على الرغم من أن بطل قصة نملة سليمان كائن صغير، لكنها حظيت باهتمام علماء المسلمين والباحثين، فاستخلصوا منها العديد من الدروس التربوية، وأبرزها القيام بالعمل على أكمل وجه وإتقان، والانتباه واليقظة والالتزام بقواعد العمل، وإبراز المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، وتقسيم العمل واتباع النظام، وإدارة الأزمات بوعي واهتمام، والشعور بالمسؤولية، وغيرها من الدروس.
مختصر قصة نملة سليمان
وتبدأ قصة نملة سليمان عندما تحرك هذا النبي الكريم بجيشه الذي كان يتكون من الإنس والجن، بالإضافة إلى الحيوانات والطيور التي كانت تحمي الرؤوس من وهيج الشمس، إلى وادي النمل، وهناك سمع صوت نملة تقول: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [النمل 18].
يقول السعدي: فنصحت هذه النملة وأسمعت النمل إما بنفسها ويكون الله قد أعطى النمل أسماعا خارقة للعادة، لأنّ التنبيه للنمل الذي قد ملأ الوادي بصوت نملة واحدة من أعجب العجائب. وإما بأنها أخبرت من حولها من النمل ثم سرى الخبر من بعضهن لبعض حتى بلغ الجميع وأمرتهن بالحذر، والطريق في ذلك وهو دخول مساكنهن.
وبعد أن سمع سيدنا سليمان النملة وهي تُحذّر أهلها من الخطر وطلبت منهم دخول مساكنهم خوفًا من أن يجري تدميرهم، {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} إعجابا منه بفصاحتها، ونصحها وحسن تعبيرها، وهذا حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدب الكامل، والتعجب في موضعه وأن لا يبلغ بهم الضحك إلا إلى التبسم، كما كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- جل ضحكه التبسم.
ثمّ غيّر سليمان- عليه السلام- مسار جيشه، وغيّر طريقه بعيدًا عن بيوت النمل، وبعد ذلك قال شاكرا لله الذي أوصله إلى هذه الحال: (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) أي: ألهمني ووفقني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} فإن النعمة على الوالدين نعمة على الولد.
وسأل ربه التوفيق للقيام بشكر نعمته الدينية والدنيوية عليه وعلى والديه، {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} أي: ووفقني أن أعمل صالحا ترضاه لكونه موافقا لأمرك مخلصا فيه سالما من المفسدات والمنقصات، {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ} التي منها الجنة {فِي} جملة {عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} فإن الرحمة مجعولة للصالحين على اختلاف درجاتهم ومنازلهم.
واختص الله تعالى تلك القصة بمكانة عظيمة في كتابه الكريم حتى إن السورة سُميّت باسم النمل تكريمًا، وفي الوقت نفسه تعليما للناس بأهمية الجماعة ودور الفرد فيها، وكيف أنّ تلك النملة الصغيرة الحجم لم تهرب حينما رأت الجيش الغفير لتنجو بنفسها بل إنها وقفت وأمرت أهلها أن يتوجهوا إلى جحورهم خوفًا عليهم من الهلاك دهسًا تحت أرجل جيش سليمان عليه السلام، فكانت رمزًا للإيجابية في ذلك الموقف، وليتعلم منها البشر عند إحساسهم بالخطر، حيث لم تهرب لتنجو بنفسها من الهلاك بل حذّرت إخوانها من الهلاك القادم.
دروس تربوية من قصة نملة سليمان
وتتضمن قصة نملة سليمان على العديد من الدروس التربوية، منها:
- قراءة الميدان وفهم الواقع: ويتجسد ذلك في رؤية النملة التي رصدت دخول سليمان- عليه السلام- وجنوده إلى واديهم (حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوْاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ)، مع ملاحظة أن الرصد كان في منطقة بعيدة نسبيّا عن مساكن النمل وتجمعاته الكبيرة ما يعطي مؤشرًا على القدرة العالية على استقراء الظروف المحيطة.
- القراءة الاستباقية: فلقد استطاعت النملة أن تتصور السيناريو الذي سيحدث إذا لم تبادر بإنذار قومها وبقوا على حالهم، حيث سيحطمهم سليمان- عليه السلام وجنوده- وهذا هو الفيصل في عالم القيادة بين قائد مبادر لصناعة المستقبل وقائد سلبي يكتفي بردّات الفعل المتأخرة.
- اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح: فقد كان قرار النملة سريعا وصحيحا بأمر النمل بالدخول في المساكن، ولم تتخذ على سبيل المثال قرارًا بتشكيل قوات للقتال ضد الجيش أو طلب مفاوضات مع سليمان عليه السلام لتغيير مسار الجيش وهو ما قد يأتي بنتيجة متأخرة على حساب حياة الكثير من النمل.
- سرعة إيصال المعلومة: فلم تكتفِ النملة بالرصد، بل أسرعت لتُحذّر أهلها في قلب الوادي من الخطر الداهم، وهو إجراء إذا تحقق في أي ميدان صنع الفارق في الحل وتأهب صانع القرار مع الجماهير لأخذ الحذر، والاستعداد لملاقاة القادم.
- التواصل الفعال: وهو ما نتعلمه من قول النملة: (يَا أَيُّهَا النّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ)، ونتعلم من ذلك أن أي إدارة لا يمكنها أن تحقق النجاح وهي متقوقعة على نفسها ولا تتواصل مع فريق عملها والجمهور، ولكي ينجح التواصل فلا بد من تعليمات واضحة، لا صعوبة فيها.
- الأدب ولغة الاحترام: فلم تتهم النملة سليمان- عليه السلام- وجنوده بأنهم معتدون أو مدمرون بل كانت في قمة الأدب وهي تلتمس العذر بقولها: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ). وهكذا القائد الناجح الذي يكون راقيًا في حديثه في مختلف المواقف.
