مهما كان الإنسان انطوائيًّا فإنه يسعى إلى تكوين علاقات مع الغير وإن كانت محدودة، لأنه من الصعب الانكفاء على الذات، لذا فإن فن التواصل مع الآخرين من المهارات المهمة في حياة البشر، حيث يساعد على النجاح في العمل والتعلم وحل المشكلات، وفَهم الآخرين وفهم أنفسنا، وبناء علاقات قوية ويعزز التعاون والتفاهم.
والتواصل غريزة أصيلة لدى الإنسان، وهو حالة من الفهم المُتبادل بين شخصين أو كيانين، يُعد أحدهما مُرسِلاً والآخر مُستقبِلاً مع تبادل الأدوار من حيث الإرسال والاستقبال من وقتٍ لآخر، وهو عملية يجري فيها تبادل المعلومات والخبرات، لذلك فإن الشخص الناجح في تواصله مع الناس يكون عادًة ناجحًا في العمل والحياة بشكلٍ عام.
مفهوم التواصل مع الآخرين
ومفهوم التواصل مع الآخرين يتلخص في القدرة على إقامة علاقة ناجحة مع الغير، ويكون ذلك من خلال أفضل السُّبل والوسائل لنقل المعلومات والمعاني والأحاسيس والآراء إلى أشخاص آخرين والتأثير في أفكارهم وإقناعهم بما نُريد، سواء كان ذلك بطريقة لغوية أو غير لغوية.
والتواصل نشاط إنساني يؤدي إلى التواصل بين البشر، والغرض منه تبادل المعلومات، وهو نشاط ذو طبيعة خاصة؛ لأنه متواصل غير منقطع، لا يمكن إعادته، كما لا يُمكن محوه أو عكسه، وهو يقتضي البلاغ وتوصيل ما نريده إلى الآخرين بصورة صحيحة، كما يعني الاتحاد والاتفاق والانسجام مع الآخرين، وهو عملية أخذ وعطاء للمعاني بين شخصين.
التواصل مع الآخرين في القرآن والسنة
ويُعد التواصل مع الآخرين بأمانة وصدق من الأخلاقيات التي حثَّ عليها الإسلام، حيث أكد ضرورة إحياء الروابط الإنسانية وزرع المحبة وتنميتها في النفوس، لتؤدي بدورها إلى تقوية التعاون في إطار العلاقات الطيبة البناءة، وبالتالي خَلق مجتمعات فاضلة متماسكة ومتمسكة بدينها وقيمها، وفي الوقت نفسه تخلو من المنازعة والمشاجرة.
ولمّا كان الإنسان اجتماعيا بالطبع فإنه أحوج ما يكون إلى معرفة سُبل التعامل والتعاون مع بني جنسه، وهذه المعونة المجتمعية تُذلل الصعاب أمام الفرد في تحقيق غاياته وأهدافه، التي لولاها لما استطاع أن يُحرّك ساكنًا.
ولقد اهتم القرآن الكريم بمهارة التواصل التي إذا ما تدبّر فيها الإنسان وطبقها كانت عونا له للتواصل مع الآخرين بفعالية، وخصوصا الإنسان التربوي، فكلما تحققت هذه الصفات في النفس بصورة أكبر استطاع الشخص الدخول إلى قلوب المخاطَبين وإيصال أفكاره بسهولة ومحبة، يقول سبحانه وتعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199]، وهي آية عدّها كثير من العلماء أنها من أمهات الآيات التي جمعت أُصول علم الأخلاق.
وأكد القرآن أن التواصل ضرورة فطرية، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمعزلٍ عن الآخرين، فقد خلق الله تعالى الإنسان وزَوجه، وجعل من مقتضى فطرته السكن والأنس بالآخر، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [الأعراف 189].
والمسلم مأمور بالتواصل مع غيره، بالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125].
ويأتي التواصل في إطار مفهوم الاختلاف كونه سنة كونية، ومشيئة ربانية، لا يتمكن أحد من تغييرها، قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود: 118].
بل إن هذا الاختلاف آية دالة على عظمة الله تعالى وتوحيده قال- جل وعلا-: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) [الروم: 22]، وأرشد القرآن إلى كيفية التعامل مع الاختلاف فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِل لتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].
واستخدم النبي- صلى الله عليه وسلم- اللغة في التواصل، وكان يقول: “وإن من البيان لسحرًا” وربما كلّم بعض الناس بلهجاتهم، واستخدم أسلوب الحوار، وهو من أنجح وسائل الاتصال، واستخدم الحركات المفهمة والإشارات الموضحة للمعاني، فقال: “بُعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه”.
