إن فضل شهر رمضان الكريم على المسلمين كبير وعظيم، فهو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، والعتق والغفران، والصدقات والإحسان، وشهر تُفتح فيه أبواب الجنات، وتُضاعف فيه الحسنات، وتقال فيه العثرات، وتُجاب فيه الدعوات، وتُرفع فيه الدرجات، وتغفر فيه السيئات، ويجود الله فيه- سبحانه وتعالى- على عباده بأنواع الكرامات، ويجزل فيه لأوليائه العطيات.
بل هو شهر جعل الله- عز وجل- صيامه أحد أركان الإسلام، فصامه النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- وأمر الناس بصيامه، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن مَن صامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم.
فضل شهر رمضان
ويشمل فضل شهر رمضان الكريم العديد من أبواب الخير في الدنيا والآخرة، ومن ذلك:
أولًا: خصُّ الصائمين بباب في الجنة يُسمى الريان، ولا بد للصائم اجتناب أعمال السوء للفوز بهذه المكافأة، مصداقًا لِما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- عن النبي- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: “الصِّيَامُ جُنَّةٌ فلا يَرْفُثْ ولَا يَجْهلْ، وإنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ” (البخاري).
ثانيًا: فيه ليلة القدر، فقد فضّل الله- تعالى- شَهر رمضان بأن جعل فيه ليلة عظيمة، تُغفر فيها الذنوب والآثام، وتتضاعف فيها الأجور، مصداقًا لقول الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر: 1-3]، وقال- صلى الله عليه وسلم-: “مَن قامَ ليلةَ القَدرِ إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذَنبِهِ” (البخاري).
ثالثًا: شهر العتق من النار، والعتق من النار أسمى أمنيات المسلم، سيما أن العتق يعني اجتناب عذاب النار، ودخول الجنة، ومن فضل الله- تعالى – ورحمته بعباده أنه يصطفي منهم في كل ليلة من شهر رمضان عتقاء من النار، مصداقًا لِما رواه أبو أمامة الباهلي- رضي الله عنه- عن النبي- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: “إنَّ للَّهِ عندَ كلِّ فِطرٍ عتقاءَ وذلِك في كلِّ ليلةٍ” (ابن ماجه).
رابعًا: شهر نزول القرآن الكريم، من أعظم فضائل شهر رمضان المبارك أن الله- تعالى- اصطفاه من بين شهور العام وأنزل فيه القرآن الكريم، مصداقًا لقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185].
خامسًا: فيه صلاة التراويح، سيما أن الإجماع انعقد على سنيّة قيام ليالي رمضان، وقد أكّد الإمام النووي- رحمه الله- أن المقصود من القيام يتحقق في صلاة التراويح، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَن قامَ رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا، غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ مِن ذنبِهِ” (البخاري).
سادسًا: تُفتح أبواب الجنة فيه، وتُغلق أبواب النيران، وتصفّد الشياطين عند دخوله، قال- صلى الله عليه وسلم-: “إذا جاءَ رَمَضانُ فُتِّحَتْ أبْوابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبْوابُ النَّارِ، وصُفِّدَتِ الشَّياطِينُ” (البخاري).
سابعًا: شهر الجود في كل شيء، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي- عليه الصلاة والسلام- كان أجود ما يكون في شهر رمضان.
ثامنًا: رمضان من الأوقات التي يُستجاب فيها الدعاء، ويُكرم الله فيه عباده بالعديد من الكرامات، ويعطيهم المزيد من فضائل رحمته وعطاياه.
تاسعًا: العمرة في رمضان ثوابها مضاعف، وقد أخبر رسول الله أنّ العمرة في رمضان تعدل الحج في الأجر والثواب، فقال: “عُمرةٌ في رمضانَ تعدِلُ حَجَّةً” (ابن ماجه).
عاشرًا: الصدقة في رمضان أجرها عظيم، فقد كان رسول الله أجود الناس في رمضان.
أحد عشر: من فضائل الصيام أن الله- تعالى- قد أضافه إليه، فكل أعمال العباد لهم، إلا الصيام فهو لله وهو يجزي به.
اثنا عشر: يحصل الصائم على أجر الصبر على طاعة الله، والصبر في البعد عن المعصية، والصبر على ألم الجوع والعطش والكسل وضعف النفس.
فضل شهر رمضان.. مدرسة ربانية
ولا يقتصر فضل شهر رمضان المبارك على ما سبق من مكافآت ربانية في الدنيا والآخرة، بل يعد شهر القرآن مدرسة ربانية للتربية الإيمانية، والتي يمكن للمسلم أن يتعلم فيها ما يلي:
1- تهذيب النفس الأمارة بالسوء: وذلك بتقوى الله ومراقبته، والإيمان به، والإخلاص له، فنفس الصائم يجتمع لها كل ذلك مع صلاح القلب وما تبعه من الجوارح، فالإيمان حياة المؤمن التي لا حياة له إلا به، والقرآن شفاء نفسه وصدره، ونوره الذي يضيء طريقه، ويعرف به كيف يسلك وكيف يتصرف.
