الاستشارة
بالصدفة شاهدت عملًا تلفزيونيًا يناقش اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه، من وقتها وأنا أشعر بالندم الشديد لجهلي في التعامل مع ابني المفرط في الحركة، كم مرة ضربته وعاقبته بسبب (شقاوته) كما كنت أفهم سلوكه الزائد حين ذاك على أنه سوء تصرف وليس اضطرابا، الأدهى والأمر حينما كبر ودخل المدرسة وساءت علاماته الدراسية كثيرًا كنت أتهمه بأنه يمسك الموبايل ويلعب الألعاب الإلكترونية مما يشغله عن تحصيل العلوم.
ساءت علاقتي بابني كثيرًا، فهل من سبيل لتعويض جهلي وعدم وعيي بطبيعة مشكلته؟!
بحثت عن هذا طبيعة هذا المرض ووجدتني قد تهت أكثر من كثرة التفاصيل، فهل يمكنكم مساعدتي في التعرف على كيفية تشخيص ابني، وهل يمكن أن يعود طفلًا طبيعيًا، وهل تقصيري معه في الصغر سيؤدي إلى مضاعفات خطيرة لا قدر الله؟!
الرد
السائلة الكريمة:
من خلال اطلاعنا على ردود الفعل التي أحدثها هذا المسلسل، وصل إلينا نوعان من ردة الفعل، نوع من الأمهات تساهلن وشخصن أبناءهن بالاضطراب لمجرد كثرة حركة الأبناء وقلة تحصيله دراسيًا وكأنهم وجدوا شماعة يعلقون عليها أفعال الصبية دونما يتحركون عمليًا لطبيب يفحص ويشخص، وكأن المهم إطلاق الصفة عليهم.
النوع الآخر من الأهل حدث لهم وعي نسبي فهموا من خلاله أن هذه التصرفات الغريبة من الأبناء ليست نتاج سوء أدب أو قلة تربية، إنما ترجع لاضطراب لدى الأبناء، وهذه خطوة أولى للعلاج (الوعي).
لكن ما نخشاه أن تكون مثل هذه المسلسلات هي أداة وعي وتشخيص وعلاج، يكفي أن تكون أداة للوعي فقط، إنما التشخيص والعلاج، لا دورنا ولا دورك كأم فاضلة، الذي يشخص هذا الاضطراب هو الطبيبُ النفسي للأطفال، وليس أي تخصص آخر.
ويشترط أن يكون الطفل لم يتجاوز سن الثانية عشرة من عمره حتى يتم تشخيصه، فإذا لم يبلغ ابنك هذه السن فالمجال ما زال أمامك، نذهب للطبيب الذي يقوم بدوره بمجموعة من الفحوصات للطفل ولكم كأهل، كما يرسل استمارة لمدرسة الطفل حتى يتأكد من التشخيص.
قد يحتاج الطبيب من (ثلاث إلى أربع) جلسات حتى يستطيع الحكم على الطفل بأن لديه اضطراب تشتت الحركة وفرط الانتباه، إذًا التشخيص ليس بالأمر السهل، الذي يردده البعض هكذا، ويوصمون كل صاحب حركة زائدة بأن لديه هذا الاضطراب.
بعدما يفحص الطبيب الطفل يحدد درجة وشدة الإصابة، من خفيفة إلى متوسطة إلى شديدة، في الحالات الشديدة يحتاج الطفل إلى تدخل دوائي، بينما في الحالتين الخفيفة والمتوسطة يكمن دور الطبيب في تعليم الطفل طرق ووسائل تحسن من تعامل الطفل مع الاضطراب، فهو لا يشفى منه، لكنه يتعلم تقنيات تقلل من أعراضه وتساعده في النمو والتطور في مراحله المختلفة.
إذًا، كيف يشخص الطبيب الحالة؟
هناك ثلاثة محاور يتم التركيز عليها في التشخيص:
- التركيز، ويقصد به مدى تشتت الطفل و قدرته على الانتباه.
- الاندفاعية، ويقصد بها هل يتصرف الطفل ثم يفكر؟!
- النشاط، ونعني به كثرة الحركة والتململ.
