ذكر الله- سبحانه وتعالى- قصة أصحاب السبت في القرآن الكريم، لتكون موعظة وعبرة للمؤمنين، وقد وقعت أحداثها في قرية على ساحلِ البحرِ، وتَعَدَّدتْ أقوالُ المفسرين في اسمِ القريةِ ومكانِها، أَمَّا القرآنُ فَلَمْ يَذْكُرْ اِسْمَهَا ولم يُحدِّدْ مكانَها، لكنه قَصَدَ إلى أَخْذِ العِبْرَةِ منها.
وجاء سياق هذه القصة في القرآن الكريم بعد أن زعمت مجموعة من اليهود في زمن النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- بأنَّ بَنِي إسرائيلَ لمْ يَكُنْ فِيْهم عِصْيانٌ وَلَا مُعَاندةٌ لما أُمِرُوا به، فَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ حالِ أَهْلِ هذه القرية مع أَوَامِرِ اللهِ- تعالى- لهم، وتتوالى أحداث ووقائع تلك القصة مُخلّفة الكثير من العبر والدروس التربوية.
من أصحاب السبت؟
أفاد مفسرون بأنّ أصحاب السبت هُم مجموعة من بني إسرائيل كانوا يعيشون في قرية تُسمى “آيلة” على شاطئ البحر وهي بين المدينة والشام، وكان الله قد أمرهم أن يُخصّصوا يوم السبت للعبادة، وألا يعملوا فيه. وفي أحد الأيام، جاء بعضهم إلى البحر، ورأوا السمك يخرج من الماء في يوم السبت، فوضعوا المصائد والشباك في الماء، ثم ذهبوا وجاءوا يوم الأحد ليأخذوا السمك. فغضب الله عليهم، ومسخهم إلى قرود.
وذكر القرآن الكريم هذه القصة في قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163].
وقال تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [البقرة: 65]، وقال- جل وعلا-: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70].
وكان اليهود لا يعملون يوم السبت، وإنما يتفرغون فيه لعبادة الله. فقد فرض الله عليهم عدم الانشغال بأمور الدنيا في هذا اليوم بعد أن طلبوا منه سبحانه أن يخصص لهم يوما للراحة والعبادة، لا عمل فيه سوى التقرب لله بأنواع العبادة المختلفة.
وجَرَتْ سنّة الله في خلقه، وحان موعد الاختبار والابتلاء، اختبار لمدى صبرهم واتباعهم لشرع الله، وابتلاء يخرجون بعده أقوى عزمًا، وأشد إرادة، تتربى نفوسهم فيه على ترك الجشع والطمع، والصمود أمام المغريات.
لقد ابتلاهم الله- عز وجل-، بأن جعل الحيتان تأتي يوم السبت للساحل، وتتراءى لأهل القرية، بحيث يسهل صيدها، ثم تبتعد بقية أيام الأسبوع، فانهارت عزائم فرقة من القوم، واحتالوا الحيل– على شيمة اليهود- وبَدأوا بالصيد يوم السبت.
ورغم أنهم لم يصطادوا السمك مباشرة، لكنهم أقاموا الحواجز والحفر، فإذا قدمت الحيتان حاوطوها يوم السبت، ثم اصطادوها يوم الأحد، وكان هذا الاحتيال بمثابة صيد، وهو مُحرّم عليهم، وقدد شجَّعَ الفساقُ بحيلتهم تلك ضعافَ النفوسِ فصنعوا كصنيعهم، حتى انتشرت تلك الحيلة بين أهل القرية، وتجرَّأَ البعضُ فأعلنوا الصيدَ يوم السبت.
وفي هذه الأثناء، انقسم أهل القرية لثلاث فرق؛ فرقة عاصية تصطاد بالحيلة، وفرقة لا تعصي الله وتقف موقفا إيجابيا مما يحدث، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المكر، وتُحذّر المخالفين من غضب الله، وفرقة ثالثة سلبية لا تعصي الله لكنها لا تنهى عن المُنكر.
وكانت الفرقة الثالثة، تتجادل مع الفرقة الناهية عن المنكر وتقول لهم: ما فائدة نصحكم لهؤلاء العصاة؟ إنهم لن يتوفقوا عن احتيالهم، وسيصبهم من الله عذاب أليم بسبب أفعالهم، فلا نفع من تحذيرهم بعدما كتب الله عليهم الهلاك لانتهاكهم حرماته.
وبصرامة المؤمن الذي يعرف واجباته، كان النّاهون عن المكر يجيبون: إننا نقوم بواجبنا في الأمر بالمعروف وإنكار المنكر، لنرضي الله سبحانه، ولا تكون علينا حجة يوم القيامة، وربما تفيد هذه الكلمات، فيعودون إلى رشدهم، ويتركون عصيانهم.
بعدما استكبر العصاة المحتالون، ولم تجد كلمات المؤمنين نفعًا معهم، جاء أمر الله، وحلّ بالعصاة العذاب، وأنجى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. أما الفرقة الثالثة، التي لم تعصِ الله لكنها لم تنهِ عن المُنكر، فقد سكت النصّ القرآني عنها.