ولنا أن نتصور نفوسًا قد تربت طوال شهر كامل على مائدة الرحمن، ماذا عسى أن تكون إلا نفوسًا مطمئنة راضية مرضية، فالإيمان ثم القرآن هو منهج التربية المعتمد الذي صهر نفوس من سبقونا بالإيمان؛ فجاهدوا وضحوا وسادوا، وفازوا بسعادة الدارين.
2- تهذيب السلوك الإنساني: إن من أهم ما نتعلمه من مدرسة الصيام اغتنام الأوقات وتنظيمها ولزوم المسجد وترويض النفس على تقويم ما اعتادته؛ لتسير في رمضان على وفق ما شرع الله وأحبه رسوله، وليعتاد المؤمن على ذلك حتى يقضي نحبه ويلقى ربه.
3- إيقاظ الضمائر وترتيبها: فصاحب القلب الحي يغدو في رمضان ويروح، ويمسي ويصبح، وفي ذهنه مراقبته الخالق جل وعلا، وفي أعماقه حس ومحاسبته لدقات قلبه ونطق لسانه وسماع أذنه وحركة يده وسير قدمه، وإنما تأتي له كل ذلك؛ لأنه تجرد- بتحقيق الصيام- عن الأثرة والغش والهوى، وعرف يقينَا أن الصوم أكبر حافز لتحصيل معنى التقوى لله، وخير أداة من أدواتها وأحسن طريق موصل إليها، وماذا بعد أن يرفعها الله، ويجعلها هدف الصيام والقيام والدعاء في رمضان.
4- بناء الأسرة الرشيدة: فإننا لو تأملنا حديث الربيع بنت معوذ لأدركنا كيف كان للصيام دوره ليس في تربية الفرد فحسب، بل وفي تربية الأسرة التي تمثل اللبنة الأولى للمجتمع الإيماني، فهذه واحدة من الصحابيات الجليلات وهي الربيع بنت معوذ تقول- وهي تحكي ما كان عليه المسلمون يوم كان صيام يوم عاشوراء مفروضًا: “كنا نصوّم صبياننا- الصغار منهم- ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن- أي الصوف- فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناهم إياها حتى يكون عند الإفطار” (البخاري).
5- بعث الأخلاق في الأمة: إن حسن الخلق يبلغ به المؤمن درجة الصائم القائم ففي الحديث: “إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار”، فما يكون عليه الحال لو جمع للمسلم في رمضان إلى جانب الصيام والقيام حسن الخلق، ولقد كان من ثناء الله على نبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- من قبل ربه ومولاه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4].
6- نشود المجتمع الإيماني المتكامل: إن ما جاء به الشارع الحكيم من إخراج ما يسمى بصدقة الفطر عن كل فرد في الأمة (طهرة للصائم وطعمة للمساكين)، ومن جعل وجوبها على من يملك فقط قوت يومه؛ فيطعمها الفقير لمن كان على شاكلته ويلقاه وقد حمل كل منهما زكاته لصاحبه، لهو كفيل أن يقي المجتمع كله من براثن ما فعله الشح بمن كان قبلنا.
رمضان فرصة لنبذ الخلافات
ومن فضل شهر رمضان على المسلمين أنه فرصة كبيرة لنبذ الخلافات، فقلوب المؤمنين تتعلق دائمًا بطاعة الرحمن سبحانه، وتهفو لها فتسمو في فضاء القلوب التقية النقية المتعلقة بربها، فإذا عملت الطاعات وأخلصت لله ارتقت في سماء الربانية، فتصير الطاعة سهلة ميسورة على من سهل الله له: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 23)
وفي رمضان تسمو هذه النفوس والأرواح لما حباه الله من خصال طيبة تتقارب بالطاعات مع بعضها البعض، وتتنافر وتختلف إذا هبطت وبعدت عن مكارم الأخلاق.
وشهر رمضان له خصوصيات لدى كل مسلم يهفو قلبه لرضى الله فيسمو بهذا الرضى في ملكوت المسبحين فلا تراه إلا راكعًا، باكيًا، خاشعًا، متواضعًا لله رب العالمين.
غير أنّ الأمة ابتُليت ببعدها عن منهج ربها فترى البعض يبعد بقلبه عن روح الصيام فلا يأخذ منه إلا الاسم، لكنه تحت مُسمى “إني صائم” يرتكب منكر الاختلافات والمشاحنات مع الآخرين، ويتناسى قول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: “رُبّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع” (عن أبو هريرة، في صحيح الجامع).
وفي طبائع الناس اختلاف، فمنهم الهين اللين، السهل الرفيق، ومنها الصعب، ومنهم ما سوى ذلك، ومن الناس الطيب المؤمن، ومنهم الخبيث الكافر.
إن الاختلاف الإيجابي البناء المثبت معناه أن يسعى كل واحد لترويج مسلكه وإظهار صحته وصواب نظرته دون أن يحاول هدم مسالك الآخرين، أما الاختلاف السلبي هو محاولة كل طرف تخريب مسلك الآخر وهدمه، ومبعث ذلك الحقد والعداوة والضغينة.. وشهر رمضان يعمل على علاج مثل هذه السلبيات، قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ (آل عمران: ١٠٥).