يحتوي المحور الأول على تسع نقاط يتم الفحص والتشخيص من خلالها، في حال حصول الطفل على 6 درجات من 9، هذا مما يرشحه لأن يكون مصابًا باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه، ولا يكفي توافر ستة مظاهر للحكم عليه بالإصابة، بل يجب أن تكون هذه الشكوى ملاحظة في مكانين، كالبيت والمدرسة مثلًا، فربما يكون الطفل هادئًا في البيت، وليس لديه فرط حركة، بينما في المدرسة مع توافر عوامل بيئية ضاغطة تؤدي إلى تصرفه بشكل يشبه من لديه هذا الاضطراب بالفعل، فإذا كانت الشكوى من المدرسة فقط لا يتم التشخيص بالاضطراب وإن توافرت الأعراض.
كما يشترط أن تكون هذه الأعراض مؤثرة على تحصيل الطفل، وتطور نموه، أي تشكل عائقًا بالفعل، بمعنى قد تتواجد الأعراض بالفعل، لكن تحصيله الدراسي جيد، وعلاقته بالآخرين جيدة، هنا أيضًا لا يتم التشخيص بالاضطراب.
يذكر أنه تم تسجيل بعض الحالات لأطباء كان لديهم فرط حركة وتشتت انتباه، لكن معدل ذكائهم المرتفع، ساهم في عدم تأثرهم بنتائج الاضطراب؛ لذا قد يحتاج الطبيب لعمل اختبار ذكاء للطفل إذا شك في تأخر مستوى الطفل العقلي، مما يفسر تأخر نموه بسبب تدني مستوى ذكائه وليس بسبب الاضطراب.
إليك الـ9 نقاط التي يفحصها الطبيب لقياس مستوى التركيز لدى الطفل:
- لا يركز في التفاصيل المطلوبة منه في الواجبات والمشاريع.
- يصعب عليه الاستمرار في التركيز في المهام الموكلة إليه، حتى في النشاط واللعب.
- لا ينصت عند التحدث إليه.
- لا يتبع التعليمات ويتعذر عليه أداء الواجبات المدرسية والأعمال الروتينية.
- يصعب عليه تنظيم الأنشطة.
- يتجنب أداء المهام التي تتطلب منه تركيزًا ذهنيًا لفترة طويلة.
- يضيع وينسى أغراضه
- -يتشتت بسهولة.
- كثير النسيان رغم تكرار الأنشطة التي يفعلها.
أما ما يخص محور الحركة فيفحص الطبيب ستة مظاهر، إذا حصل على ثلاثة منها، عزز بذلك إصابته بفرط الحركة:
- يتململ كثيرًا، أي يقوم بتحريك يديه وقدميه.
- ينهض من مقعده بغير سبب.
- يقوم بالركض والتسلق في المكان والزمان غير المناسبين.
- يصعب عليه اللعب والاستمتاع بالأنشطة الترفيهية في هدوء.
- يتميز بالحركة والنشاط الدائمين كالدينمو.
- يتحدث بشكل زائد عن الحد.
أما ما يخص الاندفاعية فيفحص الطبيب ثلاثة مظاهر:
- يسارع بالإجابات قبل الانتهاء من الأسئلة.
- لديه صعوبة في الانتظار حتى يأتي دوره.
- يقاطع الآخرين.
بعد إجراء الفحص؛ قد يصنف الطفل بأن لديه تشتت الانتباه فقط، أو فرط حركة فقط، أو فرط حركة مع تشتت الانتباه، يعمل العلاج على تغيير السلوك وفهم الذات من خلال:-
- الانخراط في الحياة: فالتشخيص مهم للعلاج وليس لعزل الطفل عن أقرانه، فمع الأسف قد يقع المحيطون بالطفل في هذا الخطأ، خصوصًا في المدارس، فعزل الطفل يجعله أكثر عنادًا.
- تعاون الأسرة: فالطبيب يعطي الإرشادات، لكن المنفذ الحقيقي هي الأسرة، التي تطبق الإرشادات، وتتعامل مع الطفل برحمة وأمل في التحسن.
