اختار الله – تبارك وتعالى- رجالًا لصحبة النبي – صلى الله عليه وسلم- فكانوا خير عون له في المنشط والمكره وفي السراء والضراء، منهم فضالة بن عبيد الله – رضي الله عنه- الذي لزم الرسول في جميع الغزوات والمواقف، فكان خير سند ومعين.
ويرى الدكتور مصطفى رجب في دراسته التي تناولت المدرسة التربوية لهذا الصحابي الجليل، أنّه يجب على المسلم التأدب مع جميع الصحابة، فإن الله سبحانه وتعالى اختارهم لصحبة نبيه، ونقل رسالته لمَن بعدهم من الأجيال المسلمة، وأنّ إلحاق العيب أو النقص بهم، فيه غمز في الشريعة عمومًا، لأنهم كانوا أوعية نقلها.
من هو فضالة بن عبيد؟
هو أبو محمد فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس بن صهيب بن أصرم ابن جحجبى الأنصاري الأوسي، شهد بيعة الرضوان، وشهد أُحدًا والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ثم خرج بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى الشام فسكنها، وتُوفّي بها سنة تسع وخمسين من الهجرة.
كما شهد فضالة فتح مصر، وشارك فيها مع الفاتحين، وأقام فيها مدة، وأوردت إلينا كُتُب السيرة والسُّنة أنه تولى القضاء والبحر في مصر لمعاوية بعض الوقت، وروى عنه من أهلها أبو خراش الصحابي، والهيثم بن شفي، وعبد الرحمن بن جحوم وغيرهم.
ولما استقر المقام لفضالة في بلاد الشام ذاع صيته بها، فقد رووا أن الصحابي الجليل أبا الدرداء كان قاضيًا على دمشق أيام معاوية، فلما احتضر عاده معاوية، فسأله عمَّن يُرشّحه لتولي القضاء بعده، فقال: فضالة، فلما تُوفي أبو الدرداء، قال معاوية لفضالة: إني قد وليتك القضاء، فحاول فضالة أن يعتذر، فقال له معاوية: “والله ما حابيتك بها، ولكني استترت بك من النار”.
مدرسة فضالة بن عبيد التربوية
كان الصحابي الجليل فضالة بن عبيد واحدًا من أولئك الصحابة الذين اعتنوا كل العناية بالفقه والتعلم، فكان يداوم على حضور مجالس النبوة، ويشارك في الغزوات، ويناقش غيره من الصحابة فيما سمعوا- في غيبته- من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
وكان يجمع إلى التفقه والعلم، قوة الشخصية والحزم والشجاعة والورع والتقوى، ولكن تلك الصفات اجتمعت في كثيرين غيره من الصحابة، فماذا تميز به من بينهم؟
في رأينا أنه تميز بصفة المعلم المربّي الذي يحرص على إبلاغ العلم لغيره، والحث على العمل به. وأدلّتنا على ذلك كثيرة، منها:
- أننا تتبعنا مروياته في كتب السنة فوجدنا يغلب عليها الطابع العملي. فهو من الذين نقلوا عن النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم- السُّنة العملية، أي أفعال النبي – صلى الله عليه وسلم- التي شاهدها فضالة.
- أن كثيرًا من الأحاديث التي رواها أو رُويت عنه كانت ذات صبغة تعليمية. فكثير منها يبدأ بقول أحد تلاميذه: سألنا فضالة عن كذا وكذا، فقال: كذا وكذا.
- أن سلوكه – في بعض أحاديثه- كان سلوكا عمليا، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن ثمامة بن شفي حدثه قال: كنا مع فضالة بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره، فسوّي، ثم قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يأمر بتسويتها. والنسائي في سننه أن ثمامة بن شفي حدثه قال: كنا مع فضالة بأرض الروم، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يأمر بتسويتها.
