اتَّفق كثير من علماء التربية على أنَّ الأسلوب القصصي من أفضل الوسائل لتربية الأطفال على القيم الدينيَّة والخُلقيَّة، وأنّ قصة موسى والخضر في سورة الكهف مادة ثرية ومليئة بالقيم الإنسانية والتربوية التي تتجسد في المحبة والصبر والصدق والعفاف والإخلاص وحسن التعامل والحوار البنّاء.
ويرى الدكتور العربي عطاء الله قويدري، أنّ القصة تُثير الانفعالات وتُؤثر في المتلقّين تأثيرًا يرتفع بقدر ما تكون طريقة الأداء الفنية بليغة ومُؤثرة، وبقدر ما تكون المواقف داخلها (إنسانية) عامة لا مواقف فردية ذاتية.. لذا، فقد تناول القرآن الكريم أسلوب القصة لهدف التربية الروحية والعقلية والجسمية بالقدوة والموعظة الحسنة.
وقفات تربوية قرآنية في قصة موسى والخضر
وتشمل قصة موسى والخضر في سورة الكهف، على وقفات تربوية قرآنية عظيمة، يمكن الاستفادة منها في غرس العديد من الأخلاق والقيم الإنسانية في نفوس الأطفال والشباب والكبار، ومنها:
- السعي إلى العلم: على التلميذ أن يسعى إلى العلم، لا أن يسعى المُعلم إليه؛ فهذا أكرم للعلم والمعلم والمتعلم.
- الإصرار على لقاء المعلم: فقد أصر سيدنا موسى- عليه السلام- على لقاء المعلم والنهل من علمه في قوله: {لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبَا} (الكهف: 60).
- مصاحبة الكبير والصغير: هذه الصحبة لها فائدة كبيرة، فالأول يشرف على تربيته ويعلمه الحياة، ويصوب أخطاءه ويسدد خطأه، والثاني يخدمه ويعينه على قضاء حوائجه، وقد أفلح موسى في تربية الفتى (يوشع بن نون)- عليه السلام- إذ بعثه الله تعالى نبيًّا فقاد مسيرة المؤمنين وحمل لواء الدعوة بعد أستاذه وفتح الله على يديه القدس الشريف.
- عدم الوقوف عند الخطأ: حين علم موسى- عليه السلام- بخطئه وخطأ فتاه لم يشغل نفسه بلوم نفسه أو لوم فتاه، ولكن علم أن هناك أمرًا أهم من هذا عليهما تداركه قبل فواته، إنه لقاء الرجل المعلم؛ فعادا سريعا ولم يضيعا الوقت.
- التلطف في طلب العلم: لم يفرض موسى- عليه السلام- نفسه على الخضر- عليه السلام- على الرغم أنّ الله تعالى أخبر الخضر بلقائه ليتعلم منه، إنما تلطف في عرضه بصيغة الاستفهام التي تترك مجالًا للمسؤول أن يتنصل إن أراد.
- تعليم الرجل الصالح: لقد علّم الله تعالى الخضر علمًا نفيسًا كان سيدنا موسى- عليه السلام- يُريد بعضه، وهذا العلم الذي طلبه هو الهدى والرشاد الذي يبلغه المقام الأعلى في الدنيا والآخرة، وقد حدّد نوع العلم، فقال: {… مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}.
- عدم الاستعجال في السؤال: قد يشترط المعلم على تلميذه ألا يستعجل في السؤال عن أمر من الأمور إلى أن يحين الوقت المناسب، قال تعالى: {قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسَۡٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا}.
- الإنسان خُلِقَ من عجل: فقد اتفق النبيان في صحبتهما على أن يرى موسى- عليه السلام- ما يجري دون أن يتدخل مستنكرًا أو معلقًا على ما يراه إلى أن يرى الأستاذ رأيه في توضيح بعض الأمور، لكن التلميذ تعجّل فقال في الأولى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}، وشدد النكير في الثانية حين قال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}، وقال في الثالثة معترضًا ومقترحًا: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}، ونبهه أستاذه في الثلاث، ولم يتركه بجهل أسباب الحوادث فأخبره بها.
- إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى: أوصني، قال: كن بسامًا ولا تكن ضحاكًا، ودع اللجاجة ولا تمشِ في غير حاجة، ولا تعب على الخطائين خطاياهم، وابكِ على خطيئتك يا بن عمران.
- صلاح الآباء يُرى في الأبناء: فقد حفظ الله تعالى الولدين بصلاح أبيهما: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا}، فأمر الخضر- عليه السلام- أن يرفعه إلى أن يَكبرا فلا يأخذ الكنز أحد وهما صغيران؛ ويظل بعيدًا عن أعين الآخرين حتى يشتد عودهما فيكون لهما.
