ابنى يبلغ من العمر 19 عامًا، وهو إنسان مؤدب ومطيع ومسالم، لكنه متردد، ويفتقد إلى الحسم في كل مناحى حياته صغيرة أو كبيرة، حتى لو كان شراء قلم يحتاجه، وحتى كليته لم يستطع اختيارها بمفرده دوننا.
هل ابني هكذا مريض نفسيًا ويحتاج إلى علاج؟ أم أنه أمر عادي وربما تعالجه المسئوليات الحتمية في حياته بعد ذلك، مثل الخدمة العسكرية، والعمل، والزواج؟
لا يولد طفل بطبيعته متردد، قد يُكسب الآباء أبناءهم صفة التردد من عدة نواحٍ:
- إما أن الوالدين أو أحدهما شخص متردد، فينقل حيرته في اتخاذ القرارات دون وعي منه إلى أبنائه، لذا يجب مراجعة وضعنا كأهل في مسألة ترددنا من عدمه قبل أن نلقي بظلالها على أبنائنا.
- أو أن أحد الوالدين ذا شخصية قوية طاغية، فيكتسب الطفل التردد بسبب أن أحدًا ما دائمًا يقرر عنه أبسط حاجاته دون الرجوع إليه أو تخييره، ويتذرع الأهل في ذلك بأنهم يعرفون مصلحة الطفل، وفي حقيقة الأمر هم يلغون شخصيته دون وعي منهم بذلك!
- قد يكون السبب كامنًا في الحزم الزائد من الوالدين أو أحدهما، وكذا الدلال الزائد، فكلتا الطريقتين نتيجتهما واحدة، الأولى تلغي شخصية الطفل وتفقده ثقته بنفسه وقدراته فيحتار في أبسط قرارته كشراء قلم كما تفضلت في سؤالك وبينت، والثانية (وهي الدلال)، تنتج أيضًا طفلًا غير مسئول وغير مدرب على استعمال عقله في الاختيار بين البدائل المختلفة ونتفاجأ بأثر الدلال الزائد حينما يبدأ الطفل في الاستقلال شيئًا فشيئًا بدءًا من دخوله المدرسة. فيحتار في اختيار صداقاته ومواده الدراسية، وغيرهما من المستجدات من حوله.
- وقد يكون اضطرابًا نفسيًا، خصوصًا إذا كان التردد يعطل الشخص عن اتخاذ قرارات في شئونه البسيطة، وهنا نحتاج إلى زيارة طبيب نفسي وإجراء بعض الاختبارات الشخصية كاختبار مينسوتا المتعدد الأوجه للشخصية 2 MMPI، أو اختبار رورشاخ، أو اختبار التقييم الموضوعي؛ وبعض الأفراد يصابون بما يسمى متلازمة أبولومانيا، وحتى لا تتسرعون في الحكم عليكم التأكد من وجود هذه الأعراض أولًا:
- عدم ثقة المريض بقدرته على اتخاذ قرار دون دعم من الآخرين.
- شعور المصاب بالاستياء من خسارة أي شيء، لأن هذا يعني له اتخاذ قرارات جديدة تسبب له الحيرة والتوتر والقلق.
- تجد المصابون بهذه المتلازمة يقبلون الإهانة أحيانًا في العلاقة العاطفية، لعدم قدرتهم على اتخاذ قرار الانفصال.
- الشعور بمشكلة في التعبير عند الخلاف مع الآخرين لذا نجدهم يرتبكون من النقد أو الرفض.
- تجنب البقاء وحيدًا لاعتماده على الآخرين.
- تجنب تحمل المسئوليات الشخصية.
ننبه إلى أنه لا يكفي أبدًا وجود سمة أو سمتين من هذه السمات في ابنك ليُحكم عليه أنه مريض نفسيًا، بل يجب أن يشخصه طبيب بناء على الاختبارات سالفة الذكر، وإذا تم التشخيص فالأمر علاجه بسيط بإذن الله:
- عن طريق جلسات نفسية لجعل المريض أكثر نشاطًا واستقلالية.
- ومساعدته في تحديد هدفه في وقت قصير.
- وقد يحتاج إلى تناول بعض أدوية الاكتئاب بناء على وصف الطبيب.
الأهل الكرام:
أحيانًا نضر أبناءنا ونحسب أننا نقدم لهم النفع والفائدة؛ المتأمل لخطاب الله لأم موسى في سورة القصص، يجد الآية تكلمت عن الخوف مرتين، يقول المولى عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص: 7).
فكيف عالج سبحانه وتعالى خوف أم موسى؟!
الجواب: أمرها بإلقائه في اليم.