فهيا نجعل من رمضان شهرًا شعاره المحبة والإخاء، والعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه؛ فنخرج من هذا الشهر بروح طيبة تسري في هذه الأمة، وتوحد الهدف، فتلتقي القلوب على روح السمو الأخلاقي.
انتصارات المسلمين في رمضان
ويمتد فضل شهر رمضان الكريم، ليشمل انتصارات المسلمين على الأعداء في كثير من المعارك التي خاضوها في هذا الشهر الذي انتقل فيه المسلمون من ضعف إلى قوة، ومن ذلٍّ إلى عزَّة، فهو حقًا شهر الانتصارات الكبيرة، التي غيرت وجه التاريخ وأجراه من جديد، بدءًا من غزوة بدر الكبرى وفتح مكة، ومرورًا بفتح الأندلس ومعركة بلاط الشهداء، وفتح عمورية، وحطين، وعين جالوت، وغيرها من الانتصارات والفتوحات.
ففي غزوة بدر التي وقعت في السابع عشر من رمضان في العام الثاني من الهجرة، تغير وضع المسلمين تمامًا بعد تحقيق النصر على الأعداء، واعتبر هذا النصر رسمًا لسياسة الأمة وتخطيطًا لمستقبلها، يقول ربنا سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123].
ثم كان فتح مكة الذي طال شوق المسلمين إليه، وانتظروا هذه اللحظة أن تظهر في الأفق؛ حيث سارع المسلمون بالتجهز للقاء الأخير مع كفار مكة، وخرج الرسول- صلى الله عليه وسلم- وجيش المؤمنين من المدينة المنورة قاصدًا مكة في 10 رمضان سنة 8هـ، وفتحها في 21 رمضان.
لقد كان فتح مكة فتحًا مبينًا، فأعز الله به جند الإسلام، وردّ لهم اعتبارهم، ورفع به كرامتهم ورؤوسهم، فهو الفتح الأعظم الذي قصم به الله سبحانه دولة الكفر، وأزال به شعائر الشرك ومعالم الطغيان، وأشرقت وجه الأرض مرة أخرى بالتوحيد والتحميد.
وشهد رمضان أبرز المعارك التي خاضها المسلمون بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حيث القادسية على الضفة الغربية لنهر الفرات التي وقعت في شعبان واستمرت إلى رمضان 16هـ (637م) بين المسلمين والفرس، وكان قائد المسلمين الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، فكانت من المعارك المهمة في تاريخ الصراع بين المسلمين والفرس؛ إذ فرَّ فيها رستم وعشرات الآلاف من جنوده إلى المدائن عاصمة الساسانيين، وغنم فيها المسلمون مغانم كثيرة، وكانت بوابة الفتوحات في الشرق الآسيوي.
ومن أعظم المعارك الإسلامية الرمضانية تلك التي تسببت فيها امرأة صرخت: “وامعتصماه!”؛ فحركت نخوة الخليفة العباسي المعتصم بالله؛ فحرك جيشًا عرمرمًا من قصر الخلافة بالعراق إلى مدينة عمورية- التي هي إحدى مدن الدولة البيزنطية- وحاصرها استجابة لنداء المرأة المسلمة التي استغاثت به، وكانت المعركة التي فُتحت فيها عمورية.
وفي رمضان من العام 223 هجرية، قاد الخليفة العباسي المعتصم بنفسه جيشًا كبيرًا لفتح عمورية بعد رسالته النفسية التي هزت كيان القائد الروماني، حيث اقتحم المعتصم بالله العباسي حصون عمورية في مائة وخمسين ألفًا من جنوده ليجعل من غزوته غرة في جبين الدهر.
ثم كانت المعركة التي أنقذت الإسلام والمسلمين، تلك المعركة التي قامت أمة الإسلام بعدها من غفلتها واختلافها، وقامت تحت قيادة واحدة، هذه المعركة هي معركة عين جالوت في 25 رمضان 658هـ (3 سبتمبر 1260م) واحدة من أكثر المعارك حسمًا في التاريخ، أنقذت العالم الإسلامي من خطر داهم لم يواجَه بمثله من قَبْل، وأنقذت حضارته من الضياع والانهيار، وحمت العالم الأوروبي أيضًا من شر لم يكن لأحد من ملوك أوروبا وقتئذٍ أن يدفعه.
أخيرًا
فإن فضل شهر رمضان الكريم كبير، ويكفي أنه فُضلت به أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- وفيه تُضاعف الأعمال، وإنه من الضروري التعرف إلى هذا الفضل لإنزال هذا الشهر منزلته التي يستحقها، وحتى يغتنمه المسلمون ويستفيدوا من عطاياه الربانية، ويفتحون فيه صفحة جديدة ناصعة البياض، يسطر فيها الخير والطاعة، وتنمحي منها الأخطاء والعثرات.
المصادر والمراجع:
- ما هي فضائل شهر رمضان.
- من فضـائل شهر رمـضان .
- فضل شهر رمضان المبارك .