لا شكّ أنّ عمل المرأة الأول والأهم هو تربيّة الأجيال وإعدادها لقيادة الأمة في المستقل، ولأجل ذلك نَجِد أنّ الله- عز وجل- قد هيأ الأم بدنيًّا، ونفسيًّا، لتحمّل متاعب هذا الدور الذي لا يستطيع الأب أن ينازعها أو ينافسها فيه.
وهذه الرسالة الجليلة الملقاة على كاهل الأم يجب ألا يشغلها عنها شاغل مادي أو أدبي مهما كان؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يؤديها غيرها، فهي الحاضن الأول للأطفال والمعين الذي يستقون منه رحيق الحياة وسلوكها، وهو ما عبر عنه الشاعر أحمد شوقي بقوله:
الأمُ مدرسةٌ إذا أعددتها …… أعدت شعبا طيب الأعراق
لكن مع خروج المرأة إلى ميدان العمل، أثّر ذلك سلبًا- بنسبٍ متفاوتةٍ- على تربية الأبناء، وأصيبت المنظومة التربوية في الأسرة بخللٍ، وقد عجزت بعض الأمهات عن تحقيق التوازن بين العمل والأسرة، ما دفعهن للبحث عن حلول لهذه المشكلة.
موقف الإسلام من عمل المرأة
لا يمنع الإسلام عمل المرأة ولا تجارتها، فالله- جل وعلا- شَرَعَ للعباد العمل وأمرهم به، وإذا كان أهم أعمال النساء هي تربية الأجيال، فالأصل في عملهن الجواز، لعدم وجود دليل يمنع ذلك، لكن يشترط لذلك:
- ألا يؤدي هذا العمل إلى فتنة، بالاختلاط المحرم بالرجال، أو الخروج بالزينة الفاتنة، أو الخضوع بالقول مع الرجال، أو التعطر عند الخروج.
- ألا يُسبب ذلك تقصيرًا في حق الزوج والأولاد والوالدين.
- أن يكون العمل مباحًا في ذاته، فلا يجوز العمل في أماكن المحرمات، مثل: السينمات، والمسارح، وأماكن شرب الخمور.
- أن يتحقق بالعمل نفع فعلي لها أو لأمة الإسلام، لا أن يكون العمل مجرد إهلاك للوقت، وخروج للترويح والنزهة، كما هو حال الكثيرات ممن لا يخفن الله تعالى.
دوافع عمل المرأة
كثيرةٌ هي دوافع عمل المرأة التي تدفعها لمزاحمة الرجال في سوق العمل، وإن كان معظمها اقتصاديًّا واجتماعيًّا، ومن هذه الأسباب:
- تطوير وتحسين الوضع المعيشي للمرأة وأسرتها، وضمان الاستقلال المادي.
- تحقيق طموح المرأة في حصولها على قيمة اجتماعية رائعة ومرموقة.
- الاستقلالية الاقتصادية عن الزوج والأهل، فلا تبقى المرأة معتمدةً على زوجها أو على أهلها في مصروفها الشخصي.
زيادة فرص حصول المرأة على التعليم
لكن الإسلام حرص على أن يُكلف الأب أو الرجل برعاية زوجته أو ابنته فيعلمها التعليم الجيد، وينفق عليها ولا يحرمها، ويعلي شأنها وَسط أسرتها ومجتمعها، حتى إن بعض النساء كان يجلسن لتعليم الناس أمر دينهم، حصر الأسباب التي يمكن أن تدفع المرأة للخروج إلى ميادين العمل، ومنها:
- فقدان المرأة العائل الذي كان يرعاها وينفق عليها، وعدم وجود مَن يرعاها.
- ارتفاع التكلفة المعيشيّة على العديد من العوائل وضيق المعيشة، فلها أن تحسن الدخل مع الالتزام بالأعمال والشروط التي أوجبها الإسلام.
- مواجهة المشكلات الطارئة، والحد من الشعور بالعجز.
ولقد اعتنى الإسلام بالمرأة وأعلى من شأنها وقدّس مكانتها لكونها ركيزة أساسية في المجتمع الإسلامي، فعاشت في صدر الإسلام حياةً كريمةً يحفظها تعاليم القرآن الكريم وتكريم النبي- صلى الله عليه وسلم- لها عمليا، كما سار على دربه من جاء بعده من الصحابة والتابعين، حتى أصبح تميز المرأة واضحًا للعيان.
