إنّ المسلم الحق له وقفات تربوية مع آيات الله الكونية، ومنها فصل الشتاء الذي يشهد على عظمة الله تعالى ورحمته بعباده حينما ينزل المطر على الأرض الجدباء فتنبت بالزرع ويعم الخير البلاد، بعد طول وقت جفّت فيه الأرض وتشققت وتقطعت عطشا.
والشّتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه، ولا يتعب من صيام نهاره القصير، حيث لا تكلفة تحل له من جوع ولا عطش، وفي ليله الطويل فرصة لمناجاة الخالق سبحانه وتعالى.
آداب وسنن في فصل الشتاء
ويشتمل فصل الشتاء على آداب وسنن دلّنا عليها النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- لنغتنم هذه النفحة الربانية المباركة، ومنها:
- المناجاة وقت نزول المطر: فهو وقت رحمة من الله على عباده، وتوسعة عليهم بأسباب الخير، وهو مظنة لإجابة الدعاء عنده، لذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول إذا رأى مطرًا: “اللهم صيبًا نافعًا” (مسلم).
- الدعاء عند هبوب الريح: فعن أبي بن كعب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “لا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ وَخَيْرِ مَا فِيهَا وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ” (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “لا تُسُبُّوا الرِّيحَ فَإِنَّهَا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ، وَلَكِنْ سَلُوا اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا” (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
- إذا كثر المطر وخيف منه الضرر: ففي هذه الحالة نتبع سُنّة النبي- صلى الله عليه وسلم- الذي كان يقول: “اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكامِ والظرابِ وبُطون الأودية، ومنابت الشجر” (متفق عليه).
- عند حدوث الرعد والبرق: فعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: “اللَّهُمَّ لا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ وَلا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ” (رواه أحمد والترمذي، وصححه الشيخ أحمد شاكر).
- الحذر من الشرك: قال الإمام النووي- رحمه الله-، إن من اعتقد أن الكوكب والنجم فاعل قدير مُنشئ للمطر كما كان يعتقد أهل الجاهلية؛ فهذا يكفر والعياذ بالله، وأما من اعتقد أن المطر من الله وفضله ورحمته وأن النوء ميقات له أو علامة فهذا وقع في محذور أو مكروه، وهناك بعض الأمور الشركية، وهي أن يدعو الأنواء بالسقيا، كأن يقول: يا نوء كذا اسقينا أو أغثنا أو ما شابه ذلك، فهذا شرك أكبر؛ لأنه دعا غير الله، قال الله تعالى: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) [يونس:106].
- المسح على الخفين والجوربين: وهي رخصة من الله تعالى، وقد تواترت بذلك السنة الصحيحة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال الإمام أحمد: ليس في قلبي مِنَ المَسْحِ شيء؛ فيه أربعون حديثًا عن النَّبي- صلى الله عليه وسلم-، وقال الحسن رحمه الله: روى أحاديث المسح سبعون رجلًا من الصحابة من فعل النبي- صلى الله عليه وسلم-، لكن يشترط للمسح لبسهما على طهارة، وسترهما لمحل الفرض، وطهارتهما من النجاسة وإباحتهما، وأن يكون المسح في المدة المحددة شرعًا؛ وهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر.
فوائد وتأملات تربوية في فصل الشتاء
وعلى المسلم أن يُطلق عنان فكره في اغتنام فصل الشتاء؛ ليخرج منه بأكبر المكاسب، ومنها:
- الإكثار من الصيام: فإن الصيام في الشتاء هو الغنيمة الباردة، كما جاء فى الحديث الذى رواه عامر بن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “الغنيمة الباردة الصوم فى الشتاء” (الترمذي وأحمد بإسناد صحيح). وكان أبو هريرة- رضي الله عنه- يقول: ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى فيقول: الصيام في الشتاء. قال الخطابي رحمه الله: الغنيمة الباردة يعنى السهلة.
- المحافظة على قيام الليل: فعلى المسلم أن يتأمل ويتفكر في ليالي الشتاء ويناجي ربه ويدعوه بالهداية والخير فيها، لينهج نهج نبيه- صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، الذين كانوا يفرحون بقدوم الشّتاء لاغتنام لياليه بالقيام ونهاره بالصيام، قال ابن مسعود- رضي الله عنه-: “مرحبا بالشتاء تتنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام”. وكان يحيى بن معاذ يقول: الليل طويل فلا تقصره بمنامك والإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك. وكان عبيد بن عمير إذا جاء الشتاء يقول: “يا أهل القرآن طال ليلكم فقوموا وقصر نهاركم فصوموا”.
