لن يصلح آخر هذه الأمّة إلا بما صلح به أوّلها، والذي هو ثابت بالدلائل والبراهين، وخلّدته بطون الكتب التاريخية، حيث جاء صلاحها حينما طبّقت تعاليم القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة، فسادت وتقدمت على سائر الأمم.
ولقد تجلّى لنا مدى التزام النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام بالمنهج القرآني في كل أمورهم، فلم تكن حياتهم عشوائية، لأنّ القرآن رسم لهم فن التخطيط الجيّد والتدريب المنظّم قبل الإقبال على التنفيذ.
والتخطيط أداة لقراءة المشهد، ووضع الخطط الاستراتيجية المستقبلية، والإحاطة بكل أمر جديد يخدم هذا العلم، يقول هنري فايول، عالم فرنسي، إن: “التخطيط يشتمل على التنبؤ بالمستقبل وبما سيكون عليه مع الاستعداد لهذا المستقبل”، أو هو “عملية ذهنية منظمة لاختيار أفضل الوسائل الممكنة لتحقيق أهداف محدودة” (1).
ما أهمية فن التخطيط؟
اقتنع الإنسان منذ القدم بأهمية فن التخطيط وتنظيم شؤون حياته والمجموعات التي يعيش بينهم، والعمل على الحفاظ عليها، وتوفير سبل الحياة لها والدفاع عنها، وهو ما يجعل معنى التخطيط – كما عرفه مفكرون – أنه: “مرحلة التفكير الذهني المنظم في الأهداف المتوقع تنفيذها، وذلك بمراعاة الموارد المتاحة من أجل تحقيق أكبر منفعة بأقل تكلفة متوقعة، مع ربط كل هدف بمدة زمنية لتنفيذه”.
وهو المعنى الذي أكده “داترستون” بقوله: “إنه عملية ذهنية منظمة لاختيار أفضل الوسائل الممكنة لتحقيق أهداف محدودة” (2).
لذا لا أحد يُنكر أهمية التنظيم والتخطيط، التي قد تتمثل في العديد من الأمور مثل:
- تحديد الأهداف وطرق تحقيقها، ووضع التنبؤات المستقبلية والاحتمالات، وكلما كان رجل التخطيط واسع الأفق، كانت توقعاته أكثر شمولاً وأقرب إلى الواقع الفعلي.
- النظر في الموارد والاحتياجات والعمل على تحقيق التوازن بينهما، والاقتصاد في النفقات.
- تركيز الضوء على الأهداف، فالأهداف الواضحة المتناغمة تقود إلى اتجاه، والتخطيط يزيد الاتجاه وضوحا.
- يعمل التخطيط على إعلاء عنصر الرقابة والمتابعة المستمرة مع وضع معايير يُقاس عليها ما أُنجز.
- يُساعد التخطيط على تخطي الكثير من العقبات التي قد تُواجه الإنسان أو الجماعة.
- ويُساعد بشكل جيّد على استخدام أفضل الطُّرق بصورة صحيحة، لاستكشاف المخاطر والمشكلات ووضع الحلول المناسبة.
- يجعل الإنسان أو المؤسسة في جاهزية للخطوات الجديدة، والاستعداد لها بأفضل القرارات المناسبة (3).
فن التخطيط في القرآن والسنة
يحاول بعض الذين فُتنوا بالحضارة الغربية أو مِن أهلها أن يطمسوا الهوية الإسلامية، لكونها سبقت الحضارة الغربية وغيرها في حثّ وتعليم أتباعها كل ما يخص مناحي الحياة، ومنها فن التخطيط الاستراتيجي وتدريب الأفراد عليه.
ورغم أن مفهوم التخطيط الاستراتيجي، في شتى المجالات الحياتية والعسكرية والاقتصادية والسياسية وغيرها، لم يُستخدم إلا في القرن العشرين، فالقرآن وَضَّحه للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، فقد حثّ الله – عز وجل – نبيه وصحابته بالعمل والتخطيط والاستعداد لمواجهة الأمور المستقبلية.
وفي تأويل يُوسف – عليه السلام – لحلم الملك رؤية استراتيجية وتخطيط اقتصادي رائع أعلاه القرآن وذكره ليكون دستورًا لنا، فقال تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبَاً فَمَا حَصَدْتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 47- 49].