يقول الإمام حسن البنا: “إن الإسلام أكرم نظام جمع في تشريعه بين حرية المرأة وتقدير كرامتها وتقديس منزلتها، وبين المحافظة عليها وحمايتها من عدوان المعتدين وخداع الخادعين”.
على النقيض، نجد أنّ غير المسلمين في العصور الوسطى استعبدوا المرأة، ولا أدل على ذلك من المؤتمر الذي عُقد في فرنسا عام 673م لبحث أمر المرأة حول كونها إنسان من عدمه! وهل للمرأة روح أم أنها بلا روح، فإن كان لها روحٌ فما طبيعتها؟ أهي حيوانية أم إنسانية؟ حيث أقر المؤتمر أنّ لها روحًا لكن ليست كروح الرجل.
صعوبات تواجه الأم العاملة
تغفل بعض النساء العاملات قول الله- عز وجل-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فيواجهن صعوبات عديدة تجعلهن تحت ضغط مستمر، خصوصًا في حالة عدم تمكنهن من التوفيق بين العمل الذي يستغرق وقتًا، وبين أسرهن التي تحتاج إلى هذا الوقت، إضافة إلى حياتهن الخاصة وراحتهن، ومن هذه الصعوبات التي تواجه عمل المرأة خارج البيت:
- الإجهاد الوظيفي وقضاء وقت طويل بعيدًا عن الأسرة.
- عدم القدرة على التوازن بين العمل والمنزل.
- انتشار المخاطر التي تُهدّد سلامة النساء، مثل: الجريمة، والتحرّش، والاختطاف.
- العادات والتقاليد الشائعة، وبخاصة في المجتمعات الإسلامية، التي تستهجن تزاحم المرأة في مجالات العمل وسط الرجل.
- الشعور بالذنب الذي قد تشعر به الأم العاملة لعدم قضائها وقتًا كافيًا مع أولادها، بسبب البقاء في العمل لساعات طويلة.
- عدم الاستقرار الأسري بينها وبين زوجها سواء لكرهه عملها، أو لتطاولها عليه بسبب أنها تعمل، أو لتقصيرها في حق بيتها وأولادها.
- الاضطرار إلى الاعتماد على مربية الأطفال ما يُشكل مصدر قلق أساسي للعديد من الأمهات العاملات.
لذا، فإن الأصل في مهمة الأم هو البيت الذي يجب أن ترعاه وتحتضن أطفالها وتربيهم على الخلق والفضيلة، “وقد أفسحت الشريعة الإسلامية الطريق أمامها في الأعمال التي تناسب أنوثتها إذا أَذِنَ لها زوجها ما دامت تؤدي ذلك وهي محتفظة بأداء واجبها نحو بيتها وزوجها”. لأنها أهم العناصر الفاعلة في العملية التربوية، حيث يقع على عاتقها العبء الأكبر في إعداد وتكوين الأجيال الصاعدة.
انعكاسات عمل النساء على تربية الأطفال
كشفت دراسة شاملة امتدت لنحو 50 عامًا، أجراها باحثون من جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة الأمريكية، عن أنّ عمل المرأة يتسبب في فشل الأولاد البالغين في بناء علاقات دائمة مع الآخرين، كما يؤثر سلبًا في تربية الأبناء خلال سنوات عمرهم الأولى، ويشعرهم بالحرمان والشقاء.
ومن أبرز الآثار السلبية: فقدان الطفل الرعايةَ والحنان، وعدم وجود من يشكي له همومه، أو يوجه إلى الطريق الصحيح، ويبين له الصواب من الخطأ، وفي الوقت نفسه قد يؤدي غياب الأم كثيرًا عن الأبناء إلى ضعف بنيتهم في مرحلة الرضاعة، إضافة إلى المشكلات التي تحدث عند رجوع الأم مُتعبة من عملها، فتضرب الأبناء وتوبخهم على بعض ما فعلوه وهو ما يترك أثرًا نفسيًّا سيئًا لديهم.
ويكتسب الأبناء في غياب الأم العادات السيئة من بعض الخادمات أو الأصدقاء في الشارع، إذ لا يوجد رقيب عليهم، وبالتالي حرمان الأمة من المواطن الصالح النافع، وقد أكدت بعض الدراسات أن السلوك الجانح للطفل يعود إلى عددٍ من الأسباب من بينها ابتعاده عن أمه لمدة طويلة.
