بقدر أهمية العلماء والمصلحين وحاجة الأمة إليهم يتضح الخطر حين يغيب دورهم أو يُتعمد تغييبه؛ لأنّ الثغرة التي هُمْ عليها لا يسدُّها غيرهم، ومن هؤلاء الدكتور علي شهوان ابن محافظة الغربية الذي رسّخ قواعد دعوة الإسلام المعاصرة، انطلاقًا من الاعتزاز بقصص الرعيل الأول وثباتهم على الحق، حتى تصل الدعوة الصحيحة إلى الأجيال القادمة.
نشأة علي شهوان ومعرفة الإخوان
وُلِدَ الدكتور علي عبد الحليم إسماعيل شهوان المعروف باسم علي شهوان بمحافظة الشرقية في العاشر من رمضان أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، وحرص والده على حُسن تربيته وإلحاقه بمراحل التعليم المختلفة حتى التحق بكلية الطب جامعة عين شمس، لكنه اعتُقل وهو في الفرقة الرابعة عام 1954م، وحُرُم من التعليم حتى نهاية فترة محبسه في السبعينيات.
عاد “شهوان” مرة أخرى إلى مقاعد التعليم طالبًا وعمره قد قارب الأربعين عامًا، ومع ذلك فقد تخرج بترتيب الأول على دفعته، وانضم لكادر التدريس في الجامعة قِسم النساء والولادة، ثمّ عوّضه الله- عز وجل- خيرًا فأصبح أستاذًا فيها.
ولقد كان للتربية الإيمانية التي تربى عليها “شهوان” أثرًا في سلوكياته التي جعلته يُؤثر العمل الصامت عن الضجيج الذي لا يؤتي بثماره، فكان نموذجًا تربويًّا من الطراز الأول. والتحق بدعوة الإخوان في صدر شبابه ببداية مِحَن الجماعة أواخر الأربعينات، وحينما عادت الجماعة واختير المستشار الهضيبي مرشدًا سارع للارتباط بهم مرة أخرى.
ظهر تميزه العلمي والدعوي وهو طالب في كلية الطب بجامعة عين شمس فجذب الأنظار إليه، ولم يطل الأمر به حتى اعتقل بعد حادثة المنشية في 26 أكتوبر 1954م، وحكم عليه بالسجن 17 عامًا، كان فيها نعم الصابر المحتسب الذي لم يلن أو يؤيد أو يهادن أي ظالم، وكان بلسمًا لجميع إخوانه كبارًا كانوا أو صغارًا.
وقضى “شهوان” مُدة السجن كاملة، وحينما حل موعد خروجه؛ حُوّل للمعتقل وكتب على ملفه (يُرحّل إلى المعتقل) وظل به حتى مات عبد الناصر فأفرج عنه عام 1971م.
بصمات تربوية للدكتور علي شهوان
لم يكن الدكتور علي شهوان صاحب شهرة بين الناس، أو في وسائل الإعلام، لأنّه آثر العمل الصامت، فترك بصمات تربوية في نفوس الجميع.
فلنا أن نتصوّر طالبًا ينقطع عن الدراسة هذه الأعوام الطويلة ليعود إلى الكلية، فيجد زملاءه قد تخرجوا وصعدوا السلم الوظيفى حتى صار بعضهم مدرسين بالكلية وصار هو تلميذًا لهم، ومنهم من ترقّى فصار مديرًا عامًّا أو وكيل وزارة، لكنه لم يقم لذلك كله وزنا، محتسبا ما جرى له لله سبحانه ومتيقنًا بأن الله سيعوضه، ولم ييأس من الوصول إلى غايته، بل شقّ طريقه في ثقة ويقين أنّ الله لا يضيع أجر المحسنين.
وحينما ظهرت نتيجة امتحان البكالوريوس كان “شهوان” من أوائل دفعته وعُيّن معيدًا بالكلية، وظل يتدرج في سلك التدريس حتى وصل لأستاذ أمراض النساء والولادة بكلية الطب جامعة عين شمس.
وقد حكى مَن كان معه في سجن الواحات (رغم قسوة السجن) أنه كان لمأمور السجن فيلا واستراحة وسط السجن يعيش فيها مع أسرته، وفي إحدى الليالي شقت صرخات ابن المأمور الصغير في جوف الليل من الألم، وفي منتصف الليل، طرق أحد السجانة باب زنزانة الدكتور “شهوان”، طبيب الإخوان ورجاه أن يذهب معه إلى فيلا المأمور لحالة مرضية مستعجلة، ولما ذهب إلى سكن المأمور، وجد ابنه في حالة إعياء، وقد أشرف على الموت، ولاحظ أنه قد شرب دواء السيدة والدته خطأ، فأجرى له العلاج المطلوب دون النظر إلى وظيفة والده.
وكان لصدق نيته وحسن عمله أثره على المأمور الذي خفف عن المعتقلين الإخوان داخل السجون حتى شعر النظام فقرر نقل المأمور وترحيل الإخوان إلى سجن المحاريق.