وفي قصة ذو القرنين واختياره أن يكون ردمًا لا سدًّا، نظرة استراتيجية لكونه أحصن وأمنع من السد.
بل اشتملت أحاديث النبي على كثيرٍ من التخطيط الاستراتيجي، فحينما عاد سعد بن أبي وقاص في مرضه، وطلب سعد أن يتصدّق بماله قال – صلى الله عليه وسلم – له: “أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، ولَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حتَّى ما تَجْعَلُ في فِي امْرَأَتِكَ” (البخاري).
نماذج من السيرة
حفلت السيرة النبوية المطهرة، بالكثير من المواقف التي استعان فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – بالتخطيط ووضع رؤية جيدة، وأكبر مثال على ذلك مدى دقة التخطيط في أثناء هجرته صلى الله عليه وسلم، وأصحابه إلى المدينة المنورة، حيث استعمل الإيحاء والتمويه والمراوغة من وقت نام على – رضى الله عنه – مكانه حتى وصوله إلى المدينة دون أن تهتدي إليه قريش.
وفي فتح مكة الذي أداره النبي باقتدارٍ، فرغم أنّ قريش نقضت عهدها وبدأ العد التنازلي للفتح، لم يُصرّح بذلك أو يخبر أحدًا، لكنه استعمل أدوات التمويه، فكان يسأل عن هوازن وطبيعة أرضها، والمسافة بينها وبين المدينة وكيفية الوصول إليها ليظن مَن يسمع أنه سيغزو هوازن.
بل منع خروج أي أحد من المدينة قبل تحرك الجيش، حتى لا يتسرّب الخبر، وحينما تحرك قصد فعلا طريق هوازن حتى إذا كانت نقطة معينة انحرف بالجيش تجاه مكة وفاجأ قريش وهو يُحيط بمكة، وكان يستعين بالله بالدعاء فقال: “اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها” (4).
أثر التخطيط في تقدم المجتمعات
وينعكس فن التخطيط والتنظيم إيجابًا على الشعوب والمجتمعات، فتعيش في رخاءٍ، وتقدم، وتماسك، ووحدة، وقوة سياسية، وعسكرية، واقتصادية، وكما أمرنا الله – سبحانه وتعالى – بأن نُخطط جيدا لآخرتنا، أمرنا أن نُخطط لحياتنا الدنيا، فقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77].
يقول الدكتور محسن عبدربه، أستاذ علم الاجتماع، إن: “التخطيط يُمكِّن الإنسان من رسم ملامح مستقبله، ليس فقط الأمور الجيدة منها، وإنما يُمكِّنه – أيضًا – من رسمها بشكل كامل وبما فيها من مخاطر ومشاكل، فضلاً عن أنّ التخطيط يُعد بمثابة الطريقة العقلانية التي تُساعد على صنع القرار ووضع الحلول اللازمة لحل المشكلات.. والتخطيط يمر بمراحل منها تحليل الوضع القائم، فتحديد الأهداف المنشودة، ثمّ تصميم وكتابة سيناريو للحياة” (5).
ويعود التخطيط على الشعوب والمجتمعات بآثار طيبة، منها: التحكم في الموارد المتاحة كافة، ومعرفة استخدامها على أمثل وجه، والقضاء على نِسَب الفشل العالية، التي قد تنتج عن العشوائية، والتي تسير بها بعض الدول، بل يعمد التخطيط إلى الربط بين المجالات المختلفة سواء التربوية أو الاجتماعية أو الاقتصادية وغيرها.
كما يعمد التخطيط إلى الحفاظ على رأس المال، وميزانية الشعوب، فلا تُهدر فيما لا طائل منه أو يعود بالنفع على الشعوب، ويعمد للعدالة الاجتماعية التي تحقق الأمن والأمان بين أفراد المجتمع، وينتشر الأمن بين الجميع (6).
آفات العشوائية وأثرها على الأمة
أَلِفَ بعض الأفراد العشوائية في التخطيط، كما أَلِفَتتها بعض الشعوب في الإدارة واستغلال الموارد والنفقات، فانتشر الفساد، وعمّت الفوضى، وغابت الأهداف.