ومع أنّ هناك بعض الدراسات التي أثبتت أن غياب الأم في العمل ليست قاعدة ثابتة للتأثير سلبًا على الأطفال، بل قد ينتج عنها أبناء قادرين على تحمل المسؤولية والاعتماد على النفس وتعلم مهارات جديدة، لكن ذلك بالنسبة للأطفال البالغين أما الأطفال حتى سن المدرسة فهم في أشد الحاجة إلى الأم في البيت.
حلول مقترحة لعلاج المشكلة
لقد عرضنا مشكلة تأثير عمل المرأة على الأسرة والأبناء، والصعوبات التي تواجه النساء العاملات وأبرزها عدم القدرة على التوفيق وإحداث التوازن بين العمل والبيت، لذا نسوق بعض الحلول المقترحة للتقليل من أثر هذه المشكلة على الأسرة المسلمة، وهي كالتالي:
- لا بُد من أن تعيد المرأة العاملة النظر في خروجها إلى العمل، فإذا لم يكن ضروريًّا، فإن بيتها وأسرتها وأبناءها أهمّ.
- تخرج المرأة للعمل في حال كان المجتمع يحتاج إلى ذلك، في استكمال نقص ببعض المهن، مثل: التدريس، أو الطب، أو غيرها من الأعمال التي يتطلب تواجدها فيها، وفي الوقت ذاته تكون المرأة في حاجة مادية إلى هذا العمل.
- إذا لجأت المرأة لسوق العمل فلا بُد من أن يكون بالتوافق مع الزوج، حتى لا تنتج المشكلات بينها فتعصف بالأسرة كلها.
- أيضًا، تضع الأم العاملة أسرتها فوق كل اعتبار والبحث عن عمل- حتى ولو عن بعد- لتستطيع من خلاله التوازن بين العمل والبيت.
- تعويض الأوقات التي قد تغيب فيها الأم بأوقات أخرى مع أطفالها سواء في نهاية اليوم أو الأسبوع.
- الالتزام بالأخلاق، فهذه النصيحة الذهبية لتخطي مشكلات قد تواجهها المرأة في عملها أو طريقها.
- يجب أن تدرك الأم أن غيابها عن أطفالها ليس جسديًّا فحسب، فكم من امرأة لا تعمل وبعيدة عن أطفالها، لكن يجب أن تدعمهم نفسيًّا ومعنويًّا.
- يجب تنظيم أوقات تواجدها في البيت بينها وبين الأب، فكون الأطفال يحتاجون لوجود الأم فهم أيضا في حاجة ماسة لوجود الأب.
- من الممكن على الأم العاملة أن تتواصل بين الحين والآخر بأطفالها عبر الهاتف للاطمئنان عليهم والتواصل الوجداني بينهم.
- إذا كان الأطفال أكبر سنًّا يُمكن أن تتابع دروسهم التي أنجزوها وتتحدث معهم عن يومهم في المدرسة وتسمع لمشكلاتهم ومغامراتهم اليومية، حتى لا يشعر أي منهم بعدم اهتمام الأب أو الأم.
- من الأخطاء التي قد تقع فيها الأم العاملة هي تعويض غيابها لأبنائها بالهدايا أو تحقيق ما يطلبونه، فهذا مفسد لأخلاقهم وسلوكهم، لكن يجب تقديم الهدايا وقت المناسبات وللتحفيز (8).
المصادر والمراجع:
- عمل المـرأة .. حقيقته وضوابطه: – وانظر: لا دليل على منع المرأة من العمل متى استوفيت الشروط، 8 فبراير 2003،
- مليكة بن زيان: “عمل الزوجــة وانعكاساته على العلاقات الأسريــة”، جامعــة منتوري قسنطينة، الجزائر، 2014، صـ4.
- الحرب على المرأة المسلمة.. سيناريوهات الأعداء: 20 أغسطس 2021،
- تكريم المرأة في الإسلام.. مواقف من بيت النبوة: 3 أغسطس 2021،
- رأفت الجاولي: ما المشاكل التي تواجه المرأة العاملة؟،
- سيد أحمد غريب وآخرون: دراسات في علم الاجتماع العائلي، الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1995م، صـ 103.
- كيف يؤثر عمل المرأة أو بقاؤها في المنزل في مستقبل أطفالها؟: 19 يوليو 2017، – وأنظر أيضا
- كارين اليان: إلى كل أم عاملة…كيف تعوّضين غيابك عن أطفالك؟، 12 نوفمبر 2019،