واستخدم الثقافة الواسعة في التواصل والتأثير، فقال لعدي بن حاتم: “أنا أعلم بدينك منك”، وهذا يدل على فهم الآخرين وقدرته- صلى الله عليه وسلم- على التفاهم معهم، وكان إشراق وجهه وحُسن هيئته- صلى الله عليه وسلم- من أهم وسائل التواصل، وكان يُجبر من يراه على حُبّه وتصديقه كما قال الأعرابي الذي رآه: “هذا ليس بوجه كذاب”.
واستخدم النبي- صلى الله عليه وسلم- الابتسامة والملاطفة، قال جرير بن عبد الله: “ما رآني رسول الله إلا تبسم”، واستخدم حسن الإصغاء والاستماع كما فعل مع عيينة بن ربيعة، فما كان يُقاطع من يحادثه، وأكد أهمية الكلمة الطيبة في نجاح التواصل مع الغير، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صدقة” (البخاري).
وكان سريع التذكر دقيق الملاحظة، يلمس الجوانب الإيجابية، لذلك قال لأشج عبد قيس لما تأخر عن الوفد: “إن فيك خصلتين يحبهما الله: الرفق والأناة”، وكان مرنا لطيفًا لا ينزع يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، ولا يصرف وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرف، وانعكس كل ذلك على أصحابه، فعظمت في نفوسهم مشاعر الانتماء والمحبة والتواصل والشعور بالرضا والسعادة.
وسائل تربوية للتواصل
وهناك أساليب ووسائل تربوية وعملية لإتقان فن التواصل مع الآخرين تتلخص أبرزها في النقاط التالية:
- الرحمة: وهي بلسم العلاقات مع الآخرين، وروح الاتصال الصحيح، وقد منّ الله تعالى على النبي- صلى الله عليه وسلم- بهذه الصفة فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
- عدم السخرية: لأنها تُولّد الكراهية والبغضاء وتشتت الإنسان عن الفكرة الرئيسية ومن ثم تحول النقاش من حوار إلى جدال، وفي ذلك يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11)، فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ارتكبه، ولا لغير ذلك.
- التزام الصدق بالحديث والنقاش، والوضوح والشفافية في الوعود والأقوال، فهذه الصفات مطلوبة من أجل تحقيق تواصل فعال بين جميع الأطراف، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف: 2-3).
- عدم إصدار الأحكام على الآخرين بناءً على روايات وأحاديث، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6]، إذ إن قبول الروايات التي ربما تكون كاذبة يتولد عنها فعل تصيرون نادمين عليه، وذلك يدل على أنه تعالى إنما أوجب رد ما يجوز كونه كذبا لاحتمال كونه مفضياً إلى ما يضاد المصالح.
- الحوار بالتي هي أحسن، ولن يتحقق هذا الشرط إلا إذا كانت نية المتحاورين هي التوصل إلى الحق، وبالتالي يحرصون على حسن الاستماع وعدم مقاطعة بعضهم البعض، وقبول الرأي والرأي الآخر، وهذا توجيه الله تعالى للنبي- صلى الله عليه وسلم- في قوله: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل: 125].
- تقدير الشخص: وهو حاجة فطرية يبحث عنها البشر، كما يبحثون عن الطعام والشراب، فالناس يبحثون عمّن يُقدرّهم في هذه الحياة وإذا وجدوه تمسكوا به وأحبوه حبًا شديدًا، واستخدم النبي- صلى الله عليه وسلم- هذا الأسلوب في تربية أصحابه، والمطالع لسيرته الشريفة يجدها مفعمة بالتقدير المخلص، فهذا أبو بكر يسميه بالصديق، وعمر يسميه بالفاروق، وخالد يسميه سيف الله المسلول، وحمزة يسميه أسد الله، وعلي بن أبي طالب، يخبر عنه أنه من الرسول بمنزلة هارون من موسى، وهذا عثمان يقول عنه أنه تستحي منه الملائكة، وأبو عبيدة يسميه بأمين الأمة، وغيرهم.
- إظهار الاهتمام بالغير: فالناس تبحث عمن يهتم بهم ويتفقد أحوالهم ويسأل عليهم، خصوصًا في هذا الزمان الذي انشغل فيه كل امرئ بنفسه، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يهتم بأصحابه ويتفقد أحوالهم ويسأل عن غائبهم، ويزور مريضهم، وكان أبو بكر- رضي الله عنه- وهو خليفة المسلمين يذهب إلى بيت امرأة عجوز ليتفقد أحوالها وينظف لها بيتها ويحلب شاتها ثم ينصرف، وهكذا كان عمر يفعل رضي الله عنه.