- المحافظة على صلاة الفجر: ولأن ليل الشتاء طويل، فالإنسان ينام فيه وقتًا كافيًا، ثم ينهض لصلاة الفجر نشيطًا، يقول النبي- صلى الله عليه وسلم-“: “لن يَلِج النار أحد صلّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها” يعني: الفجر والعصر. (مسلم).، وقال: “من صلّى البردين دخل الجنة” (البخاري ومسلم).
- تحمل المكاره بإسباغ الوضوء واحتساب الأجر: فالماء في الشتاء تشتد برودته فيتهاون كثير من الناس عن إسباغ الوضوء ويغفلون عن خطورة ترك شيء من مواضع الوضوء بلا غسل، فقد جاء الوعيد الشديد في ذلك، كما فى الحديث الصحيح: “وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ” (البخاري ومسلم)، أما من أسبغ وضوءه فليبشر بالخير الكثير، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟” قالوا: بلى يا رسول الله، قال: “إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخُطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط” (مسلم).
- تكبد مشاق الخروج إلى المسجد في البرد: فليبشر بالخير الكثير والثواب العظيم من فعل ذلك، فعن بريدة- رضي الله عنه- عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة” (أبو داود).
- الشتاء وغنيمة التفكر: خصوصًا مع شدة البرد التي تذكر بعذاب جهنم، ففي الحديث الصحيح أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “- اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا، فَقالَتْ: يا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فأذِنَ لَهَا بنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ في الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ” (البخاري ومسلم).
- التذكير بنعمة اللباس الذي يقي الجسم برد الشتاء وشكرها: قال الله سبحانه تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) [النحل: 5].
- التذكير بنعمة البيوت التى جعلها الله سكنا وراحة لأهلها: قال الله- عز وجل-: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) [النحل: 80].
- نعمة نزول المطر والتفكر في ربوبية الله تعالى وقدرته: فهو سبحانه الذي ينزل الغيث رزقًا مقدرًا، يقول جل وعلا: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت: 39].
- الرعد والبرق والصواعق تذكر المؤمن بعظمة الله تعالى: قال سبحانه: {وهُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد: 12-13].
- في الشتاء مضاعفة الأجر: وذلك على العبادات الشاقة في البرد الشديد، ففي حديث أبي هريرة كما في صحيح مسلم يقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات»؟، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: “إسباغ الوضوء على المكاره…”.
- التذكير بالآخرة وما فيها من أهوال: فمن أعظم فضائل الشتاء التي لا يلتفت إليها الكثير أن زمهرير الشتاء وبرده القارص يذكر بزمهرير جهنم ويوجب الاستعاذة منها والعمل الصالح من أجل النجاة والسلامة.
- اشتداد البرد: وهو آية عجيبة من آياته جل وعلا؛ وهو جند من جنوده يسلطه على من شاء من خلقه، وهو يتفاوت في قوته، ويختلف في درجاته وحدته، فبعض الدول يصيبها البرد حتى تصل فيها درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر، وهناك ما هو أقل من ذلك، وأشد ما تجدون من البرد إنما هو ناتج عن نفس من أنفاس النار والعياذ بالله.
ولقد كان السلف الصالح أحرص الناس على أبواب الخير في فصول السنة كلها حيث كانوا يربطونها بالعبادة؛ فما من موسم إلا ولهم فيه عبادات وطاعات يحافظون عليها ويكثرون منها، ومنها فصل الشتاء. قال عمر- رضي الله عنه-: “الشتاء غنيمة العابدين”. وقال ابن مسعود- رضي الله عنه-: “مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام”. وقال ابن رجب- رحمه الله-: “الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فى بساتين الطاعات ويسرح في ميادين العبادات وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة”.
لذا، ينبغي علينا أن نغتنم الشتاء في التقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات والقربات، ففي هذا الفصل فرحٌ وغبطةٌ وهِمَّة ونشاط، زجِدٌّ واجتهاد فيما يقرِّب إلى الله.
مصادر ومراجع:
- رمضان صالح العجرمي: حال المؤمن في الشتاء.
- صالح الفوزان: الشتاء وما فيه من النِّعم.
- عنيزة عبدالمحسن القاضي: أحكام وسنن وعبر في الشتاء والربيع.
- طريق الإسلام: تأملات تربوية في الشتاء.
- عبد الطيار: الشتاء دروس وعبر.