هكذا نوصي الأهل في التربية، أن يجنبوا الخوف، ويكونوا وسطًا بين الحزم والدلال، ويلقوا بأبنائهم في يم الحياة يجدفون، يلتقطون الخبرات وينضجون، ويتعلمون من أخطائهم وأخطاء غيرهم، بديلًا عن التربية بالتعليب، والمقصود بها إحضار الحلول الجاهزة خوفًا من تعرضهم للإحباط والفشل. يقول المثل: (لا تعطِني سمكة ولكن علمني كيف اصطاد).
كما نوصي الأهل بحسن التوكل على الله، فهو رب الأسباب وإذا أراد خيرًا بأبنائنا وهم بعيدون عنا رزقهم به. وإن كتب لهم ضرًا وهم تحت أعيننا لم ينفعهم وجودنا معهم، فرفقًا بهم ونحن نربيهم، وليعلم الأهل أن خير ما ينتج طفلًا قويمًا (الحوار) بلا شك، فذلك مما يقرب وجهات النظر، ويعزز ثقة الطفل بنفسه.
وبالرغم أننا نتكلم عن ابن راشد، بلغ مبلغ الرجال وما زال يعاني من التردد نجد أن فرصة تقويمه ما زالت سانحة، وذلك عن طريق تعزيز ثقته بنفسه وتجنب لومه ووصمه:
- فلا نوبخه ونربكه حين يتردد، ولا نشير بلفظ أو بحركة تهكمية تعني أنه لا رجاء منه.
- نتعلم التجاهل والتغافل ونتركه يواجه قراراته بنفسه؛ فجزء من تردده سببه خوفه من الحكم الدائم عليه بأنه لن يعرف، وأنه سيفشل كما تعودتم منه، فلنرفع أيدينا عنه بالكلية، فما عاد التدرج لمثل سنه نافعًا.
- ومما يعزز ثقته بنفسه إعطاؤه بعض مسئوليات، ودعم أدائه لها على أي نحو.
- أخذ رأيه في قرارات منزلية وتنفيذها.
- تشجيعه على مساعدة الآخرين.
- تهيئة فرص وخبرات حياتية مختلفة حتى يعيد اكتشاف مناحي التميز في شخصيته.
- مساعدته في تحديد أولوياته، وتأتي الامتحانات- على سبيل المثال- لتكسبه خبرة في وضع الجداول بمعاونتك في البداية حتى يتعلم الفرق بين: الواجب والضروري، والشيء المهم والشئ الأقل أهمية، ومن أين نبدأ وما الهدف الذي نريد أن نصل إليه وكيف نخطط للوصول إليه.
- تدريبه على التفكير الإيجابي، يقول عالم النفس ألفرد إدلر: كلنا لديه عقدة نقص ما، وما يميز شخصًا عن الآخر، تعامله مع عقد نقصه.
يأتي هنا دور التفكير الإيجابي في معالجة هذه العقد، فبدلًا من مخاطبة النفس بعجزها عن القيام ببعض المهام، نخاطبها خطابًا مختلفًا:
- بأن لديها مهمة وإنجاز لشيء لم يسبق لها فعله.
- وأننا بعون الله سنتحدى التحدي.
- ولن نستسلم للهواجس والأفكار المحبطة.
- وأن خبرات الفشل الماضية هي دواعم وأعمدة نجاح حالية، وأن كل ناجح نراه بأم أعيننا وراءه قصص فشل وتحديات كثيرة.
السائلة الكريمة:
نعرف أن أخطاء التربية واردة من الجميع، ولن يجدي لوم النفس نفعًا، ويكفينا أن الله يحاسبنا على النوايا فعفا الله عما سلف إن كان تردده هذا نتيجة خطأ في التربية ولنبدأ صفحة جديدة بإذن الله ننسى فيها آلام الطفولة، ونجدد العزم والنية على طرق كل سبيل نافع مقوم لسلوكه، وكما نقول لمن نسي التسمية في أول الطعام قل بسم الله أوله وآخره، نقول بسم الله أوله وآخره إن نسينا أو ضللنا الطريقة والبوصلة في رحلة التربية، كل شيء متدارك بعون الله وتوفيقه.
كما ننوه إلى ملمح أخير في سؤالك حتى يتداركه غيرك، فقد فات بالنسبة لابنك مقام الحديث في هذا الأمر: (وهو سعادة الأهل بالابن المطيع المسالم غير المسبب للمشاكل صغيرًا)، يعتبره الأهل دليل صحة ونجاح في التربية، وهو يحمل في طياته فرض سطوة وقسوة من الأهل أحيانًا، تجبر الصغير على الاستقامة قهرًا وخوفًا، ثم نجني عكس ما رأينا في مراحل عمرية متقدمة!
فالقصد القصد في التنشئة، والهوينى على فلذات أكبادنا، ولنتذكر أن الله جعلنا أمةً وسطًا، فليكن هذا دأبنا ودربنا دائمًا بين بين، لا إفراط ولا تفريط.