ذكر الله- عز وجل- قصة طالوت وجالوت في نحو سبع آيات متتالية من سورة البقرة، وهي تحكي عن الصراع بين الخير والشر، والإيمان والكفر، حيث اختار الله سبحانه طالوت ملكًا ليقود بني إسرائيل بعد هزيمتهم وتفرّقهم وضياع مقدّساتهم، وآتاه الله قوة وبسطة في العلم والجسم، وجعل علامة ملكه استرداد التابوت المقدس.
ولما خاض طالوت مع جنوده معركة في مواجهة جبهة الطغيان بقيادة جالوت، أثبِتَ أنّ التربية الإيمانية ينبغي أن تسبق التعبئة الجهادية، وأنه بالفئة المؤمنة الصابرة- ولو قلَّت- يكون النصر والتمكين على الأعداء.
مختصر قصة طالوت وجالوت
وتبدأ قصة طالوت وجالوت عندما سُلِب من بني إسرائيل التابوت الذي فيه سكينة من الله وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، فشعر القوم بالذل ومرارة الهزيمة والهوان، فأرادوا أن يُغيّروا واقعهم الذليل وأن يبدلوا هزيمتهم نصرا، وعلموا أن السبيل الوحيد لذلك هو الجهاد في سبيل الله.
ولما استيقظت العقيدة في نفوس وُجهائهم، طلبوا من نبيهم قتال الأعداء وهم من العماليق، (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [البقرة:246]، ولما كان نبيهم يعرف طبيعتهم المائعة، وهمتهم الرخوة، أكد على رغبتهم في القتال: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) [البقرة:246].
ولما تأكد نبيهم من حماستهم، واندفاعهم، جاء الوحي من الله تعالى بأن الملك الذي عينه الله لقيادتهم في الجهاد هو طالوت، وأنه هو الذي سيقودهم إلى النصر والعزة وتحرير أرضهم من المغتصبين.
لكن هؤلاء القوم لم يتخلصوا من حب الدنيا أبدًا، وفي أول اختبار بمجرد أن أعلمهم باسم الملك الذي سيقودهم قالوا: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) [البقرة:247]. وهذا الاعتراض كان دليلًا على تلكؤ القوم في تنفيذ الأوامر.
تعجب النبي لموقف القوم الذين كانوا يريدون ملكًا يقاتلون وراءه، وبيّن لهم المواصفات التي تؤهله للملك، وأنه أنسب الناس حسب الميزان الرباني: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ) وَالْجِسْمِ).
وأراد نبيهم أن يبين لهم آية وعلامة على صحة تولي هذا الملك عليهم فقال لهم: (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) [البقرة:248] وفي هذا التابوت أشياء مادية ورثوها عن آل موسى وآل هارون.
وافق القوم مُكرهين على تملك طالوت الذي عبّأ قومه للقتال وجهزهم لمحاربة الأعداء، ولمّا خرج بهم إلى المعركة الفاصلة أراد أن يختبر حماستهم وطاعتهم، فقال: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) [البقرة:249] فعندما تمرون عليه لا تشربوا منه، فمن خالف أمري فليذهب عني وليس من جيشي ولا يتبعني؛ وأراد أن يجعل فسحة في الأمر لأن في القوم عطشى قال: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ).
ولما وصلوا النهر عصوا طالوت وشربوا منه إلا قليلًا منهم التزموا الأمر وأطاعُوه، فترك طالوت جموع العصاة المخالفين وسَار بالقلّة الباقية المطيعة حتى وصل بهم إلى أرض المعركة، فلما نظر جنوده إلى جنود الأعداء خافوا قتالهم، وجَبنوا عن مُواجهتم، وكان أعداؤهم الكفار بقيادة جالوت الكافر، وكانوا أكثر عددًا منهم، فهنا حصل امتحان آخر قبل أن تنشب المعركة وهي أن بعضهم قالوا: (لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) [البقرة:249] وهم الأكثرية.