دروس وعبر من قصة أصحاب السبت
وفي قصة أصحاب السبت العديد من الدروس والعبر والرسائل التربوية أبرزها ما يلي:
- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما أمكن: ويكون ذلك باليد واللسان والقلب، فعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” (مسلم).
- اعتزال أهل البدع والمعاصي: ويكون ذلك بعد نصحهم قدر الطاقة والاستطاعة، فإن لم يستجيبوا فلا نشاركهم في المجالس حتى لا يصيبنا العذاب إن حل بهم، روى البخاري عن ابْنَ عُمَرَ- رضى الله عنهما-: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا، أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ”.
- الله يمهل ولا يهمل: وأن عذابه أليم، وأخذه شديد، فليحذر كل امرئ غضب الله، وليعلم أنه يعلم حاله ويرى مكانه، فاستحوا عباد الله من نظر الله إليكم لا يراكم على معصية فيغضب (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).
- عقوبة التحايل عظيمة: وهو أعظم من مجرد العصيان، لأنه استهانة بعظمة الله، واستهزاء وبحث عن حِيَلٍ للخروج من الطاعة واستحلال لِمَا حرّم الله تعالى.
- الحذر من المسالك التي يسلكها اليهودُ: مهما كانت حجتهم في ذلك قوية؛ إذ إنَّ الله- عزَّ وجلَّ- قد بيَّن خُبث نواياهم وتحايلهم على الشرعِ الحنيفِ في هذه القصةِ.
- الحذر من الوقوعِ في المعاصي والذنوبِ: والحذر من التحايل على الشرعِ الحنيفِ.
- ضرورة الاستسلامِ لأمرِ الله- عزَّ وجلَّ- وشرعه.
- ضرورة إدراكِ أنَّ الاستسلام لله ولكلِّ ما أمرَ وما نهى عنه سببٌ من أسبابِ الحصولِ على سعادة الدارينِ.
- يجب على الإنسان أن يعي أنه يوجد ارتباط وثيق بين طاعة الله ومعصيته من جهة، والكسب والرزق من جهة أخرى، فالذي يوسع عليه الله رزقه من الحرام، وييسر له طريقه للحرام إنما هذا اختبار منه- تبارك وتعالى- كي يرى اللهُ ماذا سيفعل.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أساس الدعوة إلى الله، والوقوف بجانب الحق ضد الظلم والباطل.
- الإعراضَ عن أمرِ الله- عزَّ وجلَّ- سببٌ من أسباب هلاكِ الأممِ وخسرانهم الخسرانَ المبينِ.
- الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ سبب من أسباب نجاةِ المسلمِ من الهلاكِ.
- من باع دينه بالدنيا فقد خاب وخسر.
- جدال أهل الباطلِ وإسكاتهم عن طريق إحراجهم إن كانوا من أصحاب التنطعِ جائزٌ في الشرعِ الحنيفِ، والدليل سبب نزول الآيات.
- في كل منكر يظهر، ويوجد من ينكر، تظهر طائفة ثالثة مثبِّطة، تهوِّن من شأن الإصلاح وإنكار المنكر، ولسان حالهم: لن تصلح الكون، دع الناس وشأنهم، فهذه الفئة صالحة في نفسها لكنها سلبية في الإصلاح والاحتساب.
- منهج القرآن الكريم يركز على العبرة من القصة والموعظة، ولا يهتم باسم القرية ولا أسماء أصْحاب السّبت.
- الساكت عن الحق شيطانًا أخرس، فلا فائدة من السكوت السلبي؛ لأنه سيدمر العاصي والساكت على السواء، فالله تعالى عندما أحل بالعذاب على أصحاب السبت، نجى الناهين عن المنكر، وهلكت الفرقة العاصية، وأهمل الله الفرقة السلبية وسكت عنها في القرآن.
- يبقى المؤمن متذكرًا لوظيفته في الأرض؛ وهي إقامة دين الله- تعالى.
- التحايل على ما شرعه الله يكون من صفات اليهود، فمن أحل ما حرمه الله بشتى طرق التحايل يكون من سماته يهوديًا والعياذ بالله.
- قله الحرام وكثرة الحلال في حياتنا، وفي هذه القصة المُحرم يومٌ واحد، أما الحلال فباقي أيام الأسبوع، وهذا الأمر قد يطبق علينا نحن أيضًا، فقد أمرنا الله بترك العمل في وقتٍ ليس بالكثير وهو وقت صلاة الجمعة؛ فقد قال الله جل في علاه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة:9].
إن هذه القصة تؤكد أهمية طاعة الله تعالى والامتثال لأوامره، وتحذّر من عواقب المعصية والعصيان، وأن الله تعالى يُمهل ولا يُهمل، وأن عذابه شديد، وأن التوبة إلى الله تعالى باب مفتوح لكل من أخطأ.
مصادر ومراجع:
- إسلام ويب: قصة أصحاب السبت.. عبر ودروس.
- الكلم الطيب: قصة أصحاب السبت.
- إبراهيم بن صالح العجلان: دروس من قصة أصحاب السبت.
- عبد الله الجوادي الطبري: قصة أصحاب السبت.
- مطيعة الطحان: قراءة في قصة أصحاب السبت والآيات القرآنية التي أوردت ذكرها.
- آلاء الورداني: قصة أصحاب السبت مختصرة.