- ومن مواقف فضالة التربوية ما رواه الذهبي في سير أعلام النبلاء عن القاسم أبي عبد الرحمن قال: غزونا مع فضالة – ولم يغز فضالة في البر غيرها- فبينما نحن نسرع في السير، وهو أمير الجيش، وكانت الولاة إذ ذاك يسمعون ممن استرعاهم الله عليه، فقال قائل: أيها الأمير، إن الناس قد تقطعوا، قف حتى يلحقوا بك. فوقف في مرج عليه قلعة، فإذا نحن برجل ذي شوارب، فأتينا به فضالة، فقلنا: إنه هبط من الحصن بلا عهد، فسأله فقال: إني البارحة أكلت الخنزير، وشربت الخمر، فأتاني في النوم رجلان فغسَلا بطني، وجاءتني امرأتان، فقالتا: أسلم، فأنا مسلم، فما كانت كلمته أسرع من أن رمينا بالزبار فأصابه، فدق عنقه، فقال فضالة: الله أكبر، عمل قليلا، وأجر كثيرا. فصلينا عليه، ثم دفناه (الزِّبار – بتشديد الزاي المكسورة -: نوع من الحجارة الصغيرة).
ففي هذه الرواية درسان تربويان كبيران، أولهما: ما أشار إليه راوي القصة من حسن قيادة فضالة وتبسطه في الحديث مع رجاله، واهتمامه بالاستماع إلى آرائهم والعمل بها إذا وافقت الصواب.
والدرس الثاني: هو سرعة بديهته وحسن تصرفه فور مصرع الرجل، فقد علق على إسلام الرجل الذي جاء سريعا وموته الذي أعقب إسلامه بلسانه.
- ومن مواقفه التربوية التي تكشف عن صفة بارزة ينبغي للمعلم والقاضي والحاكم أن يتحلى بها وهي: سعة الأفق، وحسن التصرف، ما روي عن ابن هشام الغساني قال: حدثني أبي عن جدي قال: وقعت من رجل مائة دينار، فنادى: من وجدها، فله عشرون دينارا، فأقبل الذي وجدها. فقال: هذا مالك، فأعطني الذي جعلت لي. فقال: كان مالي عشرين ومائة دينار، فاختصما إلى فضالة، فقال لصاحب المال: أليس كان مالك مائة وعشرين كما تذكر؟ قال: بلى، وقال للآخر: أنت وجدت مائة؟ قال: نعم، قال: فاحبسْها ولا تعطه، فليس هو بماله، حتى يجيء صاحبه.
مرويات فضالة بن عبيد
كان فضالة بن عبيد الله – رضي الله عنه- ممن يهتمون برواية السنة العملية مما شهده حال صحبته للنبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- وقد حفلت كتب السنة بنماذِج سلوكية للتربية العملية في السنة رواها فضالة، ومن ذلك:
ما أخرجه مسلم في صحيحه بسنده: أخبرني أبو هانئ الخولاني أنه سمع علي بن رباح اللخمي يقول: سمعت فضالة يقول: أتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: الذهب بالذهب وزنا بوزن.
وأخرج مسلم بسنده في صحيحه عن حنش الصنعاني عن فضالة، قال: كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا وزنا بوزن.
وما أخرجه الترمذي في سننه بسنده عن أبي هانئ الخولاني أن أبا علي عمرو بن مالك الجنبي أخبره عن فضالة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- كان إذا صلى بالناس، يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة، حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين أو مجانون، فإذا صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- انصرف إليهم، فقال: لو تعلمون ما لكم عند الله، لأحببتُم أن تزدادوا فاقة وحاجة. قال فضالة وأنا يومئذ مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم-.
كما أخرج الترمذي في سننه بسنده عن أبي هانئ الخولاني عن أبي علي الجنبي عن فضالة بن عبيد قال بينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قاعد إذ دخل رجل فصلى، فقال: اللهم اغفر لي وارحمني، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله، وصل علي، ثم ادعه، قال: ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله وصلى على النبي – صلى الله عليه وسلم- فقال النبي – صلى الله عليه وسلم-: أيها المصلي ادع تجب.