ولقد عاش الدكتور علي، بين حفظ القرآن الكريم حتى ختمه، وبين رعايته الطبية لإخوانه، وعباداته من صيام وقيام وطاعة لله رب العالمين. يقول الدكتور محمود عزت: “تعرفت إليه في سجن قنا، وكنا نحن الاثنين طالبَيْن في كلية الطب جامعة عين شمس، وقد سبقني في السجن بعشر سنوات، وجدته قليل الكلام عظيم الفقه، وأول شيء تعلمته منه أن يكون قلبي موصولاً بالله تبارك وتعالى في كل وقت وفي كل مكان.. ثم أن يصدق عملي كلامي.. وحاولت أن أكون على الحال التي كان عليها، لكنه كان دائمًا يسبقني بأشواط”.
وفي السجن، لم تضعف عزيمته وصبر وثبت، ولم يقبل المساومة على الخروج ونيل الحرية، مقابل كلمات معدودات يكتبها ويرددها لسانه، فقد تربّى على الثبات في مدرسة الإخوان المسلمين، فكان صادقًا مع نفسه لا ينكث عهده أبدًا وهذا هو دأبه طول حياته.
ويحكي الدكتور أبو بكر الزغبي، أنه طلب شهادة مرضية من “شهوان” يقدمها لزوجة أخيه لتأجيل امتحانات الكلية، وبعد أن كتبها له علم أنّ زوجة أخيه مسافرة في بلد عربي في هذا الوقت، فطلب من تلميذه إعادة الشهادة له، وقال له: إن هذا تدليس فمعنى كتابتي شهادة لها هذا يعني أنها في مصر، وأردف قائلا: أنا عندي إنها ترسب في الامتحانات أفضل من أن تكذب كذبة واحدة، وعلّق على كلامه بقول الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْر وَأَبْقَى (17)} (الأعلى).
الطبيب الإنسان
رغم شهرة الدكتور علي شهوان العِلميّة، لم يتاجر بها يومًا، بل جعلها وسيلة لنيل رضى الله- سبحانه وتعالى- فلم يَرُدّ أي سائل أو مريض ولم يثقل أحدًا بالكشوف. وكان له عمليات غاية في الدقة تُكلّف المرضى مبالغ كبيرة، لكنه كان رحيمًا بالناس ولا يهتم بأتعاب العملية بقدر ما يهتم بالحالة المرضية.
ولم يتفوه الدكتور “شهوان” يومًا بمبلغ معين نظير أتعابه، بل كان يترك أهل المريض يقدرون ذلك ولا يراجعهم، بل كان لا يأخذ أتعابه إلا عند زيارة الحالة المرضية له في العيادة بعد أسبوع من الولادة لفك سلك الجرح.
وكان يقول للمريض: “ادفع ما تستطيع أن تدفعه”، وحجته في ذلك أنه لا يعلم ما حال هذا الشخص، وما الذي سيبيعه من أغراض ليأتي له بأتعاب هو غني عنها.
لذا، قال عنه الدكتور محمود عزت: “كنت أظن أني أعرف الناس به، وبعد وفاته طلب مِنِّي أولاده أن تبقى عيادته تعمل كما كانت كصدقة جارية وهم يتكفلون بالإيجار وغير ذلك، وبحثت عن من يقوم بهذا الدور الذي كان يقوم به الدكتور علي في عيادته، فقد كانت تخدم الناس في مصر وفي أنحاء العالم الإسلامي، حيث كان رُوّادها من أقاصي الصعيد، وكذلك من بلاد أخرى غير مصر، وكان الدكتور علي يُنفق على هذه العيادة مما كان يرزقه الله من العمليات الرائعة الناجحة الكبيرة التي كان يقوم بها، فاكتشفت أني لا أستطيع أن أجد من يقوم بهذا العمل، بل لا يستطيع ثلاثة ولا أربعة أطباء أن يقوموا مقامه، بل لا تستطيع الجمعية الطبية الإسلامية نفسها أن تسد هذه الثغرة، فأحسست أن هذا الرجل كان بألف رجل في كل شيء”.
وظل الدكتور علي على حاله هذا وما بينه وبين الله، وما بينه وبين الناس كنموذج تربوي نادر، حتى رحل بجسده دون روحه يوم الأربعاء 18 نوفمبر 2009م الموافق 1 ذو الحجة 1430هـ، وشيعت جنازته عقب صلاة ظهر الخميس من مسجد الصديق في منطقة الشيراتون شرق القاهرة، ودفن في مقابر العاشر من رمضان، وحضر جنازته الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان في ذلك الوقت وكثير من الإخوان المسلمين.
المصادر:
- أحمد أبو شادي: رحلتى مع الجماعة الصامدة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1998م.
- د. محمود عزت: الدكتور علي عبدالحليم شهوان، مجلة المجتمع الكويتية، 16 أبريل 2011م.
- على شهوان: صورة مثالية للطبيب الداعية: إخوان ويكي،
- أبو بكر الزغبي: رجل من طراز خاص … د.علي شهوان، 21 نوفمبر 2009م،