- إظهار الحب: وهو من أهم الوسائل التي تقصر الطريق في التواصل مع الغير، ولا بد من أن يكون صادقًا ونابعًا من القلب.
- الحديث مع الغير في مجال عمله واهتمامه: فالإنسان يميل إلى مَن يُحاوره ويُحدّثه في الميدان الذي يتخصص فيه ويميل إليه.
- المدح: ويكون ذلك حينما يحسن الغير في أمر ما، فإن لذلك أثره في النّفس، ولكن دون مبالغة.
- تجنب تصيد عيوب الآخرين والانشغال بإصلاح عيوبنا.
- التواضع، فالناس تنفر ممن يستعلي عليهم.
- تعلم فن الإنصات، فالناس تُحب مَن يصغي لها.
- توسيع دائرة معارفنا وكسب أصدقاء جدد.
- مشاركة الناس في الأفراح والأتراح، لأنّ المشاركة في المناسبات المختلفة لها مكانتها في النفوس.
- الوضوح في التعامل، وذلك من القواعد المهمة في فن التواصل مع الغير.
- الابتعاد عن التلون والظهور بأكثر من وجه، فمهما بلغ نجاح الإنسان، سيأتي عليك يوم وتتكشف أقنِعته، ويصبح حينئذٍ كمن يبني بيتا يعلم أنه سيهدم.
- الحفاظ على المواعيد مع الناس واحترامها، وبالتالي سيُبادلون هذا الشخص الاحترام ذاته.
- عدم الإلحاح في طلب الحاجة، والتواصل مع مَن قضوا حاجتنا حتى لا نجعلهم يعتقدون أنّ الصداقة لهم لأجل مصلحة.
- اختيار الأوقات المناسبة للزيارة، ولا نُكثرها، ونحاول أن تكون بدعوة.
- الابتعاد عن التكلف في الكلام والتصرفات.
- تقليل المزاح، فهو ليس مقبولاً عند كل الناس، وقد يكون المزاح ثقيلاً فنفقد من خلاله من نُحب، وعلينا اختيار الوقت المناسب لذلك.
- انتقاء الكلمات، فكل مصطلح نجد له الكثير من المرادفات فعلينا اختيار أجملها، واختيار موضوعًا محببًا للحديث، وأن نبتعد عمّا يُنفّر الناس من المواضيع.
- مراعاة طبقة الصوت، إذ إن الصوت هو أداة الاتصال بين الأشخاص، فلا بد من أن يكون واضحا، لا عيب فيه، وبِدرجة تتناسب مع حجم المكان التي يكون فيها النقاش، ومراعاة سرعة الصوت بحيث يتناسب مع مستويات الطلبة وطبيعة المعلومة المقدمة.
- مراعاة الفروق الفردية، فهو من عوامل الاتصال الناجح ويُسمى بالتعرض الانتقائي، أي اتجاه الفرد لتلقي الرسائل التي تتفق مع رغباته ومعتقداته، وتوافق ما يتلقاه مع أفكاره ومعتقداته القائمة أصلا.
فالتّواصل مهارة حياتية أساسية في جميع مجالات الحياة، وخصوصا في المجال التربوي، لذا نجد القرآن يهتم بهذه المهارة، ويشير إليها في أكثر من موضع، وهذا يُمثل دافعا للمربي- على وجه الخصوص- ليَستزيد من فهم هذه المهارة وطرق اكتسابها، حتى يكون تواصله مع الآخرين ذو منفعة وفائدة، سيما أنّ هذه المهارة تُنمي القدرات وتطور الشخصية وتُصقل النّفس بالإنسانية واللباقة الاجتماعية، وتُفعّل الخير، وتُعزّز الروابط العائلية والاجتماعية والمهنية.
مصادر ومراجع:
- الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن، ص 366.
- الأصفهاني: تفسير الراغب الأصفهاني، ص 293.
- محمد علي الخولي: أساليب التدريس العامة، ص 45.
- العمري الأقطش: المرجع في تدريس التربية الإسلامية، ص 152.
- موقع أسلوب حياة: فن التواصل مع الآخر.
- محمد هشام أبو القمبز: فن التواصل والاتصال.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/163.
- الرازي: مفاتيح الغيب، ص 176.