وللمرة الثانية بقي مع طالوت القليل وهم الذين يظنون أنهم ملاقو الله، فدخلوا المعركة مؤمنين بالله، صابرين على بلواه، وبدأت المعركة، فطلبوا النصر من الله واستغاثوا به وتضرعوا إليه وقالوا: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة:250] وحقق الله وعده، وأنزل نصره، فهزموهم بإذن الله.
وفي المعركة، برز داود- عليه السلام- ولم يكن نبيًا ولا ملكًا وقت ذاك، برز بقوته وشجاعته وقتل جالوت وآل إليه الأمر بعد طالوت، ومنّ الله على داود بالمُلك والحكمة، وعلمه ممّا يشاء.
دروس تربوية من قصة طالوت وجالوت
ومن خلال قراءتنا لقصة طالوت وجالوت نجد أنها مليئة بالدروس التربوية والإيمانية، من أبرزها:
- القيادة مهمة للنصر : لقد اجتمع أهل الكلمة والحل والعقد من بني إسرائيل وبحثوا في الطريق الذي تستقيم به أمورهم وفهمه، حيث راجعوا نبيهم في تعيين ملك تجتمع به كلمتهم ويلم متفرقهم، وتحصل له الطاعة منهم.
- الاتكال على النفس سبب الفشل والخذلان: قال بنو إسرائيل لنبيهم: (وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) فكأنه نتيجة ذلك أنه لما كتب عليهم القتال تولوا.
- الاستعانة بالله والصبر والالتجاء إليه سبب النصر: قال سبحانه: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ).
- الثبات على الحق بوابة النصر: فالحَماسة لنصرة دين الله يجب ألا تنطفئ، ولا للقوة والعزيمة أن تخبو وتتهاوى، فالطريق كله امتحان وتمحيص، ولن يثبت ويفوز في النهاية إلا ثلةٌ قليلةٌ كأصحاب طالوت الذين حقق الله على أيديهم النصر والعز والتمكين بعد الذل والمهانة والتشريد الطويل، ولقد جاءت لهم بملك داود ثم ملك سليمان، وهذه أعلى قمةٍ وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض وهي عهدهم الذهبي الذي لم يبلغوه قبلُ في عهد النبوة الكبرى، وكان هذا كله ثمرة انتفاضة العقيدة من تحت الركام، وثبات حفنةٍ قليلةٍ عليها أمام جحافل جالوت.
- لا للعصبية الضيقة: اختار الله لبني إسرائيل طالوت ملِكا، قيل إنه كان “سقاءً” وقيل “دباغًا”، فقَالوا: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) [البقرة: 247]. فجاءهم الجواب على اعتراضهم من نبيهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ}، إنه اختيار الله، وهو أعلم بالمصالح منكم، وعمدة الاختيار أمران، لا جاه فيهما ولا مال، ولا قبليةٌ ولا فصائلية، ولا صيت ولا عشائرية.
- تمحيصٌ جديد: علم طالوت أنه سيواجه جيشا جرارا، يفوقهم عدَّةً، ويكثُرُهم عددًا، فيه رجالٌ أشداء أقوياء، وعلم طالوت- أيضًا- أن جيشه من أمةٍ مغلوبةٍ عرفت الهزيمة والذلَّ تاريخًا طويلًا، فلا بدَّ إذا من قوةٍ كامنةٍ في ضمير هذا الجيش حتى تصمد أمام قوة جيش جالوت، وهذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمان والمشاقّ، وتستعلي على الضرورات والحاجات، وتؤثرُ الطاعة وتكاليفها، وتجتاز الاختبار بعد الاختبار، فخرج بجيشه وكانوا ثمانين ألفًا، فاختبرهم وقال لهم: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}، وهو نهر الشريعة بين الأردن وفلسطين كما قال ابن عباس، {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي}، أي فلا يصحبني، {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}، أي فلا بأس عليه، وهنا يتنقى الصفُّ من جديد ويخرج منه آلاف مؤلفة انقلبوا على أعقابهم، فتخلص الجيش العرمرم من المنافقين والمخذلين والمنهزمين ليصبح أعدادً قليلة ستواجه اختبارا آخر.