وقد أخرج النسائي في سننه عن مكحول عن ابن محيريز قال: سألت فضالة عن تعليق يد السارق في عنقه؟ قال: سنة. قطع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يد سارق، وعلق يده في عنقه.
لقد كان لذلك الصحابي الجليل كثير من التلاميذ الذين رووا عنه، منهم: حنش الصنعاني، وعبد الله ابن محيريز، وعبد الرحمن بن جبير، وعمرو بن مالك الجنبي، وعبد العزيز بن أبي الصعبة، والقاسم أبو عبد الرحمن، وعلي بن رباح، وميسَرة مولى فضالة.
أفكار فضالة التربوية
ولم يتوقف العطاء التربوي عن سيدنا فضالة بن عبيد الله – رضي الله عنه- عند حدود السلوك العملي، فما نقل إلينا من أقواله يؤكد ما ذهبنا إليه من انطباع شخصيته بطابع المعلم المربي، فقد رووا عنه أنه قال: لأن أعلم أن الله تقبل مني مثقال حبة، أحب إلي من الدنيا وما فيها، لأنه تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27).
وعندما سأله أحد تلاميذه أن يوصيه، قال له: خصال ينفعك الله بهن؛ إن استطعت أن تَعرف ولا تُعرف، فافعل، وإن استطعت أن تسمع ولا تكلم، فافعل، وإن استطعت أن تجلس ولا يجلس إليك، فافعل. وهذه الكلمات – على وجازتها- من جوانب التربية السلوكية، فهو يأمره بأن يطلب العلم، ويجالس العلماء، ويسمع منهم، دون أن يسعى إلى الشهرة وحب الظهور، ولا يتوهمن متوهم أن هذه الوصية تدعو إلى كتمان العلم وعدم نشره، كما يظهر من قوله: (وإن استطعت أن تسمع ولا تكلم) فحاشا لصحابي جليل مثل فضالة أن يذهب هذا المذهب، وهو يعلم أن الجزاء الشديد الذي توعد الله تعالى به الذين يكتمون ما آتاهم الله من البينات والهدى.
فهو لا يدعو تلميذه إلى العزلة أو كتمان العلم. فسلُوكه العملي – رضي الله عنه- عندما استعفى معاوية من القضاء فلم يجد أذنا صاغية، فقبله على غير رضا، يدل على أن العالم إذا أسند إليه منصب أوجب عليه تبليغ أحكام الله وما عنده من العلم أذعن واستجاب، سعيا لأن يكون من الأئمة الذين يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولكنه – رضي الله عنه- قصد بهذه الوصية أن يبث في نفس تلميذه الذي سأله الوصية، روح التواضع، وتجنب حب الظهور، والحرص على التقوى، واجتناب التسرع في بث العلم قبل العمل به.
ومن آراء فضالة التربوية المأثورة أيضا قوله: “ثلاث من الفواقر، إمام إن أحسنت، لم يشكر، وإن أسأت، لم يغفر، وجار إن رأى حسنة دفنها، وإن رأى سيئة أفشاها، وزوجة إن حضرت آذتك، وإن غبت خانتك، في نفسها وفي مالك”.
فهذه ثلاث آفات إذا أصابت مجتمعا تفككت أوصاله، وساء حاله، وفاضت به أوحَاله، فالزوجة سكن لزوجها يطمئن إليها، والجار سند لجاره يحفظ غيبته، ويرعى حرمته، ويقيل عثرته فإذا ساءت أحوال الزوجة والجار، فلنا أن نتصور كم تكون الحياة إذ ذاك قاسية على صاحبها، وتزداد قسوتها إذا كان إمامه (بمعنى رئيسه الأعلى) لا يرعى حقوق مرؤوسيه، فلا يعرف أقدارهم، ولا يقبل أعذارهم.
المصادر
- شمس الدين الذهبي: سير أعلام العلماء ص 3024.
- ابن عساكر: مختصر تاريخ دمشق 20/270.
- المقدسي: الاستبصار في نسب الصحابة من الأنصار ص 316.
- السخاوي: رجحان الكفة في بيان نبذة من أخبار أهل الصفة ص 288.