يقول الدكتور عبد الرحمن بن سعيد الحازمي – الكاتب وعضو مجلس الإدارة في شركة مكة للإنشاء والتعمير-: “إن العشوائية في العمل تُسبب هدر المال العام، وكذلك فيها هدر للوقت وللجهود والإمكانات، وتكون بؤرة فساد داخل الإدارة وعدوى قد تنتقل للآخرين، وتصبح الإدارة والمجتمع ضعيف الأداء متهالك البنيان” (7).
فالعشوائية والافتقار إلى التخطيط، يتسبب في اضمحلال وضعف اقتصاد الدول، وانتشار الفساد فيها، والتخبط السياسي، والفشل العسكري، وغياب السيادة على الأرض، وتَحَكُّم الشعوب القوية فيها، والاعتماد على الاستيراد، والتبعية للغرب، وعدم الأخذ بأساليب النهوض والتقدم.
ويترتب على كل ما سبق، إغفال الجوانب الإنسانية؛ ما يُسبب فجوة اجتماعية كبيرة.
لماذا لا تتقدم الشعوب المسلمة؟
لقد اهتم علماء وأئمة في العصر الحديث بالإجابة عن هذا السؤال، فكتب الشيخ عبدالله النديم تحت عنوان “بِمَ تقدم الأوربيون وتأخَرنا والخلق واحد؟”، وألّف الأمير شكيب أرسلان مؤلفًا بعنوان “لماذا تأخَّر المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟”.
بل تساءل البعض “لماذا العرب يتصرفون مثل القُصَّر الذين يحتاجون دومًا إلى مَن يوجِّههم ويقودهم، وإن ولجوا المَسار الديمقراطى تكون ديمقراطيتهم مُشوَهة وموجَهة من الخارج وسرعان ما تنقلب إلى حُكمٍ استبدادي بواجهة ديمقراطية شكلية؟” (8).
فأسباب تأخر وتخلف الشعوب الإسلامية كثيرة، منها:
- غياب العدل والحريات، وانتشار الظلم، وقتل الكوادر العلمية.
- وغياب القانون، والتعدي على الدستور، وتسلط الحكام.
- وكذلك، البُعد عن منهج الإسلام، واللهث خلف الشعارات الغربية الزائفة.
- وعدم الأخذ بالعلم وأساليبه الحديثة، أو الأخذ بالأسس العلمية والمنهجية في إدارة شؤون البلاد.
- والعشوائية في العمل، وغياب العدالة الاجتماعية، وانتشار الفوقية بين الأفراد والكيانات.
- التنافسية المقيتة، التي ترتكز على المحسوبية والوساطة وانتشار الرشاوى وقتل الإبداع والاستماع للمنافقين وكبت العلماء والمصلحين.
- لكن يظل غياب التخطيط ومنهجية العمل وعشوائية القرار وغياب العدل من الأسباب القوية التي دفعت ببلاد المسلمين إلى التأخر والتخلف.
أخيرا
إنّ فن التخطيط من الأدوات المهمة للنهوض بالشعوب وحماية مقدراتها وسيادتها، والسبيل إلى الرخاء ومعرفة كل ما يخطط إليه الأعداء.
المصادر
- عبد القادر الهواري: الأنثروبولوجيا المستقبلية مدخل لدراسة الشعوب والجماعات، دار نشر ببلومانيا للنشر والطباعة والتوزيع، القاهرة، 2020، صـ69.
- فيصل فخري مراد: الإدارة والأسس والنظريات والوظائف، دار مجدلاوي، عمان الأردن، 1983، صـ85.
- محمود عساف: أصول الإدارة، مطبعة لطفي، القاهرة، 1982، صـ153. وانظر أهمية التخطيط:
- عثمان فوزي علي: التخطيط في ضوء القرآن الكريم، طـ1، دار غيداء للنشر والتوزيع، 2016.
- أحمد إبراهيم عصر: التخطيط في حياة الفرد قيمة لا غنى عنها، 19 يوليو 2014،
- دينا جابر: ما هي فوائد التخطيط، 23 يونيو 2019،
- عبد الرحمن بن سعيد الحازمي: إنجاز الأعمال بعشوائية وارتجال، 17 مارس 2019،
- لماذا يتعثر العرب ويتقدم الآخرون؟، 26 سبتمبر 2019،