- تمحيصٌ أخيرٌ: بعد التمحيص الذي كان، أتبعه الله بتمحيصٍ آخر حتى يتنقى الصفُّ بالكامل، ولا يكون فيه إلا مَن كان أهلًا للنصر، فلمّا خرجوا إلى الساحة، واستشرفوا للقتال لمحوا من أعدائهم رجالًا أشداء، وجالوتُ شجاعُهم وكبشُ كتيبتهم يصول بينهم ويجول، فانقسم أصحاب طالوت شعبتين: منهم من خار عودهم وانخلع فؤادُهم، وتخاذلت قوتهم، وقالوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة: 249]. وشعبة ظلت صابرة صامدة: هم الذين عمرَ قلبَهم الإيمانُ، وأُشرِبوا في قلوبهم حبَّ الله: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
- الله رحيم: فمن رحمته وسننه الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين، وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكفر وشعائره عليها.
- الإيمان قرين النصر: فالنصر لا يأتي مع كثرة العدد بل يأتي مع مقدار الاتصال بالله تعالى ومع مقدار الإيمان والتقوى الذي في القلوب.
- طاعة القائد من أسباب النصر: فمن الضروري عدم التذمر من قبول الأوامر القيادية، والسمع والطاعة لأوامر القيادة ما لم تكن في معصية الله سبحانه حتى يتحقق النصر على الأعداء.
- الحكمة والعلم والقوة من صفات القائد: ولا يمكن للقوة وحدها أن تحسم المعارك، فدائمًا يتقدم العقل على الجسم.
- المال ليس مقياسا للتقييم: فها هو طالوت لم يؤتَ سعة من المال، ومع جعله الله سببًا في النصر على الأعداء الذين أذلوا بني إسرائيل سنوات طوال.
- النصر ليس بالعدد: فالذين ثبتوا مع طالوت فئة قليلة جدا مقارنة بجيش جالوت، ومع ذلك حققوا النصر المبين.
- معرفة مداخل الشيطان إلى النفس البشرية: وهي تتمثل في المال، الطعام، الشهوة، الكسل، الشهرة، الخوف، الظهور، التكبر.
- الدعاء ينقذ من المهالك: وبخاصة أثناء الأزمات، ومن المهم الدعاء بالهداية للذين سقطوا، ومن ثم الاتصال بهم.
- عدم الاستسلام للأعداء: لأن ذلك يضيع الحقوق ويورث الذل والمهانة طوال الدهر.
- الشدائد اختبار لقوة الإيمان: فبعض المؤمنين تفور حماستهم للدين في الرخاء، فإذا جاء الصدق والأمر الصارم بالتمسك بالدين، والعمل الجاد للتمكين تولوا إلا قليلاً منهم.
- الأخذ من شهوات الدنيا بقدر الحاجة: (إِلّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)، فيجب الحذر من الإسراف والتبذير.
- القائد المحنك لا يهزه تخلّف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى، بل عليه أن يمضي في طريقه، وإعداد جيشه مهما قل عدده، وكثر عدد جيش عدوه.
- دراسة السنن الإلهية في الكون، ومعرفة ودراسة قانون التدافع بين الحق والباطل.
إن قصة طالوت وجالوت من القصص التي تُحفّز الناس على الإيمان بالله- سبحانه وتعالى- والاعتماد عليه في الشدائد، وتعلمنا أن الإيمان بالحق أقوى من أي قوة ظاهرة، وأن الله ينصر عباده المخلصين.
مصادر ومراجع:
- محمد على الصابوني: مختصر تفسير ابن كثير 1/411.
- طارق سويدان: طالوت وجالوت معركة بين الحق والباطل.
- أبو الهيثم محمد درويش: قصة طالوت وجالوت وملك داوود.
- سامي الهاسنياني: تأملات في قصة طالوت وجالوت.
- وجدان فايز: قصة طالوت وجالوت.