أساسيات في العلم والتعلم من قصة موسى والخضر
إن المتدبر لقَصص القرآن يجد فيها لا محالة دروسًا وعبرًا يَستنير بها في حياته، ويجعلها نبراسًا يُضيء له الطريق، ويوضِّح له المسلك الصحيح والنهج السوي الذي يسلُكه حتى يفلح وينجح في سيره بإذن الله تعالى.
ويرى الباحث عبد المجيد هلال، عدة وقفات مع قصة موسى والخضر في سورة الكهف؛ يُمكن استجلاء بعض المسائل التربوية والقضايا التعليمية الواردة فيها، ومنها:
- وضع برنامج للعمل: فالتخطيط لأي عمل من أهم ركائز نجاحه، ويمكن استجلاء هذا المعنى من قوله تعالى على لسان موسى- عليه السلام-: ﴿لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ [الكهف: 60].
- الهمة العالية: فهي من أسمى المعينات في الطلب، كما أنها المحفز والدافع لأي شغل يراد القيام به، فلا يراك الناس واقفًا إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطًا يديك إلا لمهمات الأمور، ويمكن استنباط هذا المعنى من قوله تعالى: ﴿لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ [الكهف: 60].
- نسبة العلم لله تعالى والتزام التواضع: فالمرء مهما كثر علمه فهو قليل، ولا يدعي الإحاطة بالعلم إلا فاقده، أو الذي لا يدري ما يخرج من فيه، وقد ورد في قصة موسى- عليه السلام- مع الخضر الإشارة إلى هذه المسألة عند قوله تعالى: ﴿آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف: 62].
- التأدب مع الشيوخ: وهو من الأخلاق التي يلزم على طالب العلم التحلي بها، وقد جاء هذا المعنى على لسان موسى- عليه السلام- في قوله تعالى: ﴿وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ [الكهف: 69].
- الصبر على مصائب الطريق ومشاقه: فهو مفتاح لكل الصعاب والعقبات، ولا شك أن طلب العلم محفوف بكثير من الأحمال والمشاق التي لا تقطع إلا به، ثم إنه متى كان الشيء عظيمًا، كان الوصول إليه أعظمَ، ولهذا قال موسى للخضر لما لقيه: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ﴾ [الكهف: 69].
- صبر الشيخ على أخطاء الطالب: لا شك أن الشيخ بمنزلة الأب للطالب، فيصبر عليه إذا أخطأ، ويأخذه باللين والرفق؛ حتى يكون ثمرةً له وأثرًا من الآثار النافعة لتعليمه، ما لم يبالغ الطالب في سوء خلقه.
- الحرص على الرفيق المعين أثناء الطلب: فإن الرفقة الصالحة عون للمرء على الصعاب، ومحفز على الإقدام وعدم التهاون أو التقاعس، وقد وردت هذه الرفقة في قصة موسى عليه السلام لما صاحبه غلامُه يوشع بن نون في طريقه؛ ليكون له معينًا ومساعدًا في رحلته العلمية.
- الترويحُ على النفس: قال ابن الجوزي- رحمه الله-: “لا ينبغي للإنسان أن يحمل على بدنه ما لا يطيق، فإن البدن كالراحلة إن لم يرفق بها لم تصل بالراكب”، ويمكن استخراج هذا المعنى من قول موسى- عليه السلام- لفتاه: ﴿آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا﴾ [الكهف: 62].
- تحصين النفس من المعيقات: لا ريب أن الطالب تعترضه في مسيره عقبات وهموم وخطرات سلبية، فينبغي أن يكون حذرًا متيقظًا مستعينًا بالله تعالى، ذاكرًا له معتمدًا عليه، متبرئًا من حوله وقوته، ويمكن لمْحُ هذا المعنى من قوله تعالى على لسان فتى موسى: ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف: 63].
- العمل بالعلم: فإن حقيقةَ العلم العملُ، ولا يزال العالم جاهلًا حتى يعمل بعلمه، فإن المرء لا ينجو يوم القيامة إلا بعمله؛ وقد ورد هذا المعنى في قصة موسى حين قال للخضر: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكهف: 66].
إن قصة موسى والخضر في سورة الكهف- من روائع القصص بما احتوته من غرائب الأخبار، وعجائب الأمور، وقد بَرَزَ فيها جليًّا علم الله المُسبق للحوادث، فهو يُحيط بكل شيء علما، وتجلت فيها قدرته- سبحانه تعالى- من أولها لآخرها، لتكون تسلية وتعليما لموسى، ومُعجزة للخضر.
وقد جاءت القصة في أوثق المصادر، وهو القرآن الكريم، حتى لا يتطرق إليها شك، ولا يدخل فيها ريب، هذا إضافة إلى وُرُود تفاصيلها في صحيح السُّنة النبوية، ليستفيد منها الناس باستخلاص الدُّروس التربوية والقيم الأخلاقية.
المصادر والمراجع
- ابن الجوزي: صيد الخاطر، 1/458.
- .
- .
- .