- عدم التباهي: فلم تحرص النملة على أن تتباهى أمام سليمان- عليه السلام- أو تظهر له حرصها على بني قومها، بل كانت تركز على إنجاز مهمتها بكل اقتدار، وهو ما اطلع عليه سليمان عليه السلام وتبسم ضاحكا من صنيعها.
- العزيمة الماضية: وإذا كانت الهمة إعداد العدة، ووضع الخطة، والأخذ بأسباب النجاح لأداء مهمة معينة؛ فإن العزيمة يقصد بها شدة المضاء، وعدم التردد عند التنفيذ لأي سبب من الأسباب المقعدة عن العمل (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين) [آل عمران: 159].
- التضحية: فالنملة باعتبارها أحد أفراد جنسها المكلفين فيما يبدو بأداء مهمة معينة، أقرب ما تكون إلى الاستطلاع أو الإنذار المبكر، وقد أبدت أعلى درجات التضحية في سبيل قومها؛ حينما سارعت بكل ما تملك من قوة ضعيفة أمام سليمان وجنوده لتنذر قومها قبل أن يدهمهم، منادية عليهم ومرسلة بإشارات ورسائل لهم، وسليمان- لحسن حظها يسمعها- وكان بوسعها أن تنتحي جانبًا، ولا تفكر إلا في إنقاذ نفسها، مبررة ذلك بأنها إذا سارت لإخبار قومها في خط سير الجيش نفسه؛ فإما أن يدهمها، وإما أن يصل قبلها ولا تتمكن من الإبلاغ في الوقت المناسب على أية حال.
- النظام وتقسيم العمل: وكلنا يعرف إلى أي درجة يتميز النمل بالنظام والترتيب وحُسن التدبير، بل والتخطيط للمستقبل، وفي هذا الموقف نستنتج كم هناك من نظام وتقسيم للعمل والمهام والمسئوليات، فكأن هذه النملة منوط بها أمر معين؛ وهو مهمة الحراسة والاستطلاع من بعد للإنذار والتنبيه ضد أي مخاطر قبل وقوعها بوقت كافٍ، فهذه النملة كما ذكر في القرآن مجرد نملة “قالت نملة”، فتؤدي مهمة كغيرها.
- إدارة الأزمات: وهذا الدرس من الدروس المهمة في إدارة الأزمات والكوارث؛ حيث يعد أهم مبدأ في إدارة أي أزمة هو تجنب حدوثها من الأصل، ولا يمكن ذلك إلا من خلال سيناريو متوقع للاحتمال الأسوأ، بإثارة سؤال ماذا لو حدث الأسوأ؟ والأسوأ هنا، هو قدوم مجموعة كبيرة من البشر تسير في اتجاه مملكة النمل دون قصد في هدمها، وتحطم كل ما فيها ومن فيها، وهذا يمثل كارثة بكل المقاييس بالنسبة لهم، ومن ثم كان لا بُد من العمل على تقليل احتمال وقوع مثل هذا الأمر، وتقليل الخسائر المترتبة عليه إن وقع قدر الإمكان، والأفضل في هذه الحالة، هو أن يتم العمل على محور الاحتمال، وذلك بإنشاء محطات للإنذار المبكر وقراءة نذر الأزمة.
- إتقان الأداء: وهذا هو ما نستشفه من موقف النملة التي أدت دورها المنوط بها على خير وجه ممكن، وهو ما أدى إلى تحقيق الهدف بكفاءة وفعالية، حيث أنذرت قومها وأنقذتهم من كارثة محققة لولا ما قامت به بإخلاص وإتقان.
- اليقظة والانتباه والالتزام: لأنّ الخلل من قِبل فرد أو بضعة أفراد لا يعود بالضرر عليهم وحدهم فقط، وإنما يعود بالضرر والخسران على الجميع، ولقد كان في موقف بعض الرماة يوم أحد أعظم دليل على هذا الدرس في اليقظة والانتباه والالتزام التام.
- الهمة والإرادة العالية: فمن وراء تصرف النملة وإخلاصها وإصرارها والتزامها همة عالية، وإلا لكان التسليم والقعود والكسل لأي سبب مهما كان تافهًا.
- الشعور بالمسؤولية: وما كان لكل ما سبق أن يحدث دون وجود درجة عالية من الإحساس بالمسؤولية التي تستشعرها نملة، ربما في أسفل الهرم التنظيمي من عموم النمل، وكأنها المسؤول الأول عن قومها، ومثل هذا الشعور والإحساس العام بالمسؤولية في جميع أرجاء أي تنظيم من أعلاه إلى أدناه، هو أقصى ما تطمح وتحلم أي إدارة بتحقيقه في أية منظمة تديرها.
بالرغم من قِصَر قصة نملة سليمان التي وردت في نحو ثلاث آيات من سورة النمل، فإنها تتضمن دورسًا تربوية متعددة أبرزها، التدبير والحرص على السلامة، والتضحية والفداء، والتسامح والرحمة، وعظمة الله وقدرته، والعزيمة وعدم التباهي، والهمة العالية، وإتقان العمل، وتحمل المسؤولية، وغير ذلك من دورس.
مصادر ومراجع:
- ابتسام مهران: قصة سليمان مع النمل.. وفوائدها والدروس والعبر.
- عادل مناع: علمتني نملة.
- عصام بخاري: دروس قيادية من نملة سليمان عليه السلام.
- عمر عبد الكافي: كتاب الدار الآخرة، 14/22.
- د. محمد المحمدي الماضي: دروس من قصة نملة.
- السعدي: تيسير الكريم الرحمن، ص 502.