- تغيير المعتقدات: بالوعي والمعرفة عن طبيعة الاضطراب، وكيفية تأثر خلايا المخ وكيفية تهدئته، فوعي الطفل عن ذاته بالإضافة لوعي الأسرة، يساعد جدًا في العلاج.
- تعلم أساليب تخفيف الضغوط: لأن فرط الحركة وتشتت الانتباه ينتج عنه انزعاج المحيطين، فيجب بجانب تعديل سلوك الطفل أن نعلمه كيفية التعامل مع التعليقات السلبية من حوله.
- تعلم مهارة حل المشكلات: من لديه اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه ليس لديه مشكلة أساسية في التنظيم، لكن تدريبه على النظام وتعريفه بالأولويات يساعد في تنظيم مهاراته الموجودة لديه بالفعل والتي قد تدفن أو نظن أنه عديم المهارات بسبب الاضطراب.
- تعلم التواصل التوكيدي: بأن يعبر الطفل عن ما يزعجه، وما يحب، فيتعلم التعبير عن ذاته، فأحيانًا يتجاهل الأهل مشاعر واحتياجات الطفل فيسقطوه درجة أو سلمًا من كونه إنسانًا لديه مشاعر، ويحب ويكره.
- تدريب الطفل على التنظيم الذاتي: بمعنى أن يفكر مع نفسه بصوت عال، فعلى سبيل المثال عندما يحل مسألة جمع، ندربه على الحل هكذا: (يقول بصوت يسمع نفسه، هذه مسألة جمع، ويسمي الأرقام بصوت عال)، هذا يزيد من وعيه، ويخفف من اندفاعيته، فكثير من أخطاء من لديه هذا الاضطراب ليس عدم الفهم بل الاندفاعية، يقول كنت أظنها مسألة طرح، وكانت جمع!
- تأجيل الإشباع وردة الفعل: فيتعلم الصبر وعدم إعطاء ردة فعل حيال غضبه أو عدم تحقق ما يريد.
هذه الوسائل الثمانية تساعد في تعديل سلوك الطفل شريطة عدم التعجل، وإهمال تعليقات المحيطين، وإشعار الطفل بالقبول والدفء والحنان.
ولا تقتصر نظرتنا لهذا الطفل على مظاهر الاضطراب فقط، بل وجد أن الأطفال الذين لديهم فرط حركة، محبوبون في العائلة لما يتميزون به من طيبة وشهامة وحب لخدمة الآخرين، فقط قدم لهم حبًّا؛ تجدهم يهرولون لخدمتك فطاقتهم الحركية الزائدة وتلقيهم لنظرات الحب تعينهم على فعل ذلك
إذا نظرنا كتربويين- آباءً وأمهات، مدرسين، ومدربين، وشيوخًا- إلى هذا الطفل نظرة شاملة، نظرة واعية سنخرج أفضل ما فيه وهذا هو عين مسؤولياتنا المحاسبون عليها: “فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”.
السائلة الكريمة:
لا معنى للتأسف على ما فات- لقلة خبرتك بهذا الاضطراب- إلا أن تجدي وتجتهدي في احتواء الموقف والذهاب للطبيب للتشخيص في أسرع وقت، وإيقاف جميع أشكال العقاب، والتنبيه على المدرسة بطريقة التعامل المناسبة، فبعض الأهل يستسلمون لعقاب أبنائهم من فرط حرجهم من الشكاوى.
الطفل بحاجة إلى العلاج وليس العقاب!
وتأخير العلاج مع استمرار العقاب سيجعله يدخل في دائرة سيئي الخلق بالفعل، طالما أن من حوله لا يفهمونه، ويصمونه بسوء الأدب، فيصبح لسان حاله “سأكون سيء الأدب بالفعل حتى يرتاح الجميع”!
عفى الله عنا كأهل وكمربين حين نتصرف بجهالة أحيانًا، فقد نعذر بالجهل في السابق، أما بعدما علمنا فالتعلم عن هذا الأمر أصبح ضرورة وواجبًا.
فاللهم علمنا وفقهنا وعرفنا، اللهم رب لنا أبناءنا فإنا لا نحسن التربية.
أقرَّ اللهُ عينك بولدك، وأعانك على إخراج الكنوز المخفية في شخصه، ونفع به الأمة.