزق مادي ومعنوي: حيث ينظر كثير من الناس إلى الرّزق من ناحية واحدة، فهو عندهم المال، والحقيقة أنه ليس المال فقط، بل كُلّ شيء ينتفع به فهو رِزْقك. وفالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان ومحبة الله وخشيته ورجائه، ونحو ذلك: فلا يعطيها إلا من يحب”.
هذه أبرز المضامين التربوية في قضية الرزق التي تشغل بال كثير من المسلمين، وبالطبع فإن تدربها والعمل بها والاعتقاد الجازم بحقيقتها يريح قلب المسلم ويزيل عنه توتر الانشغال بالكسب على حساب أداء العبادات والتقرب من الله سبحانه وتعالى.
مصادر ومراجع:
- إسلام أونلاين: معنى الرزق.
- ابن القيم: الوابل الصيب، ص 17.
- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 9/342.
- ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 3/336.
- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/86.
- الفيروزآبادي: بصائر ذوي التمييز 3/318.
- ابن حبان البستي: روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص 153و154.
- ابن تيمية: الفتاوى الكبرى 1/106.
- السعدي: تيسير الكريم الرحمن، ص 156.
- السيوطي: الدر المنثور 4/58.
- القاسمي: محاسن التأويل 4/297.
- الشوكاني: نيل الأوطار 7/274.
- يوسف القرضاوي: مفاتيح الرزق.
- عبد الكريم زيدان: السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد، ص 264.